كورونا تجاوزت الحدود التنفسية

 

أ.د. فيصل رضوان | أستاذ وباحث التكنولوجيا الحيوية والسموم البحرية- جامعة سوهاج مصر والمعهد القومي للمحيطات بالولايات المتحدة الأمريكية

هناك اعتراف على نطاق واسع، الآن، بأن كورونا المستجد فيروس مراوغ، ولا يمكن التنبؤ له بأعراض محدده؛ وهو أكثر بكثير من كونه فيروس جهاز تنفسي بسيط ، حيث وُجد أن لديه القدرة على الهجوم من الرأس إلى أصابع القدم. ومن أكثر هذه الأعراض الخطيرة التي ترهق الأطباء وهم يسابقون الزمن لمساعدة مرضاهم على التنفس؛ هى السيطرة على التفاعلات الإلتهابية التي يثيرها الفيروس بأماكن متفرقة من الجسم؛ وحيث انها تتسبب في جلطات دموية قاتلة أيضا.

كورونا المستجد SARS Cov-2 هو الأُخ السابع، لكنه إحدى البذور السيئة لعائلة الفيروسات التاجية؛ أربعة منها تسبب نزلات البرد التي تنتشر بسهولة في كل شتاء، وخامسة كانت مسؤولة عن تفشي متلازمة الجهاز التنفسي الحادة الوخيمة (سارس) SARS، التي أودت بحياة 774 شخصًا في عام 2003، وسادسة تسببت فى متلازمة الجهاز التنفسي في الشرق الأوسط (ميرس) MERS، عام 2012 ، والتى أدت إلى مقتل 34٪؜ من الأشخاص الذين أصيبوا بها.

ربما يكمن خبث هذا الفيروس الجديد أنه ينتشر قبل أن يظهر على الناس أعراض المرض ، مما يجعل من الصعب السيطرة عليها ، خاصة بدون اختبارات واسعة النطاق ودقيقة. لا شك هو عدو خفى ومخادع، ويعد التباعد الاجتماعي هو الإجراء المضاد الوحيد الفعال معه.

رغم إصابة أكثر من أربعة مليون، ونفوق حوالى 300 آلاف شخص منذ انتشار العدوى، لازال الفيروس يأتى بكل جديد وفريد، بغض النظر عن قاعدة بيانات منظمة الصحة العالمية التى تسجل حتى الان أكثر من 14,600 ورقة بحثية على كوفيد-19. بينما لا زالت مؤسسات الصحة العامة الرئيسية في العالم ، بما في ذلك مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها CDC ، تغير باستمرار إرشاداتها لمواكبة التطورات الجديدة. وهنا تصف أنجيلا راسموسن Angela Rasmussen، خبيرة الفيروسات في مركز العدوى والمناعة بجامعة كولومبيا، الأمر المحير بقولها: “لا نعرف سبب وجود العديد من الأعراض المرضية— وخلاصة القول ، هذا أمر جديد للغاية لدرجة أننا لا نعرف الكثير عنه.”

أظهرت الخبرة السريرية لأكثر من خمسة أشهر في جميع أنحاء آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية أن هذا الفيروس ربما يتجاوز بكثير من غزوه للرئتين. ويقول ديفيد رايش، David Reich، رئيس مستشفى جبل سيناء فى نيويورك: “لم يكن أحد يتوقع مرضًا كهذا، قد تعدى نمط الالتهاب الرئوي وأمراض الجهاز التنفسي”. يهاجم كوفيد-19 القلب ، ويضعف عضلاته ويعطل إيقاعه الحرج Critical rhythm . يقوم الكورونا بتخريب فوضوي للكليتين، لدرجة أن بعض المستشفيات قد تنفذ من معدات غسيل الكلى لملاحقة الحالات. يزحف الكورونا عبر الجهاز العصبي ، حيث يدمر مراكز التذوق والشم، ويصل أحيانًا ليسكن بالمخ. يخلق هذا الفيروس جلطات دموية قد تقتل الأفراد بشكل مفاجئ، ويتسبب إلتهاب بالأوعية الدموية في جميع أنحاء الجسم، يلاحظ فى التهاب ملتحمة العين وأيضا طفح أرجواني على أصابع القدم بما يعرف بأصابع كوفيد covid toes.

يمكن لكورونا أن تبدأ بعدة أعراض أو لا شيء على الإطلاق ، ثم بعد أيام ، تخنق الهواء بالرئتين دون سابق إنذار. يلتقط هذا الفيروس المراوغ كبار السن والأشخاص الذين أضعفهم المرض السابق، وخصوصا البدين منهم، وبشكل غير متناسب. إنه يهاجم الرجال أكثر من النساء ، ولكن هناك تقارير مخيفة تقول أنه قد يتسبب فى مضاعفات خطيرة فى الحوامل من النساء المصابات به.

وكان يُعتقد أن الكورونا غالبا ما تترك الشباب والأطفال دون اذى بالغ، حتى وجد الأطباء الأسبوع الماضي أنها سببت تفاعل التهابي نادر مع مضاعفات قلبية بين الأطفال المصابين بالفيروس، تسببت في انخفاض ضغط الدم للغاية وتوسيع الأوعية الدموية مما أدى إلى قصور في القلب. فى يوم الجمعة الماضي ، أعلن حاكم ولاية نيويورك عن إصابة 73 طفلاً بمرض شديد في الولاية ، وأصبح صبي يبلغ من العمر 5 سنوات في مدينة نيويورك أول طفل يموت بسبب كورونا. توفى طفلان آخران حتى يوم السبت. لقد هزت هذه الأخبار الأطباء ، الذين شعروا أنهم ربما فهموا الأبعاد الكاملة للمرض لدى البالغين دون الأطفال. وكما يقول د. ديفيد رايش David Reich, “كنا جميعًا نعتقد أن هذا المرض يقتل كبار السن ، وليس الأطفال”. ولكن ربما كان هذا الاعتقاد خاطئ.

إن محاولة التحديد الدقيق للعامل المُمْرِض في خضم أزمة تفشي الوباء وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أمر محفوف بالصعوبات العملية والعلمية، بما فيها التسرع فى الأحكام والتسابق فى نشر معلومات غير مؤكده بشكل جيد. ربما الأمر سوف يستغرق سنوات حتى يتم فهم كيفية إتلاف المرض للأعضاء، وكيف تؤثر الأدوية فيه وتفاصيل مهمة عن هندسته الوراثية وتأثير النظم الغذائية وأنماط الحياة فى مسار هذا المرض.

يقول جيفري بارنز ، أُستاذ طب القلب والأوعية الدموية في جامعة ميشيجان: “هذا فيروس لم يكن موجودا حرفيا في البشر قبل ستة أشهر”. “كان علينا أن نتعلم بسرعة كيف يؤثر هذا الفيروس على جسم الإنسان وتحديد طرق معالجته في نطاق أسابيع. مع الأمراض الأخرى ، هذا الأمر يأخذ عقود “.

في الأيام الأولى من تفشي المرض ، تركزت معظم الجهود على الرئتين.حيث يصيب SARS CoV – 2 كلُ

من الجهاز التنفسي العلوي والسفلي ، ويستقر في نهاية المطاف في عمق الرئتين ، ويتسبب فى ملئ الأكياس الهوائية بالخلايا والسوائل التي تعيق تدفق الأكسجين.

لكن، الآن، العديد من العلماء أصبحوا يعتقدون أن معظم دمار المرض يأتي من سببين متشابكين. الأول هو الضرر الذي يلحقه الفيروس على الأوعية الدموية ، مما يؤدي إلى جلطات يمكن أن تتراوح من الميكروسكوبية إلى الحجم الكبير. ووجد أن بعض المرضى عانوا من السكتات الدماغية والانسداد الرئوي حيث تنفصل الجلطات وتنتقل إلى الدماغ والرئتين. وأظهرت دراسة في مجلة لانسيت الطبية البريطانية، أن هذا قد يكون بسبب استهداف الفيروس مباشرة للخلايا البطانية التي تبطن الأوعية الدموية.

والثاني هو رد فعل مبالغ فيه من الجهاز المناعي للجسم ، وهو عاصفة من “السيتوكينات” cytokine storm القاتلة وهى وسائط إلتهاب تفرزها خلايا مناعية للدفاع ، ولكن قد ينتهى الأمر أن تفتك بخلايا الجسم نفسه.

ويرى مانديب ميهرا Mandeep Mehra، أستاذ في كلية الطب بجامعة هارفارد أن هزيمة كوفيد-19 ستتطلب أكثر من العلاج المضاد للفيروسات: “ما يفعله هذا الفيروس هو أنه يبدأ كعدوى فيروسية ويصبح اضطرابًا عامًا في الجهاز المناعي والأوعية الدموية – وما يقتل هذا بالضبط”. “فرضيتنا هو انه يبدأ كفيروس تنفسي ويُقتل كفيروس القلب والأوعية الدموية.”

تطور تفكير المتخصصين في علاج الكلى على نفس المنوال. حيث يصف دانييل باتل Daniel Batlle، أستاذ في كلية الطب بجامعة نورث وسترن ، في البداية ، إنهم أرجعوا أمراض الكلى الشديدة، إلى الأضرار التي ربما تسببها أجهزة التنفس الصناعي وبعض الأدوية المعطاة لمرضى العناية المركزة. لكن سرعان ما لاحظوا تزايد نسب الدم والبروتينات فى البول، وتلف خلايا الكلى للمرضى حتى قبل أن يحتاجوا إلى العناية المركزة. : “لم يكن هناك شيء فريد في البداية”. لكن المعلومات الجديدة “تظهر أن هذا يتجاوز الإصابة الكلوية الحادة التي نراها عادةً”. يخترق كورونا المستجد الجسم عن طريق الالتصاق بمستقبل ، ACE2 ، الموجود في بعض الخلايا. لكن التركيبة الجزيئية للشوكات البارزة من هذا الفيروس مختلفة إلى حد ما ، مما سمح للفيروس بالالتصاق بإحكام أكثر من أقرانه. ونتيجة لذلك ، يلزم عدد أقل من جزيئات الفيروس لإصابة المضيف. وبمجرد دخول الفيروس ، يتكاثر الفيروس مسبباً كل هذه الفوضى الصحية. المعروف أن مستقبلات ACE2 ، التي وظيفتها المساعدة على تنظيم ضغط الدم ، متوفرة في على خلايا الرئتين والكلى والأمعاء – وهى الأعضاء التي تضررت بشدة من العامل الممرض في العديد من المرضى. وربما هذا قد يكون هو السبب الغير مباشر فى ظهور أعراض ارتفاع ضغط الدم — كواحد من أكثر الحالات الموجودة شيوعًا في الأشخاص الذين يصابون بالكوفيد -19. وقد تختلف هذه المستقبلات من شخص لآخر ، مما يؤدي إلى تكهنات بأن علم الوراثة قد يفسر فى المستقبل بعض التباين في الأعراض بين المصابين، وربما كيف يصاب بعض المرضى.

وفى النهاية، نخرج من أجواء العلوم إلى حقيقة بسيطة ونصيحة أمينة نوجهها إلى العموم من الشباب؛ وهى أن هذه العدوى ليست بسيطة؛ فإذا كنت ممن لا يهتمون بالأمر، ولا يلتزمون بالتباعد، وحدث (ولا نتمنى ذلك) أن نقلتها إلى أحبابك، ووالديك، ربما لا تظهر الأعراض كما تظن، وتأخذ الفرصة حتى تقرر الذهاب للطبيب. العدوى بكورونا تسبب الموت بشكل مفاجئ، وإذا تكرمت بإنذار، فإن أعراضها قد تختلف من شخص لآخر. لذا، لابد من الالتزام بالتباعد الاجتماعي خارج البيوت، والالتزام بالقناع لحمايتك وحماية الآخرين.

***

المراجع:

Credited References

It doesn’t just destroy your lung. WB.

https://bit.ly/2yQXCan

New ways the Coronavirus attacks. WB.

https://bit.ly/2YVJ7Ne

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى