جمال القصص القرآني.. عالمية المعنى وخلود العبرة

أ. سعيد مالك| معلم لغة عربية
يُعدّ القصص في القرآن الكريم من أروع مظاهر الإعجاز البياني والتربوي، فهو يجمع بين جمال اللغة وروعة الهدف، ويخاطب العقل والوجدان والضمير الإنساني في كل عصر ومكان. فالقصص القرآني ليس سردًا تاريخيًّا جامدًا، بل رسالة عالمية تتجاوز الزمان والمكان، لتُعلّم الإنسان كيف يعيش في ضوء الهداية الإلهية.قال تعالى:﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾ [يوسف: 3].فهذه الآية تُعلن أن الجمال في القصص القرآني مقصودٌ ومقصودٌ له؛ لأنه أحسن القصص في لفظه، ومعناه، وغايته.
أولًا: الغاية من القصص القرآني :
لم تأتِ قصص القرآن للتسلية أو المتعة، وإنما للتربية والتثبيت والهداية. يقول تعالى:﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ﴾ [يوسف: 111].فهي تحمل دروسًا أخلاقية وعقائدية، وتُظهر سنن الله في الكون والمجتمعات، وتغرس في النفس الإيمان والثقة بعدل الله. وقد لخّص الدكتور محمود خلف فرغل هذه الغاية بقوله:”القصص القرآني وسيلة تربوية تهدف إلى إصلاح الإنسان عقيدةً وسلوكًا عبر أحداثٍ واقعيةٍ مفعمةٍ بالعِبرة”( فرغل، القصص القرآني – الخصائص والغايات، مجلة جامعة الأزهر، 2023)
ثانيًا: الجمال الفني والبلاغي في القصص القرآني:
القصص القرآني لوحة فنية تجمع بين إيجاز التعبير وروعة التصوير. ففي قصة أصحاب الفيل، يرسم القرآن مشهدًا بصريًّا قويًّا يجمع بين الحركة والصوت والعقوبة الإلهية:﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ … ﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ [الفيل: 1–5].
وقد بيّنت دراسة بلاغية للدكتورة هبة إسماعيل إبراهيم (البلاغة الإعجازية في القصة القرآنية، مجلة جامعة المنيا، 2021) أن هذه السورة تقدم مثالًا متكاملًا للإيقاع التصويري والإيجاز الفني الذي يجعل القارئ يشاهد الحدث كأنه أمامه.
وفي قصة يوسف عليه السلام نجد النموذج الأجمل للسرد المتكامل من بداية الرؤيا إلى تحققها. فالقرآن يصوّر مشاعر الغيرة، والحزن، والصبر، والمغفرة في تسلسلٍ فنيٍّ بديع. قال تعالى:﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [يوسف: 92]،وهنا يظهر السامح المنتصر، في أوج البلاغة الإنسانية.
ثالثًا: عالمية الرسالة في القصص القرآني:
إن القصص القرآني ليس موجهًا للعرب وحدهم، بل للإنسان في كل مكان، لأنه يتناول قضايا العدل، والحرية، والكرامة، والإيمان، وهي قيم إنسانية خالدة.
قصة موسى وفرعون مثلًا ليست مجرد تاريخ، بل رمزٌ عالمي للصراع بين الحق والباطل، بين المستضعفين والطغاة، كما في قوله تعالى:﴿فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا﴾ [الإسراء: 103].ويرى الدكتور حيدر سليمان (القصص القرآني بناؤه الفني ومفهومه الدعوي، جامعة أم درمان، 2020) أن هذه القصص تحمل بعدًا عالميًّا لأنها “تضع الإنسان في مواجهةٍ مباشرةٍ مع ذاته ومع القيم التي تحكم العالم”.
ومن الجمال العالمي أيضًا قصة أصحاب الكهف التي تجسّد قيمة الإيمان في مواجهة الطغيان، وتبرز الشباب كنموذج للتغيير.﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: 13].
وقد ألهمت هذه القصة الأدب الإنساني في الشرق والغرب، حتى وُجدت أصداؤها في الروايات الأوروبية مثل “السبعة النيام” (Seven Sleepers)؛ مما يؤكد عمق تأثيرها الحضاري.
رابعًا: روعة التنوع والتصوير الفني :
يتميّز القصص القرآني بالتنوّع في الأسلوب، تبعًا للمقصد والمقام:
– أسلوب التشويق والتدرج كما في قصة يوسف، حيث تتصاعد الأحداث من الحلم إلى النصر.
– أسلوب الوعيد والعبرة كما في قصة عاد وثمود:﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت: 17].
– أسلوب الرحمة والرجاء كما في قصة يونس عليه السلام:﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87].
ويؤكد الباحث عبد الرحمن السلمي (بلاغة مشاهد القصّ في القرآن الكريم، مجلة كلية الآداب، 2022) أن هذا التنويع “يجعل القصة القرآنية نابضة بالحياة، تحيا في النفس مهما تغيّر الزمان”.
خامسًا: الأثر النفسي والتربوي للقصص:
القصة القرآنية تزرع في النفس الصبر والتفاؤل، وتُهذب السلوك، وتدعو إلى الإصلاح الاجتماعي. قصة أيوب عليه السلام مثال خالد على الصبر في البلاء:﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: 44].
وهكذا يجد القارئ في القصص القرآني عزاءً في المحن، وقدوةً في الشدائد، وقوةً في مواجهة الظلم. فهي تفتح أمام الإنسان باب الأمل مهما ضاق الأفق، وتُرسّخ مبدأ “إن مع العسر يسرا”.
سادسًا: القصة القرآنية في الوعي الإنساني الحديث:
لقد أصبحت القصص القرآنيّة جسرًا حضاريًّا بين الشرق والغرب. فدراسات الاستشراق الحديثة تبيّن أن بعض القيم التي ظهرت في الآداب العالمية مأخوذة من روح القصص القرآني، مثل فكرة التضحية في قصة إبراهيم، والإخلاص في قصة يوسف، والحرية في قصة موسى.
سابعًا: تكامل الفن والرسالة :
القصص القرآني يجمع بين الصدق التاريخي والسمو الأدبي، فلا هو أسطورة تُروى، ولا مجرد سجلّ للأحداث. بل هو نصٌّ معجز يصوغ الحقيقة في قالبٍ فنيٍّ راقٍ يلامس القلوب والعقول معًا. وهذا ما أكده الدكتور محمد مشرف خضر في كتابه بلاغة السرد القصصي في القرآن الكريم (دار العرب، 2019)
القصص القرآني مدرسة في الجمال الأدبي، لا ينفصل فيها الإبداع عن الهداية، ولا البلاغة عن العقيدة.” فالقصص القرآني منجم من الجمال الروحي والبياني، ومصدر عالمي للقيم الخالدة. فهو يخاطب الإنسان — أيًّا كان دينه أو لغته — بلغة الفطرة والعقل والعاطفة. فيه نداء للتفكّر، ودعوة إلى الإصلاح، وتذكير بسنن الله في الكون. ومن يتأمل قوله تعالى:(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ﴾ [يوسف: 111] يدرك أن الجمال في القرآن ليس جمال الحكاية فقط، بل جمال الحقيقة والغاية.
إنه الجمال الذي يوحّد القلوب في كل أرض، ويجعل القصص القرآني تراثًا إنسانيًّا خالدًا يُضيء دروب البشرية عبر الأزمان.




