بقلم: نهاية إسماعيل بادي – هيثم نافل والي
في أجواء عربية غاية في الكذب، والنفاق؛ يفوح منها التناقض البغيض بشكل لا يطاق، وأقل ما نصفها بأن المعجب بك هناك أول من تنتظر في الظهر طعنته! وإذا أردنا أن نصف أكثرهم إيماناً كما يدعي، نجدهيحمل صفات(خارون).. ذلك الشخص الخرافي في الأسطورة الإغريقية الذي يستقبل الموتى الواصلين إلى باب جهنم فيغبر بهم في قارب إلى العذاب الأبدي.. في حين تسحق الغيرة الأغلبية، ويذلهم اليأس من ذلك الواقع المريض الذي يحيون فيه بإرادة غير واعية تفتقد اليقظة في أغلب الأحيان، وكما لا يخفى لثمرة الجنون ضحايا! في هذه الأجواء يبصر النور، شعاع من الأمل، سيدة وقورة تسندها وتستقدمها الرأسمالية المسيطرة لتخدم مصالحهم كما كانوا يخططون ويتوهمون.. العمدة الذي سيغير قواعد لعبتهم التي بها يتباهون ويفتخرون..
فإليكم الحكاية من البداية: فاجئنا مسلسل (حضرة العمدة) الذي لم نعتد على هكذا عمل في زمننا الراهن، فأجبرنا للحديث عنه لروعته ودقة وجرأة معالجاته الاجتماعية حتى يمكننا وصفه بأنه بلا ريب عمل متكامل، ثقافي، تربوي من العيار الثقيل لِما يحمل من كم هائل من الرسائل لواقع كساه بغفلة رداء الخزيان والنسيان والناس منه وبأمره وبأمرهم جاهلون!
تهنا وضعنا من كثرة تناوله لمواضيع عدة قاهرة تربى الناس على أخطائها وعاشوا في ضلالها حتى جاء هذا العمل وظهر بذكاء قوة معالجاته الجذرية التي شعرنا وكأننا تحت رجة كهربائية كوننا نواجه مجتمع نخرته آفات العادات والتقاليد التي عفا الدهر عنها وغسل يده منها! لكننا مازلنا نمارسها مفتخرين بوجودها وهي سبب تخلفنا، جهلنا ومرضنا، فقرنا وتراجعنا الذي يسحبنا لمتاهات تشويه هوية الإنسان وجعله مسخاً كالخرافة.
اغتيال أحاسيس ذلك الكائن بطرق غير شرعية وهميةجعلته لا يشعر بفروق مظاهر الحياة أو حتى أن يتذوق طعمها، وإلا لماذا نحيا؟! فهل الحياة لا تعاش إلا من خلال المرور بطريق الموت؟ هكذا هم يفكرون وفي ذات الوقت ينزعون منهم رداء أخلاق الأجدادمن شهامة، نخوة، تسامح، وتضحية فأصبحنا شبه عارين منها ولا ينقصهم بعد سوى ريشة فوق رؤوسهم كيلا يتحركون! تضارب صارخ واضح في كل شيء فإلى أي منحدر نحن منزلقون؟
نعترف بأن بعضها دس لنا مع العسل، هضمناه فأمسى جزءاً منا، لا ينفصل عنا كالدماء التي تسري في عروقنا!
الصدق غلفه الكذب، طواه الزيف تحت ذريعة الخداع. الحب بات لا يختمر إلا مرادف لرمز الأنانية والمصالح الشخصية.والتضحية لا معنى لها سوى جمع المال وملئ الجيوب.. هذا هو واقعنا وما آلت إليه حياتنا تحت حماية وأنظار الفاسدين الذين ينشرون الغرور الأعمى على أنه الحقيقة الربانية التي لا نقاش فيها رغم جهلهم المطبق بعلم الحياة!
يمكننا بسهولة بعد تفكير عميق أن نطلق على المسلسل بأنه صرخة ألم ووجع ضد ما أصابنا من تدهور أرجعنا إلى عصور لا ننوي الحديث عنها كونها معتمة، داكنة لها مرارة الظلم!
مسلسل معالجته سهلة، وأدواته بسيطةغير معقدة،يفهمها من يحرث الأرض بمعوله، لا يعرف إلا ترابها وطينها لوقعها المؤثر في الروح، فتلهم وتجعل الحجر يئن ثم يتفاعل معه.تصريح صريح لثورة نفس الإنسان لتنصرها على ذاته المريضة بداء مستفحل نهش أخلاقه، ونخر عقله قبل قلبه وقاده لدهاليز مظلمة،حتى جاء ذلك العمل الذي يجعلنا نرفع القبعة له لينير دروب ذلك الكائن الذي عاش في حيز ضيق جداً من المعرفة، فلم ير نورها، ولم يلمس حروفها.
بطلة مسلسل (حضرة العمدة) الممثلة القدير الشابة التي نكن لأدوارها كل تقدير واحترام (روبي) أجادت وبرعت بتوصيل كل تلك الرسائل من خلال دورها فيه. نادت بأهداف سامية غاب عن الكثيرين منا نتيجة صخب مغريات الحياة. حثت على التغير وفعلته. سلطت الضوء على كواليس معاناة من لا صوت لهم!لم يناد أحدٌ من قبلها، بأن يمكن للمرأة العربية أن تكون رئيساً لدولة. فرضت العقاب على شيخ الدين وقتما يمارس التحرش ولحيته بطول يده! رفضت إجبار الفتيات على لبس الحجاب لغير المسلمات! رفعت شعار من يزرع يأكل، فخالفت قوانين الرأسمالية التي أتت بها فحاربوها خوفاً على مصالحهم من الانهيار نتيجة التنوير الذي كانت تقوم به بكل جرأة. ندموا لأنها كانت وطنية حتى القاع والنخاع! تحب أهلها وتربتها وماء وطنها وتعمل من أجلهم..
كيلا نبخص حق أحد الأبطال الذين لا يقلون أهمية في ظهور هذا المسلسل والذي سيكون أرشيف لا يستهان به. مدرسة تعلم المدارس الأخرى كأعمال الزمن الجميل من الدراما المصرية.
لسنا هنا بصدد الوقوف لتقيم أبطال هذا العمل الذي بقدر إظهار دور تلك المعالجة الدرامية الرائعة محاولين دق ناقوس الاهتمام والمتابعة لهكذا مسلسلات جادةلتغير راهن وضعنا والغوص بأغواره العميقة لأننا أصبحنا مهمشين، سطحيين نجري وراء غرائز التسلية والفكاهة التي لا تغني مجتمعاتنا، لا تقف عند محاولة تغير الإنسان بجرد ذاته والعودة لصوت ضميره الذي اغتاله بتطور واه، كاذب وغير حقيقي!
أصبحنا نتهافت لصنع الرذيلة من خلال احتيال الكذب على الصدق، التسابق في صعود الترند بمستواه الهابط والتباهي بتعميم الخصوصية التي كانت منذ وقت قريب سورنا المنيع نحو عالم صحي حر متفتح، يرفض الظلم وينهي على الاعتداء الذي بات وسيلة من وسائل الصعود على الاكتاف! كشف عن تفكك العلاقات البشرية التي لم يسبق لها مثيل وكأنها واقع مسلم به منذ القدم. توحدنا بقصر النظر، وأصبح التبجيل والتصفيق بما يطرح من مسلسلات تشبع رغباتنا وترضي غرائزنا في سوق ليس له ذيل ولا رأس تحت مسمى الفن التجاري، فجاء حضرة العمدة ليضع حداً لهذا التجاوز على القيمة النفيسة التي تدعى الإنسان وما يقدر على إبداعه، فظهر كالرعد الهادر، والبرق الناصع وهو ينشئ ثقافة جديدة لم نعتد عليها بعد.