الأيديولوجي والجمالي في مجموعة “الوجه والعجيزة”

د. خضر محجز | غزة – فلسطين

دراسة في ثلاثة نصوص قصصية للكاتب أحمد حسين

ملخص:

تحاول هذه الدراسة التطبيقية المزج بين منهجين، في تفسير النصوص الأدبية: منهج الدراسة الشكلانية البحتة، الذي انتشر طوال العقدين السابقين، ومناهج النقد التاريخي، التي بدأت الآن بالعودة تحت اسم النقد الثقافي، المهتم بتحليل المحتوى الأيديولوجي للنصوص. فالأيديولوجيا في نهاية المطاف هي شكل، إلى جانب كونها محتوى ـ فكل منظومة شكل ـ ونحن حين نتحدث عن علاقة الإدراك الجمالي بالأيديولوجيا، ندرك أننا بهذا إنما نتحدث عن عنصرين في عملية واحدة. “إن المفهوم السائد بين الناس عن الاستجابة الجمالية يمكن تحليله، بوصفه نوعاً خاصاً من التفاعل، بين عمليتي الاستجابة الجمالية والاستجابة الأيديولوجية”(1).

وهذه المادة إذ تحاول الاستفادة من أدوات مناهج الحداثة وما بعدها، إنما تهدف إلى الوصول إلى تحليل نصي أكثر شمولاً. فلقد علمنا بأن “دراسة الخطاب في حد ذاته، بدون معرفة نحو أي شيء يتطلع خارجه، هي في مثل عبثية أخلاقي، بعيداً عن الواقع الذي يوجد مثبتاً عليه والذي يحدده”(2).

مقدمة:

أحمد حسين كاتب قصصي، وشاعر وناقد أدبي وثقافي، لم تتوقف عند إنتاجاته الدراسات القليلة التي تناولت أدب الأرض المحتلة، لعدة أسباب ربما كان أهمها، أنه طائر يغرد خارج السرب: إذ نأى بنفسه عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي نعرف جميعاً أنه كان يمثل الآلة الإعلامية لفلسطينيي الأرض المحتلة، مفضلاً الانتماء إلى التيار القومي الناصري، الذي مثلته (حركة الأرض) في خمسينيات القرن المنصرم، قبل أن يصدر القرار الصهيوني بحظرها وسجن قادتها. ومن المعروف أن رموز حركة الأرض قد ظلوا يستثيرون بجذريتهم الوطنية كلاً من الحزب الشيوعي الإسرائيلي والدولة الصهيونية. ولعل هذا يفسر لماذا لا نجد دراسات ذات شأن تتناول كتابات هذا المبدع وأمثاله، خصوصاً وأن التغيير الذي طرأ على بنية المجتمع الفلسطيني في الدولة الصهيونية ـ المتمثل في صعود التيار الديني ـ لم يغير من علاقات الإنتاج الخاصة بأدوات الانتشار الأدبي والإعلامي؛ فلا يخفى استحالة تصور حدوث تصالح بين مقولات وطني متشدد كأحمد حسين ومقولات أي أيديولوجيا أممية. ومن هنا فالباحث يريد بهذه الدراسة أن يساهم في إلقاء الضوء على إبداع متميز ظلمته الآلة الأيديوإعلامية. 

وتفترض هذه الدراسة وجود فارق ـ يمكن ضبطه تطبيقياً ـ بين ما تقوله كلمات النص المطبوعة، وكلماته غير المطبوعة، مما يتخفى من مفاهيم ومعتقدات وراء أقنعة اللغة الظاهرة. وما ذاك إلا لأننا نعتقد أن على الناقد الذي يتناول النصوص التخييلية بالتحليل، ألا يذهل عن حقيقة أنه يواجه عالماً لغوياً: أي مجموعة من الحيل الرمزية، التي لا تعدو كونها تمثيلاً. وإذا كنا نعرف أن التمثيلات اللغوية إن هي إلا محاولة لخلق صورة نشأت مسبقاً في ذهن المبدع، قبل أن يكتبها على الورق؛ فلقد يمكننا تصور كم هي فعالة هذه الحيل، وما هو نوع الأغراض التي تتوخى تحقيقها(3)

إن على التحليل أن يتخيل مدى الانزياح، الذي أنشأته اللغة، بين كل من العالم الموضوعي المراد محاكاته، والصورة التخييلية التي نعيد تكوينها من الرموز الكتابية، التي أمامنا. ولئن كان من البديهي أن المؤلف هو من تسبب بكل هذه التشويهات؛ فلقد ندرك كم هو مجدٍ أن نضعه في بؤرة التحليل. لن نبحث تاريخ المؤلف المعلن، ولاوعيه الأيديولوجي ـ وإن كنا سنستعين بهاتين الأداتين أحياناً ـ وإنما سينصب جل اهتمامنا على محتويات لاشعوره، وتاريخه السري الذي لا يعرفه هو نفسه. فمن هنا انبثق عالم التمثيلات اللغوية، لا من أي مكان آخر.

أما منهج الدراسة فالمتوخى فيه أن يجمع بين مقولات العديد من نظريات ما بعد الحداثة، وأهمها في نظرنا ثلاث: النقد الثقافي، والنقد ما بعد الكولونيالي، والتاريخانية الجديدة. ولا جرم أن اعتقدنا أن اسم النقد الثقافي يمكن له أن يجمع بين كل هذه المقولات، بسبب تشابه الأطروحات واتفاق القائلين بها، بل صعوبة فرزهم وإدراجهم ضمن نظرية من هذه النظريات دون الأخرى. وعلى سبيل المثال يمكن التذكير بأن إدوارد سعيد، المعروف بريادته لنقد ما بعد الكولونيالية، كان أحد أهم محرري مجلة (النقد الثقافي) ـ التي أصدرتها جامعة مينيسوتا الأمريكية منذ العام 1985 ـ  إلى جانب كل من نعوم تشومسكي، وتيري إيجلتون، وجاياتري سبيفاك، ورايموند ويليامز، وأليس جاردين، وآخرين(4).

النص الأول: الشوط الرابع(5)

دراسة في علاقات القوة:

الحرية = الحياة. والقهر = الموت. ولا يضمن الحرية سوى القوة. هذه هي الثيمة الأساسية التي يدور حولها النص، من مبتدئه إلى منتهاه. وسنرى الآن كيف راودت هذه الفكرة الوسواسية، بإلحاح، لاشعور الراوي. 

“طيري يا حبيبتي… طيري. وطرتُ أنا. حقيقة طرت. وضحكتُ من الأشجار والحجارة من حولي، وقد دبّت فيها الحياة، وأخذت تتواثب مسرعة إلى أوكارها. وبدا لي أن أصرخ بها لأزيد من ذعرها، ولكنني لم أكن مستعدًا لأن أفلت، ولو للحظة، واحدة ألذ إحساس عرفته… الإحساس بأنني أطير. كل شيء يتحرك ما عداي. ومع ذلك فأنا وحدي الذي كنت أطير. لم يكن عليّ إلاّ أن أحفظ رجليّ، في وضع لا تصطدمان فيه مع البدّالتين، اللتين كانتا تقومان بحركة غير مرئية. وحتى هذا الجهد الصغير، فقد كانت تمتصه تلك الموهبة السحرية، التي كانت تحوّل الثقل نفسه إلى قوة دفع، ويصبح هو الآخر دفعًا جديدًا، يزيد من سرعة العجلات المجنونة، ويجعل الطريق المنحدر، الذي شقه الجيش البريطاني، أقصر ما كان في حياته. وانشقت عنه الأرض عند قمة المنحدر: بسكليت؟؟؟ يا ابـ…ن العرص!!(ص49)

الطيارة تطير إلى فوق. هكذا يقول منطق الأشياء في الواقع الدنيوي. لكن عندما تطير الطيارة إلى تحت، فنحن عندئذ في واقع تخييلي. ربما يستلهم أدوات الدنيا، أو بعضها، لكنه لا يزال محاولاً التعالي على سلطتها القاهرة. واللغة هنا أداة هذا التعالي. لكن اللغة، في النص الإبداعي، لا تتعالى على الواقع من تلقاء ذاتها، ولا بفعل العقل الواعي ـ خصوصاً في المفاصل الرئيسية ـ بل إنها، حين تفعل ذلك، تكون منطلقة “من أعماق اللاشعور، أو من مملكة الأمهات. بعبارة أخرى: كلما سادت القوةُ المبدعة؛ تحكم اللاشعور بالحياة الإنسانية وقولبها، من دون الإرادة الفاعلة؛ وعندئذ يلقي اللاشعور بالأنا الواعية إلى تيار الأعماق، بما هي ليست أكثر من مراقب للحوادث”(6). مفسحاً المجال أمام سيادة ثيمات لغوية، تعبر عن مركز الاهتمام المكبوت.

عندما طارت الدراجة الجديدة بالصبي، دبت الحياة في الأشياء الجامدة، كما رأيناها في قوله: (وضحكتُ من الأشجار والحجارة، من حولي، وقد دبّت فيها الحياة). فلماذا كان ذلك كذلك؟. سوف نكتشف أن الصبي شعر بالحرية فجأة: الحرية في أن يفعل بدراجته ما يحلو له، وقد كان متخوفاً ـ بفعل خبرات سابقة ـ من أن لا يتمكن من ذلك.

الحياة متوثبة هنا. والسعادة غامرة، كما نراها في الكلمات المطبوعة. لكن الطيارة تطير إلى تحت، باتجاه (قمة المنحدر)، التي يؤدي إليها (الطريق المنحدر، الذي شقه الجيش البريطاني). وعندما ندرك أن الكاتب هو أحمد حسين، المفكر والمناضل القومي، الذي يعيش على أرضه، في دولة ليست هي دولته، نفهم تماماً لماذا كان على أي طريق، يشقه الجيش البريطاني، أن يتوجه نحو المنحدر. فالجيش البريطاني هو الذي أنشأ هذا الواقع المرفوض. فالتعبير هنا خارج بالفعل من لاشعور الكلمات، التي طال كبتها ورميها في الأعماق المظلمة السفلى للكاتب. وفق هذه الآلية:

1ـ التركيب النحوي الحقيقي للكلمات ـ في الأصل ـ هو أن دراجة تطير على طريق شقه الاحتلال، سوف يكون اتجاه طيرانها إلى تحت. فالعلاقات، بين المقهور وقاهره، لا يمكن لها أن تقلع نحو أي أفق.

2ـ لكن هذا التركيب النحوي لا يصلح لإقامة واقع تخييلي سردي، بسبب ضرورات فنية، تطلب من العقل الواعي الاستجابة لشرط الإيهام بالحياة.

3ـ لهذا فقد قام العقل الواعي بكبت الرغبة الأولى (التركيب النحوي الحقيقي للكلمات) وقال لها: استقري هنا في الأعماق. فهناك حارس على الباب (العقل الواعي) يمنعنا من الخروج. وها هو جوهر عملية الكبت هنا.

ولأن “ما يُقمع يظل باقياً، عند أسوياء الناس وشواذهم، ويظل قادراً على النشاط النفسي”(7)؛ فإن إعادة تأسيس استمرارية الخطاب الواعي ـ إبداعياً ـ سيتيح للاشعور (unconsciousness) أن يثور ويرتقي إلى السطح، متفلتاً من رقابة اللغة. وبذا تصبح مهمة التفسير قراءة كل هذا التاريخ السري للكلمات المطبوعة.

وهكذا كان من الطبيعي أن يوصل هذا النوع من الطيران إلى القبح، ثم الصورة المعهودة للشيطان في الوعي الجمعي: (وانشقت عنه الأرض عند قمة المنحدر: بسكليت؟؟؟ يا ابـ…ن العرص!!).

ليس أحمد حسين مجرد كاتب عادي، ليستخدم الكلمات في سياقها النفعي فحسب، ولا هو قليل الجرأة في مواجهة الواقع الحقيقي وتحليل علاقاته؛ بل هو مبدع أداته اللغة، جريء في قدرته على البوح. وهذان شرطان ضروريان لإنتاج أي نص متقن. ولا شك أن النص المتقن لا يستطيع إرهاق نفسه بالزركشة الكلامية؛ بل يهتم بالنفاذ إلى حقائق التجربة البشرية، في موقف بعينه، معادياً القيم الآفلة ـ أو التي يبذل المثقف العضوي مسعاه ليضمن أفولها ـ ومنحازاً إلى القيم الجديدة الصاعدة، التي ينبغي لها أن تحقق العدالة(8). ولقد يمكن أن تكون إحدى الوسائل التي يلجأ المبدع، من هذا النوع، إلى استخدامها في هذا السبيل، نزع الأقنعة عن جملة الحيل، التي تتخفى وراءها علاقات القوة في النص. فلننظر الآن كيف يفعل ذلك:

“وطغى الحسد على الخوف… يتكلم كرجل حقيقي! كلماته لا تهتز أبدًا. لماذا لا أستطيع أن أتكلم مثله! أمي تقول بأنني أكبره بنصف سنة على الأقل، وذلك يعني أنني أكبره بأكثر من سنة. وأنا أطول منه وأعرض، ومع ذلك فلم أقل له كما قررت الليلة الفائتة: تريّح! ما فيش ركوب. وهو كالعادة لا ينتظر.. امتدت يده واستولت على الدراجة، وقبل أن أنجح في استجماع قدْر من الشجاعة لأقول له: دير بالك… أوعى تخرّبه.. كان قد طار. يا ابن الشرموطة… يا ابن القوادة… يا أخو العاهرة… يا للي إمّك بتضرب في البساتين”. ونجحت الخدعة. وتوقفت الدموع التي كادت تنفجر. وكان هو يصغر رويدًا رويدًا، حتى أصبح نقطة معتمة قرب أسفل المنحدر. ورغمًا عني كانت تعود إليّ شجاعتي الكاذبة… كنت أتشبث بالاستسلام فليس هناك من فائدة على الإطلاق. سوف أفرغ من شجاعتي كما تفرغ الجرة حينما تنكفئ على بابها. إنه ابن كلب، لا يجرؤ أحد منا على أن يتحدّاه. وما دام “مصطفى” و”شاكر” و”خضر” يخضعون له، فليس هناك معنى لأن أتصدى له أنا. إن ترتيبي من حيث القوة يأتي بعدهم.. نظام متفق عليه بين “الجماعة”. كل يعرف حدوده ولا حاجة لاستباق الأمور، فأي تغيير يقتضيه الواقع لا بد أن يحدث تلقائيًا، واللحظة المناسبة تأتي دائمًا… وفي وقتها الصحيح، كأن هناك عاملاً خفيًا يسيّر الأمور”(ص50 ــ 51).

نلاحظ أننا هنا أمام نوع من الكتابة التعبيرية، التي تعكس العالم من خلال الذات، لتصور صراعاتها النفسية. بحيث نستطيع الزعم بأن الكلمات هنا مقتبسة مباشرة من داخل العقل: لا من منطقة اللغة فقط؛ ولكن من الوعي كله. ولا ريب أن أفضل تقنية يمكن لهذا النوع من الكتابة الذاتية استخدامها، سوف تكون تيار الوعي (stream of consciousness): تلك الطريقة في السرد التي يلجأ خلالها الراوي إلى تقديم “محتوى الوعي، في مرحلته غير المكتملة، قبل أن تتشكل للتعبير عنها بالكلام عن قصد”(9).

إننا إذاً في مرحلة ما قبل اللغة. وإن حديث ما قبل اللغة للصيقٌ بالنفس، يناجيها وينطق بلسانها، قبل أن تؤثر عليه وقائع التاريخ (إنه ابن كلب، لا يجرؤ أحد منا على أن يتحدّاه) هنا بالذات تتحرر الأنا من القهر، وتمارس حريتها المطلقة في التعبير، مما يمكن له أن يشكل خطاباً يتسم بالصدق الواقعي، إن اعتبرنا الصدق الواقعي موافقة التعبير لما في النفس.

وإذ لا تسمح علاقات القوة، لهذا الصدق الواقعي، بالإعلان عن نفسه، فلقد يتراجع إلى أغوار النفس، بعد أن يأمره الوعي الظاهر بالصمت، مؤكداً له ـ بلغة فرويد ـ أن الذات ليست سيدة بيتها الخاص، بل إن السيد هو القوي (وما دام مصطفى وشاكر وخضر يخضعون له، فليس هناك معنى لأن أتصدى له أنا). ومن المؤكد أن الوعي الأدبي ـ من منظور جمالي ـ مفطور على الإعجاب بما هو قوي جسدياً. وكلنا يعرف كيف وصفت العرب قديماً الشاعر الجميل بأنه شاعر فحل. والحكاية معروفة، في كتب الأدب.

لقد تحول خوف الشخصية، من الخصم القوي، إلى إعجاب مبطن، لا يظهر إلا في خطاب الذات. وإذ لا يمكن للذات أن تعلن صَغارها على الملأ، فإنها تقنع نفسها بأن هذا الشعور فطري، تمنعه الثقافة المتمثلة هنا في الأم (لماذا لا أستطيع أن أتكلم مثله!. أمي تقول بأنني أكبره بنصف سنة على الأقل). لكن من هو الذي قال بأن الثقافة أضعف تأثيراً من الفطرة؟. فهنا على الأقل، يقول الصراع الدائر داخل وعي الفتى غير ذلك؛ إذ نراه يثور فجأة، مستحضراً كل أنواع الشتائم، التي كان قد قرر بالأمس أن يوجهها إلى الخصم، في مسعى تمثيلي يعيد إنتاج التجربة، وفق علاقات متمناة، تكبح نهر الدموع، الذي أوشك على الانهمال.

يمكن لنا هنا رؤية صراع بين إرادتين أصيلتين، في وعي الفتى: إرادة التحدي، وإرادة الاستسلام. ولسوف يستعين وعي الفتى، في هذا الصراع، بتحليل آلياته التي خبرها منذ زمن بعيد. لسوف يستعين بالمعرفة كقوة: معرفة أنه لا يمتلك إلا شجاعة كاذبة: (ورغمًا عني، كانت تعود إليّ شجاعتي الكاذبة) حيث لا يمكن فهم هذا التقريع للذات، إلا باعتباره أداة استنهاض، تستعين بخبرات مؤلمة سابقة وتستحضرها، بهدف تحذير الذات مما هو متوقع، فيما لو استسلمت لمنطق القوة. ومعلوم أن استعادة خبرات الألم، تحدث توتراً، سوف يؤدي في النهاية إلى نوع من التنفيس الانفعالي ـ كما تقول عزيزة صالح حافظ ـ يطهر النفس، ويمهد من ثم لاستعادة الحياة السوية(10).

في العالم الذي يسعى المثقف العضوي إلى تغييره، تقوم العلاقات وفق تراتبية تنازلية، من الأعلى إلى الأدنى. ومن المنطقي، والحالة هذه، أن يبدأ الصراع داخل الذات، في المنطقة الآمنة نسبياً؛ حيث تتوفر حاضنة الثورة، التي تبدأ في التصاعد، إلى أن تبلغ من القوة ما يدفعها إلى الظهور. يبدأ وعي الفتى بإقامة العالم القديم داخلياً ـ كما هو بالفعل ـ قائماً على رأسه. ومن ثم يبدأ في تحليل العلاقات:

“وعندما أحضر لي والدي الدراجة كنت أعرف سلفًا من سيكون لهم الحق في استعمالها، فلن يكون بوسعي أن أرفض طلب أي واحد من الأربعة، ابتداءً منه.. من عوض إلى خضر في ركوبه، ولكنني لم أكن أشعر بشيء من القلق بالنسبة للثلاثة الآخرين. فهم لا يبالغون في تقدير حقهم المكتسب.. شوط واحد لكل منهم.. وانتهى. أمّا هو فقد ظل يبعث القشعريرة في جسدي معظم الليل. وحينما غفوت أخيرًا أفقت بعد قليل وأنا أبكي.. فقد حطّم الدراجة… لم يكن هناك فاصل في نظره بين ما يملكه هو أو يملكه الآخرون. وليس هناك من مجال للمناقشة على الإطلاق”(ص52).

لكن الوعي وحده لا يصنع الثورة؛ إذ لا بد من إرادة التحدي. وإرادة التحدي بحد ذاتها قوة. لكن أحمد حسين المبدع لا يمكن له أن يصنع عالماً مثالياً، في قصة تخييلية: فقد مضى عهد الفروسية، منذ حطمت علاقات العالم الحديث سيف دون كيشوت، وجعلته يتكسر على طواحين الهواء. إن العالم الحديث عالم شديد قسوة (العقلانية). وكل مبدع يسعى لإقامة عالم يحاكي أفعال الكتابة التاريخية، لا بد له أن يوهم بالإمكان الظرفي: أي أن يضمّن عالمه ما يتوافق مع علاقات الدنيا، في الزمن المحكي. ولذا فلا يمكن للفتى صالح ـ الشخصية الرئيسية ـ أن يصحو من نومه ذات صباح، فيجد نفسه قادراً على سحق الخصم القوي عوض، باستخدام التمنيات الجميلة!. بل لا بد أن تحيا الشخصية واقعها، وتتصرف وفق ظرفها الموضوعي، كما يحدث في الدنيا؛ فيبدأ بالتأسف على واقع أتاح له كسباً لا يستطيع المحافظة عليه، قبل أن ينتقل إلى تمني زواله، خوفاً من أن يجد نفسه مضطراً إلى قبول تحدٍ، هو أكبر من قدراته المحسوسة. يقول الراوي من خلال وعي صالح: “ولأول مرّة شعرت بالأسف لأنني أملك دراجة. وتمنيت أن يحطمها فعلاً، أو أن أتركها له وأقول لأهلي إنها تحطمت. وشعرت بحاجة شديدة إلى البكاء، وكنت على وشك ذلك”(ص53).

لكن تطورات الواقع الدنيوي لا تترك مجالاً للضعيف، إذا ما أراد المحافظة على إنسانيته، إلا أن يواجه منطق القوة بما يكافئه. وهنا نرى أن التحدي ـ كما هو في الدنيا ـ يُفرض في الغالب على الضعيف فرضاً، إذ ينحاز العالم، الذي يرى الجمال في القوة، إلى الجانب القوي، غير متيح للضعيف إلا أحد خيارين: المواجهة أو الموت. ألا نرى أن منطق القوة ما زال هو هو منذ عهد قابيل وهابيل!.

إن إحدى المواطن التي تظهر فيها براعة الكاتب هي تلك التي يرسم فيها صورة للشخصية. ها نحن نرى أننا بإزاء شخصية مرسومة بنوع من الإتقان، المعتمد على بلورة إحساس الشخصية كلامياً. إن وضوح إحساس الشخصية هنا، هو الذي أعطى هذا الموقف قيمته الجمالية. “ومع أن هذه الصورة قد تكون ناقصة وغير كافية؛ إلا أن الإحساس الذي تولده في نفوسنا، قد يكون إحساساً واضحاً، يوحي بنواح أخرى من الشخصية. فعلى الرغم من أن الصفات… لا تصف جوهر الموضوع غالباً… إلا أنها ـ فيما يبدو ـ تسترجع الإحساس، وتكسب القصة حيوية: فعن طريق إحضار القارئ أمام الموضوع، من خلال حاسة واحدة، توحي هذه الصفات بأن هناك نواحي أخرى سيتم اكتشافها”(11).

يجري هذا في القصة القصيرة والرواية، كما يجري في حيوات الأفراد العاديين. أما الشخصيات المثالية، فيمكن لها أن تختار واقعاً غير دنيوي. لكن هذا يحدث فقط في موضعين: الأساطير والأديان. ومعلوم أن كليهما يحيل إلى علاقات لاتاريخية. وإذ كان شأن السرد الدنيوي أنه لا يحتمل إلا علاقات التاريخ؛ فلقد نرى محدودية قدرة هابيل على تجنب المعركة. إن الثورة التي أفرزتها الإهانة ـ خلافاً لما تمليه علاقات الكتاب المقدس ـ هي التي سهلت للشيطان خضر أن يوسوس لهابيل بضرورة البكاء، إذا ما أراد استعادة الدراجة من قابيل. ونحن ندرك بطبيعة الحال أن خضر لا يطلب من صالح البكاء، إلا بهدف استثارته وتحريضه ضد الخصم القوي، الذي لا يستطيع مواجهته:

“وقال بجدية: عيّط! لليش؟ بلكي يعطيك اياه. وشعرت بثورة غير متوقعة. كانت الإهانة جارحة إلى حد بعيد، ولعلّ البساطة التي قالها بها هي التي جعلتها مؤلمة إلى حد لا يُحتمل.. عيّط! هكذا وببساطة.. ولماذا! لكي تحصل على دراجتك من خصم أصغر منك”(ص57 ــ 58).

لقد تمت إقامة علاقات جديدة الآن، وقابلة للتطور ـ يجب ألا ننسى أنها علاقات قوة ـ علاقات جعلت التراجع عن الثورة أمراً بعيد المنال. الراوي هنا يستنزف من العلاقات أقصى منطقها؛ لكي يضمن حتمية التحول التاريخي، مواصلاً جلد وعي الفتى:

“وفي الحقيقة، فقد شعرت في تلك اللحظة أنني يجب أن أذهب إلى البيت وأنسى الدراجة. سيقول له ابن العاهرة حتمًا. إنها فرصته الوحيدة للحصول على الشوط. وأخذت أشعر مقدّمًا بالضربات على جلدي، وامتدت يدي تمسح أنفي وتتحسّسه”(ص58).

حسناً. نحن هنا ما نزال نرى كيف يتطور الصراع، داخل وعي الفتى، تطوراً تصاعدياً، ولكن بتدرج بطيء، ينطلق من الشعور بالإهانة، إلى الشتائم المكتومة، وصولاً إلى الشعور بالأذى الجسدي المحتمل، حيث لم يزل الفتى في طور ما يمكن له أن يطيقه.

لكن منطق التحدي يواصل تدحرجه نحو النهاية المحتومة، حين يعود صالح إلى البيت دون دراجته. وإذ يسأله أخوه الأصغر حسن عنها، ينزلق إلى قرار جديد: أن (يذبح) عوضاً فيما لو استلب منه الدراجة، مرة أخرى، خصوصاً وقد كان التزم لأخيه الأصغر بمثل ذلك في السابق، ثم لم يفعل:

“وين البسكليت؟.. حسن؟؟ وشعرت بأنني أنسحق وبدأ الدم يتجمع في وجهي ويضغط عيني وأرنبة أنفي بإلحاح. وين البسكليت؟ واختنقت وأنا أقول: مع عوض. مع عوض! ما قلت بدكش تعطيه، وإن حكى بدّك تدبحُه؟! وسمعت ضحكة خضر قبل أن تخرج إلى حيّز التنفيذ: يذبحه؟ يا عيني! ونظر إليّ أخي الصغير متسائلاً، فقلت وكأنني أقفز من مكان عال: آه بذبحه.. وهسّه بورّيك. كان هذا هو الالتزام الثاني أمام أخي… وقد كان هذه المرّة على أرض المعركة، أما في المرة الأولى فقد كان بعيدًا عنها.. كان على أرض معركة وهمية، في البيت بل وعلى الفراش”(ص58 ــ 59).

وإذ شعر الراوي بأن هذا الالتزام وحده لا يكفي لدخول المعركة، فقد دفع الحركة السردية باتجاه تصاعدي أكثر، حين وظف شخصية خضر لتقوم بدور المحرض الخارجي على الفعل، فقام بإبلاغ محتوى هذا التهديد إلى عوض ليضمن حدوث المواجهة.

أما لماذا يفعل خضر ذلك فمعروف: لكي لا يظل يجلد نفسه على صغاره الشخصي أمام عوض الأقوى بين أفراد الشلة، مستمداً من هزيمة صالح ـ المتوقعة ـ ذريعة لاستمرار قبول حكم القوة. لكن ما حدث بعد ذلك كان مفاجئاً لخضر، رغم أنه متسق مع طبيعة الموقف: نفسياً وسردياً:       

“وبدأ إحساسي بالخوف يتلاشى تدريجيًا، تاركًا مكانه لإحساس جديد أكثر إلحاحًا.. الإحساس بالخطر. فلم يعد الآن مجال للشك أو الأمل… ويبدو أنني فقدت إحساسي بأي شيء، وأنني مع الدموع التي انهمرت من عيني وجّهت قبضتي إلى وجهه. فقد صحوت على صرخته وهو يغطي وجهه بكلتا يديه بينما كانت قبضتي لا تزال مضمومة وقد كانت أشبه بالعصا. وحينما رفع إليّ وجهه المدمّى.. نزلت العصا مرة أخرى، وثالثة ورابعة وخامسة”(ص63 ــ 64).

وذهب الإحساس بالخطر، ليحل محله شعور وحشي بالنشوة، ملقياً الضوء على الخطر الكامن، في علاقات قوة تتخلى عن منطق الأخلاق. لقد تحول المقهور إلى قاهر، لم يعد مكتفياً باسترداد ما له، بل صار يمعن في فعل نشوة مرذول، يعطي لصاحبه حقاً ليس له، إلا أن يعيد ترتيب العلاقات، في نفس المعادلة التي أراد لها أن تزول من الأصل. يقول الراوي من خلال وعي صالح:

“وأخذ يضرب بيديه في الهواء، محاولاً أن يمسك بي.. ولكن عبثًا، فقد كانت يداي الطويلتان تدفعان به بعيدًا مع كل ضربة. وكنت لا أزال أبكي، ولكن بدون صوت. فقد كان صوت اللذة الحاقدة هو الذي يرافق ضرباتي.. حشرجة غريبة متقطعة أشبه بموسيقى وحشية ترافق كل ضربة… ما يموت! خلّيه.. ناولني حجر بقول لك يا حسن! دخل النبيـ يـ يـ يـ… حرام يا صالح. حرام. بقدّيه. وحينما رضيت أن أتركه، كان أشبه بجسم غير واضح الشكل، يغمره التراب”(ص65 ــ 66).

“لا تصل الطبيعة إلى غاياتها إلا بواسطة الثقافة. ولا ترضي النزعة نفسها إلا عبر المؤسسة. بهذا المعنى يكون التاريخ طبيعة بشرية”(12). فالنزعة صنو الطبيعة البكر. والثقافة صنو المؤسسة، التي هي فعل حضاري وسم تاريخ الإنسان، منذ نزوله عن الشجرة. لقد طلبت الغرائز من صالح أن ينتقم، انتقاماً يفوق كل حدود العدالة، مستعينة بالمؤسسة، التي مثلتها الأم، التي حرضت الصبي على مواجهة القهر بمثله. ولأن المؤسسة إنتاج حضاري، فلم يدر بخلدها أن يصل حب الانتقام بالصبي إلى تخوم القتل. والصبي، بدوره، لم يكن ليطلق العنان لغريزته المارقة، لولا اطمئنانه إلى أنه محمي بالمؤسسة ـ الأم ـ غير مدرك أنه متجاوز للحدود: حدود المؤسسة ذاتها.

لكن للغريزة انفعالاتها، التي تخرجها أحياناً عن رقابة المؤسسة. والنشوة أهم هذه الانفعالات. لقد انتشى صالح، بانطلاق غرائزه الكامنة فجأة، بعد إذ ظنها تحت الضبط (حشرجة غريبة متقطعة أشبه بموسيقى وحشية ترافق كل ضربة) وبدأ ينزلق نحو قتل الخصم، بعد أن رآه ضعيفاً غير قادر على المقاومة (ما يموت! خلّيه.. ناولني حجر بقول لك يا حسن). 

ورغم اعتياد الناس على ربط فعل النشوة بالإشراقات الصوفية العظيمة، إلا أن ذلك لا يلغي حقيقة أن هناك نوعاً من النشوة المرذولة أخلاقياً، مرجعها إلى الغرائز الأولى، كنشوة الانتقام مثلاً. إن النشوة هنا مجرد غريزة منحطة أولى. ورغم أن الأديان السماوية كلها جاءت بنبذها، وطلب التعالي عليها، بهدف السمو الروحي، إلا أننا لا نزال نرى أسوأ تجلياتها في (خطباء الفتنة) الذين يعتلون المنابر، ويثيرون في المستمعين أحط غرائزهم وأدناها. ولئن شئت أن ترى مدى ما تثيره هذه الخطب من شر، فما عليك إلا مراقبة ما تفعله جماهير هائجة، أخرجها خطيب ديماغوجي عن وعيها (المثقف) وقذف بها في حمأة رسوباتها الطينية الأولى. فلننعم النظر، مرة أخرى، في هذا المشهد:

“وأخذ يضرب بيديه في الهواء، محاولاً أن يمسك بي.. ولكن عبثًا، فقد كانت يداي الطويلتان تدفعان به بعيدًا مع كل ضربة. وكنت لا أزال أبكي، ولكن بدون صوت. فقد كان صوت اللذة الحاقدة هو الذي يرافق ضرباتي.. حشرجة غريبة متقطعة أشبه بموسيقى وحشية ترافق كل ضربة”(ص64 ــ 65).

لماذا نشعر بغير قليل من المتعة ونحن نتأمل مشهداً بهذه القسوة؟. فلنتأمل كيف تعاونت الألوان والأصوات مع الحركة، في إضفاء الحياة على هذا الفعل المرذول؛ لندرك كم “تغلغل في الأدب هذا التبجيل لمن هو أقوى، من الناحية الجسدية”، كما يقول توماس كارليل(13).

هو ذا قبح أخلاقي مصور بأسلوب جمالي، شخّصه تشخيصاً، كأنه حاضر بيننا الساعة. فلنحاول أن نستكشف لماذا طرب المؤلف الضمني معنا، وهو الذي يحاول أن يقدم عن نفسه صورة مثالية؟. يمكن القول بأنه يريد مضاعفة جرعة القبح في (صوت اللذة الحاقدة) هذا ـ وهو المتعاطف مع  الشخصية الرئيسية صالح ـ ليتمكن من وهب الجمال الأخلاقي نهاية جميلة، لم يكن ممكناً لها الحدوث قبل حصول الفتى على توازنه النفسي:

“وحينما رضيت أن أتركه كان أشبه بجسم غير واضح الشكل يغمره التراب.. ومضت لحظات طويلة قبل أن يستطيع القيام ويمضي وهو يردّد صيحات متقطعة أشبه بالعواء… وبعد لحظات، كنت أطير”(ص66).

لقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: “إن من البيان لسحراً”.

للغريزة انفعالاتها. وهي مرذولة في أكير الأحيان. ولكن الكاتب هنا ينجح في توظيفها جمالياً من ناحية، ثم ينجح في توظيفها نفعياً من الناحية الأخرى، حين تحيلنا كل هذه الروعة التصويرية، في الخطاب الظاهر، إلى مضمر يقول بأن (ما يؤخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة). وقمين بمن كان مبدعاً فلسطينياً، يعيش في الدولة اليهودية ـ كمواطن من الدرجة الثانية ـ أن تتمحور كل نصوصه، كما شعوره، حول هذا المعنى. 

النص الثاني: الوجه والعجيزة(14):

تحولات الأيديولوجيا:

عند تناولنا للنصوص التخييلية، يجب ألا نذهل عن حقيقة أننا نواجه عالماً لغوياً: أي مجموعة من الحيل الرمزية، التي لا تعدو كونها تمثيلاً. وإذا كنا نعرف أن التمثيلات اللغوية إن هي إلا محاولة لخلق صورة نشأت مسبقاً في ذهن المبدع، تمهيداً لنقلها إلى أذهان المتلقين؛ فلقد يمكن لنا تصور كم هي فعالة هذه الحيل الرمزية، وما هو نوع الأغراض التي تتوخى تحقيقها(15).

إن على التحليل أن يتخيل مدى ذلك الانزياح، الذي أنشأته اللغة، بين كل من العالم الموضوعي المراد محاكاته، والصورة التخييلية التي نعيد تكوينها من الرموز الكتابية، التي أمامنا. ولئن كان من البديهي أن المؤلف هو من تسبب بكل هذه التشويهات؛ فلقد ندرك كم هو مجدٍ أن نضعه في بؤرة التحليل. لن نبحث تاريخ المؤلف المعلن، ولا وعيه الأيديولوجي ـ وإن كنا سنستعين بهاتين الأداتين أحياناً ـ وإنما سينصب جل اهتمامنا على محتويات لاشعوره، وتاريخه السري الذي لا يعرفه هو نفسه. فمن هنا انبثق عالم التمثيلات اللغوية، لا من أي مكان آخر.

فلنبدأ بالمادة التمثيلية في هذا المطلع:

“خرجت إلى الشارع بنصف وجه وبيد واحدة، ولم أكن أشعر بألم، وكانت الضمادات تضغط وجهي ويدي بنعومة تشبه الخدر. وفي الحقيقة، إنني لم أكن أشعر شعورًا واضحًا بأي شيء. وقد بدا الشارع لي أشبه بلوحة مسطحة أو بمشهد تحت الماء.. كل شيء يحاول أن يتملص من حواسي فيغرق ثم يطفو ثم يعود ليغرق من جديد. وحاولت أن أنتشل نفسي بقراءة اللافتات أو التمعن في وجوه المارّة وملاحظة الملامح البارزة في كل وجه. هذا أنف يشبه الأزمة.. دخّنوا (إسكوت)… ذقن هذا بحاجة إلى تنورة.. معريب(16). ولكن عبثًا.. كنت كمن يحاول أن يسترجع حلمًا، أو كالغريق الذي يتشبث بالموجة فيغوص إلى الأعماق. ومع هذا فقد بدأت أفكر.. وصلنا إلى زاوية سينما (أور) حيث يتفرع بنا الدرب وحيث ظللنا على مدى أربع سنوات تقريبًا نفترق يوميًا عند تلك النقطة، ليأخذ كل منا سبيله إلى مكان عمله”(ص69 ــ 70).

زمن الحكاية: بعيد حرب يونيو/ حزيران 1967. المكان: مدينة في شمال فلسطين، حيث لا يزال الخطاب الرسمي العبري يؤكد وجود حالة من التعايش المثالي، بين (السكان العرب) والمواطنين اليهود. الشخوص والحدث: سامي يتعرض للضرب، من مجموعة يهود يرفضون استمرار علاقته باليهودية ليزه.

الفكرة المؤسسة لهذا النص تقول باستحالة التعايش، بين العرب واليهود، على أرض أحدهما. ندرك ذلك مما رشح لنا من وعي الشخصية الرئيسية، في المقطع السابق: (كنت كمن يحاول أن يسترجع حلمًا، أو كالغريق الذي يتشبث بالموجة فيغوص إلى الأعماق). فلنتتبع هذه الفكرة بالتحليل.

لدينا هنا في هذه القصة عربي يعاشر يهودية ويساكنها، قبل أن تحدث الحرب. لكن نتيجة الحرب تعيد تكوين العلاقات من جديد: فالعربي الخارج لتوه من (الحفلة تأديبية)، يُرغم فجأة على اكتشاف هذا (النشاز المستجدّ)، في جو مشهد يومي، ظل يجمعه بمعشوقته اليهودية لمدة عامين، قبل أن تقع هذه الحرب، وتُهزم قوميته الإثنية أمام دولة المعشوقة.

لا يقتنع المهزوم بنشاز العلاقة مع المنتصر، إلا بعد (علقة ساخنة). ولئن نسي (عربيُّ القصةِ) أن يبادر إلى استخلاص العبر، فور حدوث الهزيمة؛ فقد كان بل لا بد له ممن يضربه على يده كطفل. والذي يفعل ذلك بطبيعة الحال هو ليزه، العاهرة اليهودية، ورسول المنتصرين. ليزه التي ظل العربي يعلوها طوال عامين، تكتشف الآن شذوذ هذه العلاقة غير المتكافئة، وتبادر إلى تسويق قناعتها الجديدة للعشيق العنيد. إن علاقات القوة هنا هي من يقول. وإذا كان العربي مهزوماً، فمن الطبيعي لعاهرة من القومية المنتصرة أن تكون (آخَره). وإذ لم تفلح كل هذه (المبادرات السلمية) في إقناع العربي بضرورة التنازل عن اعتلاء يهودية؛ فقد كان على (العلقة الساخنة) أن تيسر ذلك؛ بل تقرره.

عندما يتصدى تيري إيجلتون لتأصيل مهمات نقد ما بعد الحداثة، يؤكد على ضرورة أن يحاول هذا النقد ـ باعتباره نقداً إنسانياً ـ تكثيف الاهتمام بكل من “اللغة واللاوعي، في النصوص الأدبية: ليكشف الدور الذي يلعبانه، في التكوين الأيديولوجي للفرد”(17).

ولئن كنا، في مواجهة هذه القصة، نقف قبالة عالم تخييلي؛ فإننا في مواجهة الشخصية، التي صنعتها لغة القصة، نواجه عالماً من الأيديولوجيا. فالمحمول الأيديولوجي، في النصوص التخييلية، هو الذي يوجه سلوك الشخصية. ونحن نستكشفه في النص، من خلال تحليلنا للسلوك اللغوي، الذي تمثله الرموز المكتوبة.

لا يمكن، في هذا الواقع التخييلي، أن تبادر عشيقة إلى نبذ عشيقها مباشرة، لمجرد أن قوميته هُزمت أمام قوميتها. الوعي العربي، الذي كتب القصة، لا يستطيع تصور أن تتمكن (أنثى) من مواجهة (ذكرها)، بضرورة تغيير قوانين اللعبة الاجتماعية، حتى لو كانت مجرد عاهرة!. لذا نجده يصطنع لموقفها دوافع موضوعية، خارج إرادتها. أحد هذه الدوافع يتمثل في وجود متطرفين يهود، مهمتهم تبرير المحتوى الأيديولوجي لوعي الراوي، المقتنع بأن هناك هزيمة قد حدثت على الجبهة العسكرية، ودفعه من ثم إلى القبول بتحقق هزيمة مماثلة على الصعيد العاطفي. يفعل الراوي العربي ذلك، ليوفر للشخصية الورقية سامي فرصتها، في السماح لليزه بمواجهة (الفحل العربي) المهزوم، بضرورة إعادة النظر في طبيعة العلاقة السابقة.

ومثل أي موقف تراجيدي، يقف البطل المهزوم محاولاً مواجهة قدره المحتوم. ولأننا لسنا في عصر التراجيديات الكبرى، ولأن القصة اليوم لا تحتمل هذا النوع من الأبطال، فقد اصطنع أحمد حسين عربياً واقعياً يشبه السياسيين المهزومين، في محاولتهم لتجاهل حقيقة ما حدث. ولئن لم يكن بمستطاع (عربيِ أحمد حسين) تجاهل ما حدث على جبهة الحرب، فلقد كان حرياً به، على الأقل، أن لا يتجاهل تأثير ما حدث، على العلاقة الشخصية، بينه وبين عشيقته اليهودية. وقد استغل وعيُ الأيديولوجيا هذه الجدلية، أحسن استغلال، حين ترك لا شعور النص يقرر استحالة التعايش بين الطرفين، على أرض واحدة. ولكي يحدث هذا فنياً، فقد كان على الراوي دفع العاهرة اليهودية، إلى مواجهة (عربيِ القصة)، بالواقع الجديد، الذي أنشأته علاقات القوة. فلننظر كيف فعل ذلك، من خلال وعي الشخصية:

“نزعت يدها من يدي بلطف متكلف، قبل أن تفترق الدرب بمسافة واضحة. وتذكرت جيدًا أن يدينا كانتا تظلان متصلبتين، حتى لا يعود بالإمكان تجاهل أننا نسير في اتجاهين متضادين. وشعرت بشيء من الشجاعة لذكرى الودّ القديم:

ـ “ليزا”، أمامك نهار كامل لإعادة التفكير. فقالت بعد تردد، ودون أن تنظر إليّ: حسبتك فهمتني. ثم ما الفائدة الآن؟. لقد اتفقنا. وأتمنى لو كنت أستطيع التراجع. وصمتت، ثم أضافت: وستفهمني، وبالأحرى ستصدقني وتغفر لي، أليس كذلك؟. فقلت بكثير من اليأس والحنق: إنك عاطفية جدًا حين تريدين”(ص70).

يقول سـﭙينوزا: “ليست الفكرة المؤسِّسَة لوجودنا الفكري الخاص، بالفكرة البسيطة؛ وإنما هي مركَّبة من عدد هائل من الأفكار”(18).

ولئن كنا قد رصدنا، منذ بداية تعاملنا مع هذا النص، فكرته المؤسسة القائلة بحتمية زوال الدولة العبرية. فإننا في هذا المقطع، سوف نستكشف أهم الأفكار الفرعية، التي تتكون منها تلك الفكرة الرئيسية، على النحو التالي:

1ـ العشيقة تنزع يدها من يد عشيقها بلطف متكلف.

2ـ الذي يدرك طبيعة هذا التكلف، في تصرف العشيقة، هو عشيقها العربي.

3ـ وهذا مبرر فني، يتيح للمؤلف الضمني أن يحمّل بطله محموله الأيديولوجي، القاضي باستحالة التعايش، حين يُنطق وعي الشخصية بالجملة: (نسير في اتجاهين متضادين).

4ـ ونكاية بالدعاية الرسمية الإسرائيلية؛ يعمد المؤلف الضمني إلى إيقاع وزر فشل هذا (التعايش) على عاتق الصهاينة، وذلك حين يسلط الضوء على مفهوم عميق في الوعي اليهودي، يقول بأفضلية الجنس العبري على كل من حوله. وهذا المفهوم، إن لم يكن جلياً للشخصية اليهودية اليومية، فهو جلي ودال في ذات الوقت، لكل من اقترب من الشخصية اليهودية، التي صنعتها الدعاية الصهيونية. فاليهودي يطلب من الآخر مغفرة، لن يكون مؤهلاً لمنحها له، فيما لو تبدلت المواقع.

نقول: بأنه في سبيل إيقاع وزر (فشل التعايش) على عاتق الصهاينة؛ فإن الراوي ـ الذي يتخفى وراءه المؤلف الضمني ـ يُنطق العاهرة اليهودية بالعبارة: (وستفهمني، وبالأحرى ستصدقني وتغفر لي، أليس كذلك؟). فليزه هنا تقر للمؤلف الضمني بما يشتهيه أيديولوجياً. ونحن نرى ذلك جلياً، من خلال إنطاق الراوي لليهودية، بعبارة لها محمولات، لا يفهم منها غير اليهودي إلا أنها عنصرية. وهذه العبارة: (وستصدقني وتغفر لي). فهو يعطف (تغفر) على (تصدق) المسبوقة بسين التوقع السريع، ليصبح المعنى: (وستغفر لي).

يقول جورج سانتيانا: “لكي يوجد الخير، في أي صورة من صوره، لا يلزم وجود الوعي فحسب، وإنما يلزم وجود الوعي العاطفي: فالملاحظة وحدها لا تكفي، وإنما ينبغي أن يوجد التذوق إلى جانبها”(19).

إن اليهودية (ليزه) ليست مجرد شخص يطلب غفراناً؛ بل هي تأمر الآخر أن يمنحه. إنها لا تنسى دونية (الآخر)، حتى وهو يعتليها. إن هذه العبارة، التي يُنطق الراوي ليزه بها، ليست بريئة أو محايدة؛ ولكنها مسكونة بالنوايا العنصرية: فبالرغم من إدراك اليهودي أن من يقف مقابله يعرف نواياه، إلا أنه لا يشعر بأدنى حرج من طلب مغفرته؛ بل ينتظرها مؤكدة. كل هذا وهو يعرف أن هذا (المأمور ببذل المغفرة) عالمٌ بأن اليهودي سيمتنع عن بذل مغفرة مقابلة لنفس الشخص، فيما لو انقلبت الأمور وأصبح الطالب مطلوباً منه!. ولا يعرف ذلك أحد كأحمد حسين. ولكن كيف يمكن له أن يقول ذلك، ثم لا يتجاوز شرطين كلاهما صعب: شرط الفن، وشرط السياسة؟.

نحن نعلم من تجاربنا القرائية، أن المؤلف المدني عندما يكتب، فإنه “يخلق نسخة ضمنية من نفسه، تكون مختلفة عن المؤلفين الآخرين… [إذ] من الواضح أن الصورة التي يحصل عليها القارئ، عن حضور الشخصية الثانية للمؤلف، هي واحدة من أهم المؤثرات التي يسوقها المؤلف: فمهما حاول أن يكون لا ذاتياً، فإن قارئه لا بد أن يشكل صورة عن المؤلف الرسمي ـ أو المؤلف الثاني أو الضمني ـ الذي يكتب بهذه الطريقة”(20).

ولئن لم يكن ممكناً للعربي في دولة اليهود، أن يكتب نصاً تاريخياً يقول ذلك صراحة؛ فلقد كان على أحمد حسين أن يقول ما يشبه ذلك في نص أدبي، فيأتي قارئ ما ويستنتج مدلولاته!. هو ذا المؤلف الضمني. وهي ذي محمولاته الأيديولوجية، المحيلة إيانا إلى نوع من التناص المشفّر، مع العبارة الشهيرة في الأيديولوجيا الصهيونية: لن ننسى ولن نغفر(21)

5ـ ولكي يقنعنا المؤلف بأن شخصيته الورقية ـ العاشق العربي المهزوم ـ هي شخصية من لحم ودم، فقد لجأ إلى تحميلها مفاهيم واقعية، أنشأتها طبيعة التعايش المستحيل، بين الجلاد والضحية. ولقد ظهر لنا هذا جلياً، في طبيعة اللغة التي استخدمها العاشق العربي، في حواره مع المعشوقة اليهودية، حين يستعير قاموسها اليومي؛ كما في العبارة التالية: (فقلت بكثير من اليأس والحنق: إنك عاطفية جدًا حين تريدين).

قلنا إن العاشق العربي يستعير القاموس اليومي للمعشوقة اليهودية، لأننا نعلم أن ثقافة اليهود ـ التي هي في معظمها غربية ـ لا تحترم الحكم العاطفي على الأشياء، باعتباره حكما ذاتيا وغير موضوعي. وقلما رأينا، في الخطاب العربي اليومي، تحقيرا كهذا لحكم العاطفة. لا يدرك ذلك أحمد حسين وحده، وإنما يدركه كل من اهتم بتفكيك الخطاب العبري اليومي. صحيح أن هناك حكماً قيمياً شبيها بهذا، يشيع اليوم في أوساط المتثاقفين العرب ـ حيث يتمتع بعضهم بنعت كل خطابٍ مزدرىً بالرومانسية ـ ولكنه غير شائع، ولا متداول، ولا معروف، في أوساط الخطاب العربي اليومي الشعبي المعيش.

في مقطع آخر، سوف نلاحظ كيف عمد الراوي، هذه المرة، إلى اختراع حدث آخر، أقوى دلالة في إشارته إلى التحولات الأيديولوجية، التي أحدثتها حرب حزيران 1967، في وعي المعشوقة اليهودية. كما سوف نرى حجم التغيرات التي أصابت الوعي اليهودي، بعيد الانتصار السهل على (14 دولة عربية). ونحن نورد هذا المقطع، لاعتقادنا بأنه مقطع ذهبي، في دلالته على ما ذهبنا إليه. وما ذاك إلا لأن يد المؤلف المدني: أحمد حسين، تكاد تكون هنا ظاهرة، من وراء راويه، الذي رمى قناعه أخيرا، في لعبة الكلمات هذه. فالمؤلف الضمني هنا يتلاشى، لصالح الشخص المدني. فلا مسافة انزياح البتة بين الشخصيتين: الورقية المستَنْتَجة، والمدنية التي تملك رقما في السجل المدني، وكانت مسجلة ذات يوم لدى المخابرات الصهيونية، باعتبارها عضوا فاعلاً في حركة الأرض، القومية الناصرية المتشددة المحظورة:  

“وهكذا ظهرت ليزه في بداية الأمر، فقد استمرت حياتنا على ما هي عليه من تفاهم يسوده بعض البرود الطبيعي في حياة أي رجل وامرأة مضى عليهما معاً أكثر من عامين، فلم ألحظ أي تغير في طباعها سوى ما كان يظهر أحيانًا في وجهها عند سماع خبر معيّن في الراديو، ولم أكن أحاول أن أتدخل عند ذلك، فقد كانت لي همومي الكبيرة أنا الآخر، وكنت أرضى أن نطلّ نحن الاثنين من نفس الشرفة على منظرين مختلفين، لأن هذه المناظر ستختفي بمجرد أن نغادره الشرفة ونذهب إلى مائدة الطعام أو الفراش… ولكن بدا لي أن ليزه لم تعد ترضى بذلك، وأنها أخذت تبحث عن شرفات أخرى تطل منها على عالمها. سأذهب الليلة إلى “هيكل الثقافة”… هل تذهب معي؟ وكان سؤالها مجرد اعتذار، فهي تعرف سلفًا أنني لن أذهب، ولم يكن من المعتاد خلال حياتنا معاً أن يخرج أحدنا بدون الآخر. ماذا هناك؟.. قالت وهي تحاول إضفاء عدم الأهمية على الأمر.. يقال إن الجنرال سيتحدث هناك الليلة. يمكنك أن تستمعي إليه في الراديو، أو أن تقرئي ما سيقوله، في الجرائد غدًا. فقالت وهي تحاول إخفاء استنكارها: ولكنني أريد أن أستمع إليه مباشرة. وخيّل إليّ في المدة الأخيرة أن برودها قد زاد وأنها تبدو في بعض الأحيان ساهمة مهمومة”(ص77 ــ 79).

إنها ليست حالة عشق هذه، إذا كانت لكل من المتساكنَين إطلالةٌ مختلفة، من نفس الشرفة. إن الراوي يريد القول بأنهما باتا منفصلين روحيا، بعيد الحرب. فما عدا مما بدا؟!. وهل هنالك سبب آخر، غير شعور أحدهما بالهزيمة، وشعور الآخر بالانتصار؟. ولتبديد أي احتمال، بوجود أسباب أخرى، لهذه الجفوة المستجدة، نرى الراوي يلجأ هذه المرة إلى خلع القناع تماماً، حين يكشف لنا أن اليهودية اليوم ترغب في زيارة (هيكل الثقافة)، وسماع (الجنرال)، ورؤيته وجهاً لوجه.

في تلك الأيام، لم يكن هناك في إسرائيل شخص يحمل لقب الجنرال ـ هكذا دون حاجة إلى ذكر الاسماء ـ إلا شخص واحد فقط، هو موشي ديان. صحيح أن هناك جنرالات كثراً، في ذلك المجتمع، الذي أقامته مؤسسة الجيش، ولكن لا جنرال منهم يمكن أن يُعرّف بصفته، دون اسمه، إلا موشي ديان!. لقد استغرق الجنرال الأعور كل إمكانيات أل التعريف هذه، كما استغرقت أل استغراق الجنس هذه كل جنس الجنرالات في اللغة، واستعرضتهم، فلم تجد فيهم من يستحق مدلولاتها الثرة سوى ديان. فالتركيب اللغوي يريد أن يقول، ببساطة، بأن لا جنرال هنا إلا موشي ديان. وليزه في تلك اللحظة لا تريد إلا رؤية الجنرال!.

هكذا إذن: هيكل الثقافة، والجنرال، في نفس اللحظة، وفي هذا الظرف بالذات!. ولكي يتم التوضيح أكثر، نقول إن هيكل الثقافة هذا هو صرح النشاط الثقافي والفني والأدبي العبري في إسرائيل. ففيه تقام العروض والندوات المتميزة، والاحتفالات الخاصة بالمناسبات الخاصة، ومنه تتخذ الشخصيات البارزة، في الفكر والسياسة، منبرها الخاص. أما الجنرال موشى ديان فقد كان في تلك الأيام، التي تلت انتصار إسرائيل، أسطورة المجتمع الإسرائيلي، وملك إسرائيل غير المتوج. وكان ـ بسيرته العسكرية، وصهيونيته  الفاخرة، وبجلدته السوداء، وأناقته الشخصية ـ معبود المراهقات بشكل خاص، بالإضافة إلى نساء المجتمع الطامحات إلى الشهرة. أما من جهته هو، فيمكن القول بأنه لم يضيع وقته سدى، إذ اشتهرت غزواته العاطفية، وصارت حديث المجتمع التل أبيبي، إلى درجة أدت إلى هجران زوجته له. يمكن القول بأن تلك الأيام قد شهدت تحول الجنرال الأسطوري إلى عجل مقدس للسياسة الإسرائيلية، لا يمكن مسه، إلى درجة أعمت الخواطر اليهودية عن مجرد التطرق إلى استغلاله الفاضح لمنصبه، كوزير للدفاع، في نهب الآثار واقتنائها بصورة معلنة.

وحين يجتمع في ذهن ليزه هيكل الثقافة وهذه الأسطورة البشرية، وتصارح بذلك عشيقها، الذي ينحدر من القومية التي (زلزلها) الجنرال؛ فلا بد أن يظهر بريق ذلك في عينيها، ولسوف يلاحظ العربي بالفعل أن (برودها قد زاد، وأنها تبدو في بعض الأحيان ساهمة مهمومة). ولا جرم، فالمقارنة ليست في صالح العربي، الذي لم يعد له مكان، في قلبٍ صار الآن ممتلئاً باشتهاء الملك الأسطورة. ولذا فليزه مدركة مسبقاً بأن عرضها على العربي مرافقتها في هذه الرحلة القومية، سوف لن يلقى لديه أدنى قبول.

والسؤال الآن هو: لماذا زج المؤلف المدني بكل من هيكل الثقافة وموشى ديان، في سرد يتناول فشل علاقة، بين عاشق مهزوم ومعشوقة متطلعة؛ إلا أن يكون ذلك تعليلاً واعياً للدوافع الأيديولوجية لديه؟. وقد كانت لديه خيارات أخرى. ونقول: لديه، لأنه هو صانع الشخصيات، وموجه خطابها المعلن، لا ليزه، ولا عاشقها.

لقد ذهب منطق الأيديولوجيا بأحمد حسين بعيداً، إلى درجة لم يتبق له معها إلا أن يفرض على بطله أن يشتم ديان، ثم يفرض على ليزه أن تنتصر للجنرال، تبريراً لكل هذا الدمار الذي أصاب علاقة العشيقين. ولأن أحمد حسين أدرك استحالة ذلك فنياً، فقد لجأ سريعاً إلى التحول بخطاب العاشق، نحو منطقة الرموز، إذ يقول مبرراً كل هذا الحجم من الأيديولوجيا: “وألقيت بذراعي حول كتفيها وقلت وأنا أشدها إليّ: ألا تبوحين لي بسرّك؟. فقالت بلهجة ملساء: أنت السر الوحيد في حياتي”(ص79).

وهكذا نرى كيف تحولت علاقة عشق معلن، إلى سر يخشى من الافتضاح: اليهودية ـ حتى وهي مومس ـ تشعر بالحرج من علاقتها بالعربي المهزوم. فهل كان ممكناً أن يحدث ذلك لولا الهزيمة؟.

شكل آخر من أشكال الوعي الأيديولوجي، يتبدى لنا في هذه القصة، يقف من ورائه المؤلف الضمني، حين نمعن النظر في المقطع التالي من القصة: “كانت عجيزتها الرائعة تتفلّت بيأس تحت أعلى التنورة الضيق، بينما كانت ساقاها الممتلئتان تتلصصان، برتابة مغرية، عند أسفلها المتسع. وأحسست بشيء من عدم التصديق، عندما فكرت أن هذا لم يعد ملكًا لي، وأنني أفقدها بكثير من السهولة. وأحسست مرة أخرى بالغضب واليأس.. كأن العاهرة تظن بأنني أصدقها.. كأنها تريد مني أن أصدق أن الحرب قامت بسببنا.. هي وأنا”(ص71).

فوعي العربي ـ الذي يرفض التعايش مع الصهيوني، على تراب فلسطين ـ يعاني من قلق حاد وملح معا، مثلما تعاني هذه العلاقة الشاذة. واللاوعي هنا هو الذي يفرض هذا القلق الحاد، في مثل هذه العلاقة المستحيلة أيديولوجياً. فإذا كان الزواج، في الوعي العربي، منتَجاً عاطفيا واجتماعياً طبيعياً؛ فإنه هنا مجرد شبق تاريخي بالعجيزة دون الوجه: العربي لا يرى من اليهودية غير عجيزتها الرائعة وأسفلها المتسع!. وهذا نوع من وعي خافٍ أنتجته علاقاتٌ مغرقة في القدم، ويسميه كارل يونج “اللاوعي الجمعي”(22): حيث وقر، في أعماق العربي نوع من اليقين الميتافيزيقي، بأن أجمل ما في المرأة مواضعها الدسمة. ونحن نعلم، بالضرورة، أن هذا الشكل من الجمال لم يعد هو المقبول، في الوعي العربي الظاهر اليوم، كونه متأثراً بالنمط الجمالي، الذي عممته على العالم سينما هوليوود.

ولأن وعي العربي الظاهر هنا متصارع مع وعيه الخافي (اللاشعور)؛ فقد كان لا بد لهذا الصراع من نتيجة، تؤدي إلى كبت كل هذه المحتويات المرفوضة، حضاريا ومجتمعيا، لينتصر الوعي الظاهر على نقيضه الخافي، معلناً رفضه لهذا النوع من العلاقة المرضية. ومن ثم يحدث الانفصال. إذن فالذي أحدث هذا الانفصال هو وعي المؤلف الضمني، إضافة إلى الأيديولوجيا.

ولنفصل الأمر أكثر على هذه الصورة: المؤلف الضمني يعشق العجيزة الدسمة في لاوعيه. وقد تسلل هذا الشعور الخافي إلى إبداعه. ولكن وعيه الظاهر يرفض هذا العشق (غير الحضاري)، لذا نراه يجعل الشريك مجرد يهودي مغاير، ممثل لآلة الاحتلال؛ ومن ثم فهو غير قابل للدوام.

العجيزة (الرائعة تتفلت بيأس تحت أعلى التنورة الضيق)!. واضح أن اليأس يزيد من روعة المفقود. والراوي يروي من وجهة نظر الشخصية؛ بل من لاوعي الشخصية. إن تعبير الراوي عن يأس الشخصية هنا، ليس مجرد حيلة جمالية شكلانية، بل تسليط للضوء على محتوى العمليات النفسية للنص: العجيزة رائعة، ولكن العربي يائس من الاحتفاظ بهذا الشيء الأثير إلى قلبه!. العجيزة الدسمة تسكن اللاوعي. فيما العاهرة اليهودية تسكن الوعي. اليهودية تستمد قيمتها لدى عربي أحمد حسين من عجيزتها المؤسية. أليس هذا نوعاً من التسكع اللاإرادي “على حافة هذا المستنقع [اللاشعور] الذي سقطنا فيه، في وقت من الأوقات!”(23).

“إن نسيان تنفيذ أمر مقصود يشهد بوجود نزعة مناصبة لهذا الأمر. وهذا حق لا ريب فيه”(24). هكذا يقول علم التحليل النفسي. لقد نسي العربي وجه معشوقته. أو فلنقل بأن الراوي نسي أن ينفذ أمراً مهماً ولازماً لسلاسة أي سرد تخييلي يستجيب لعلاقات التاريخ: نسي أن يصف وجه معشوقته. لا مانع، لدى العربي الساكن في الأعماق، من ممارسة الحب مع المرأة ذات العجيزة المتميزة. ولكي يتم السماح بذلك، فقد كان من الضروري لدى هذا العربي ـ المستمر واللازمني ـ أن تعود هذه العجيزة المتميزة إلى عاهرة من مجتمع معادٍ، لا يعرف العلاقات الإنسانية، إلى الدرجة التي يمكن فيها لعاشق أن لا يعرف وجه معشوقته!. ولأن علاقة كهذه لا يمكن أن يقبلها الوعي الأيديولوجي، لدى المؤلف الضمني، فقد كان لا بد لها من أن تنتهي، وأن يحمّل الآخر (النقيض) المغبة الأخلاقية لهذا الانفصال، المقرر مسبقاً.

هنا نلاحظ كيف تسيطر نغمة الاستشهاد على وعي المؤلف الضمني، وهو يجلل بطله بشعور فقدانِ كان هو صانعه، لهدف أيديولوجي يتخفى من وراء الكلمات، في قوله: (وأحسست بشيء من عدم التصديق، عندما فكرت أن هذا لم يعد ملكًا لي، وأنني أفقدها بكثير من السهولة. وأحسست مرة أخرى بالغضب واليأس.. كأن العاهرة تظن بأنني أصدقها).

نحن ندرك الآن أن أيديولوجيا المؤلف الضمني، هي ما صاغ هذه الرؤية، وشكلها، في هذا الإطار الفني من الكلمات؛ حتى من قبل أن نقرأ اعترافات البطل المهزوم، في المقطع التالي: “وفي الحقيقة فإنني قد أحببتها حبًا وثنيًا.. لا أكثر، فقد جرّبت ذلك النوع الساذج من الحب حينما كنت في السابعة عشرة ولا يمكن لمشاعري أن تخدعني بسهولة. وكان يحدث أن أسافر إلى القرية وأتغيب أسبوعًا أو أكثر دون أن أشعر بافتقادها، ولكن فكرة واحدة كانت تملأ كياني بصورة دائمة وأحسّ لها طعمًا غريبًا: إنني أملك امرأة.. امرأة كاملة بكل ما فيها، فأحسّ بشيء من الامتلاء والشبع النفسي”(ص73).

وفي الحقيقة، فإن العربي بطل أحمد حسين لم يملك امرأة كاملة أبداً. وإن وعي المؤلف الضمني هو الذي منعه من ذلك، ودفعه للاستعاضة عن المرأة الكاملة بمجرد عجيزة!.. عجيزة يستطيع أن يمتلك غيرها في أقرب علبة ليلية. وفي خضم كل ذلك، لا مانع من اصطناع شخصيات وحكاية وموضوع، ثم لا مانع من اختراع (براكة)(25) تقوم بمهمتين في آن: مهمة الوطن غير القابل للتقاسم، ومهمة الصراع الذي لا بد له من نهاية، حتى ولو كانت بالتدمير الذاتي.

إن المؤلف الضمني يريد القول بأن لا سبيل هنا إلى تعايش قوميتين، على أرض واحدة منهما، خصوصاً إذا كانت علاقات القوة هي ما يفرض هذا التعايش المستحيل. وحتى لو أدى ذلك الصراع إلى تدمير كل شيء، فإن البقاء سيكون في نهاية المطاف، للقومية الأصلية، بقوة الحق، وشهادة (بقايا المسجد وحطام الحي القديم). وها نحن نرى كيف أبى الراوي القبول باستيلاء اليهودية على البراكة، مختلقاً لمنع ذلك قصة اعتداء المتطرفين اليهود، على كل من العاشق العربي والبراكة المشتركة. وبذا فقد ضرب المؤلف الضمني عصفورين بحجر واحد: إشراك اليهود معه في رأيه باستحالة التعايش، ومن ثم ذهاب البراكة (رمز التعايش) إلى الجحيم، وانهيارها، لكي تتبقى من ورائها رموز الهوية الوطنية: بقايا المسجد، وحطام الحي القديم:

“كانت “البراكة” أشلاء متناثرة من الأخشاب والألواح، وكان الدخان يتصاعد من كومة هامدة من الملابس.. “تكة” سروالها الوردي، موضع الحزام من بنطلوني الرمادي، مقبض حقيبة ملابس.. حطام بعض الأواني الزجاجية. لقد اكتمل منظر الخراب الآن، وعاد الخلاء الواسع إلى أصالته بعد أن زالت تلك الندبة الخشبية عند طرفه الجنوبي، حيث بقايا المسجد وحطام الحي القديم”(ص95).

أن يعود الخلاء الواسع إلى أصله. ذلكم هو الهم الأيديولوجي الذي لا يزال يراود وعي المؤلف الضمني، من وراء بطله. وهذه هي النهاية الطبيعية للعلاقة ـ المقررة في وعيه ـ بين العرب واليهود؟. أليس في هذا نوع من الثأر، من كل هذه الهزائم العربية المتوالية؟.

إنها قصة أزمة. لا قصة واقعة. إنها قصة الرفض الصارخ لكل علاقات القوة الآنية. إنها الاستعاضة المرضية عن الواقع المقهور. العربي هنا ينتصر باعتلائه العجيزة اليهودية، التي لا وجه لصاحبتها. حيث شذوذ الممارسة، هنا، هو المعادل الموضوعي لشذوذ العلاقة بين الطرفين؟.

لا وجه لليهودي المنتصر هنا. ومن لا وجه له فلا حقيقة له. لا حقيقة للتعايش هنا بين العرب واليهود، بل هناك نوع من المساكنة الشاذة، والممارسة الجنسية الشاذة، في فضاء لا يمكن له إلا أن يكون (ندبة) تنتظر من يزيلها.. هي ذي علاقات غير طبيعية، يفرزها واقع غير طبيعي. هذا هو ما تريد القصة أن تقوله، منذ البدء. وهذا هو ما فهمه النقاد الإسرائيليون ـ بحق ـ حينما قرروا أن هذه القصة قد طعنت التعايش العربي اليهودي، في (إسرائيل)، في مقتل.

النص الثالث: قاعدة المثلث(26):

وجهة النظر شكلاً ومحتوى:

بخلاف النصين السابقين، نحن الآن أمام راو موضوعي يسرد بضمير الغائب. فهو راو عليم يحيط بالموجودات ويتغلغل في وعي الشخصيات. وهذا الراوي يصطنع له بطلاً هو الشخصية المحورية التي تدور حولها الأحداث. ويبدأ بهذه الفقرة:

“فطن إلى أنه ليس خائفًا كالمعتاد. استغرب ذلك بل وأحسّ حتى بشيء من القلق. إن إحساس الإنسان لا يمكن أن يتبلد بهذه السرعة؛ فهذه ليست إلاّ تجربته الثالثة. وإذا كانت الأمور قد سارت بسهولة في المرّتين السابقتين، فلا يعني هذا أنها ستسير بنفس السهولة في هذه المرّة أيضاًً، وأن الأمر كان مجرّد حظ فقط. وهو يدرك الآن تمام الإدراك أن الحظ شيء لا يمكن الاعتماد عليه، بل إنه ليصرّ على أنه من أكثر الأمور قذارة وفوضوية في هذه الحياة. فماذا يعني هذا الاطمئنان أو هذه اللامبالاة  إذن!”(ص191).

لن نتوقف طويلاً أمام إهمال المؤلف تسمية البطل، فنحن ـ بالنظر إلى طبيعة المحتوى النصي ـ سرعان ما ندرك أن المراد بذلك تعميم الدلالة، لتحيل إلى كل الأفراد الفلسطينيين في الأرض المحتلة. نقول: كل الأفراد الفلسطينيين، رغم أن القصة تقدم لنا شخصيات فلسطينية أخرى، لا ينالها هذا التعميم. ولعل هذه إحدى إشكاليات وجهة النظر، التي سيحاول هذا التحليل تسليط الضوء عليها. نقول بأننا لن نتوقف طويلاً أمام كل هذا، لأن ما يشغلنا ونتوقف أمامه هو هذا الراوي الشفاف، الذي يصر المؤلف الضمني على الظهور من ورائه. حيث لا يفعل مؤلف ذلك إلا تحت ضغط الأيديولوجيا.

وإذا كنا قد قلنا سابقاً بأن المؤلف الضمني هو شخصية المؤلف، التي يستنتجها المتلقي من بين ثنايا النص؛ فقد أصبح واضحاً لدينا أن أحمد حسين ـ المؤلف المدني والمناضل القومي ـ هو من يقف وراء هذه الرؤية الأيديولوجية. إنه يريد أن يقول لنا ما يراه؛ من ضرورة إعطاء التخطيط العلمي حقه، خصوصاً في قضايا النضال الوطني، حيث يحرمُ إهمال شيء من العلمية بذريعة الحظ. ولولا ذلك لكان قول الراوي (الحظ شيء لا يمكن الاعتماد عليه)، مجرد نافلة لا قيمة لها. وهل يمكن للفدائي المتهيئ لعملية، قد تكلفه حياته، أن يسائل نفسه مثل هذا السؤال؟. صحيح أنه يسائل نفسه، بهذه الطريقة، بعيد اكتشافه أنه يشعر بكثير من اللامبالاة، في موقف أبعد ما يكون من ذلك. لكننا سوف نكتشف أن السبب كامن في المحيط الخارجي، الذي يبث جراثيم العدوى. والمقطع التالي هو الذي يقول ذلك:

“قالت أمه: لماذا نحن دون غيرنا! واحد في التراب، وواحدة في السجن، والثالث بينهما. وقال واحد عن الطاولة التي عن يمينه: ميرمية من فضلك! سكر زيادة. كانوا ثلاثة. ملامحهم مختلفة إلى حد بعيد، ولكنهم مع ذلك متشابهون؛ وإلى حد بعيد أيضا. ونظر في ساعته بينما أمّه تقول بصوت مليء بالعذاب: إنها خدعة! واحد يموت، ومئة يتزوجون!”(ص192).

إذن فنحن في مقهى عام؛ حيث ولدٌ يتهيأ للموت، وأمٌ تتساءل بيأس عن الجدوى؛ والمحيط الخارجي ـ الذي هو مجموعة من المواطنين الفلسطينيين تحت الاحتلال ـ يعزز من رؤيتها المستجدة هذه. وفي المقهى يوجد على الطاولة اليمنى (ثلاثة. ملامحهم مختلفة إلى حد بعيد، ولكنهم مع ذلك متشابهون؛ وإلى حد بعيد أيضا)، مهمتهم أن يقابلوا ثلاثة آخرين، هم أبناء الأم: الشهيد والسجينة والمتهيئ للاستشهاد.

يقول تيري إيجلتون: “إنني أرغب في نوع من النقد, يتخذ من الصراع حول القيمة الفنية ـ أو ما اعتدنا على تسميته بالذوق الفني ـ منطلقه الأساسي؛ ثم يشرع في دراسة العوامل التي تتدخل في تكوين ما نسميه بالقيمة الجمالية… فلننطلق في بحثنا من هذه المنطقة”(27).

وهذا النوع من النقد هو الذي نتوخاه، حين نقول بأن القص هنا يعود إلى وعي الشخصية الرئيسية: الفدائي الذي يتقنع به الراوي؛ والذي يصطنعه لنا مؤلف ضمني مشابه. ووجهة النظر المكانية هنا منطلقة من منظوره، حيث موقعه الجغرافي هو الذي يحدد الجهات الأربع: فالثلاثة على الطاولة الواقعة عن يمينه. لكننا بالإضافة إلى ذلك ـ وربما فيما هو أهم من ذلك ـ نكتشف وجهة نظر قيمية، تقابل بين موقعين أيديولوجيين متناقضين: فهنا ثلاثة أشخاص يجلسون في المقهى، متشابهون في سلبيتهم الوطنية، رغم أنهم مختلفون في دوافعهم. وهناك ثلاثة إخوة آخرون، متشابهون في دوافعهم الوطنية، رغم أنهم مختلفون في أشكالهم وجنسهم. والابن والأم يستخلص كل منهما العبرة بطريقته الخاصة.

(إنها خدعة! واحد يموت، ومئة يتزوجون). ورغم أن هذه العبارة صادرة عن الأم، إلا أنها هي التي ستوجه وعي البطل، وإن كان ذلك في اتجاه مختلف عما أرادته أمه. وهنا كان لا بد من تدخل الراوي لاصطناع موقف مناسب لهذه التحولات الجديدة. فلننظر في هذا المقطع تمهيداً لتفكيك علاقاته:

” ومرّة أخرى نظر في ساعته، ثم إلى الشارع باتجاه اليسار. ولاحظ أنه يجب أن يغير من وضعه قليلاً، لتتجنّب نظرته الطربوش، الذي كان يحجب قطاعًا منحرفًا من الشارع ينتهي عند النقطة المهمّة بالذات. ولكن الأمر لم يكن سهلاً، فالطربوش لم يكن ثابتًا على وضع واحد. كان ينحني ويستقيم ويتأرجح مع كل جملة يقولها صاحبه لزميله”(ص192).

نحن الآن في مواجهة عالم تخييلي ذي بنية مركبة: طاولة تقع في الناحية اليسرى، يجلس حولها شخصان متشابهان، أحدهما يعتمر طربوشاً أحمر. ثم طاولة أخرى في الناحية اليمنى، يجلس حولها ثلاثة متشابهون. وفي المقابل أم وابنها، ومجموعة من التصورات والأحلام والمشاعر. ولأننا نعرف مسبقاً بأن “قدراً كبيراً من المعرفة من الممكن له أن يتاح، حول أي بنية، وذلك من خلال تفكيكها ثم تجميعها مرة أخرى”(28)؛ فقد ركزنا على أهم ما في هذه البنية السردية من محتوى جمالي: وجهة النظر (point of view).

 فلنلاحظ هنا كذلك كيف تحيل وجهة النظر المكانية إلى محتوى أيديولوجي، مرجعه وعي المؤلف، الذي نرى نسخته  الثانية هنا: فالطربوش الأحمر لا يكتفي بحجب الهدف الصهيوني عن الفدائي؛ بل يواصل تأرجحاته التي لا تسمح بالثبات على موقف واحد.

الناحية اليسرى لا تأتي هكذا عبثاً، فكل كلمة في القصة لها وظيفة. وإذا كانت الطاولة اليمنى تحيل إلى مدلولات سياسية خاصة، فإن الطاولة اليسرى تحيل إلى قوى اليسار الصهيوني، الذي نجح في اجتذاب العديد من المنتفعين الفلسطينيين، بغض النظر عن شكلهم الخارجي، الذي قد لا يتوافق وشعارات اليسار النظرية المشتعلة. نعرف ذلك من خلال المقطع، الذي يحمّل الراوي فيه صاحب الطربوش (المتخلف) مقولات الحزب الشيوعي الإسرائيلي، حين يقول: “لا يمكن السكوت على هذا! يجب أن يكون هناك شيء من العدل. للاحتلال أيضًا قوانين يجب أن يتقيّد بها. وقد قلت ذلك منذ البداية، دون أن أخشى أحدًا”(ص193).

وهذا هو أقصى ما كان ممكناً لـ(سكان عرب) منخرطين في حزب شيوعي إسرائيلي، لا يسمح لهم بأكثر من المطالبة ببعض الحقوق المدنية، في دولة اليهود، مقابل الكثير من التعايش والقبول بالواقع(29). ألا نرى هنا صوت المؤلف الضمني واضحاً؟.

ولكي يتمكن الفدائي من تحديد هدفه، فلقد كان عليه أن يختار موقعه بين الطاولتين، اليمنى واليسرى. وباختياره هذا الموقع الجغرافي، أصبح في مقدوره السرد من وجهة نظر مزدوجة: الأولى مكانية تنطلق من وعي الرائي (الفدائي) الجالس في الوسط؛ والأخرى أيديولوجية تحمل حركات الشخص الآخر (الطربوش) مدلولات سلبية قيمياً ووطنياً. فلننظر كيف فعل الراوي ذلك:

“وأصبح الآن في وضع ملائم بحيث أصبح يكوّن من مكانه مثلثًا متساوي الساقين مع الطاولتين الأخريين، ولم تعد بهلوانيات الطربوش الأحمر تعيق مراقبته”(ص193).

لا شك أن وجهة النظر، في الأصل، هي مبحث جمالي بحت ـ أو شكلاني إن شئنا الدقة أكثر ـ لأنه يتمحور حول علاقات الشكل، بعيداً عن المحتوى الأيديولوجي للنص. لكننا إذا ما أردنا تطوير التعامل مع المباحث الجمالية، لتتسع للمعنى؛ فسوف نكتشف أن لدينا إمكانات تفسيرية أخرى، لوجهة النظر. وفقد سبق أن لاحظ لوكاش ـ بمنتهى حدة الذهن ـ “أن الأشكال نفسها هي الحوامل الفعلية للأيديولوجيا في الفن، وليس المضمون المجرد للعمل الأدبي: فنحن لا نرى أثر التاريخ في العمل الأدبي، إلا من حيث كونه عملاً أدبياً على وجه التحديد”(30).

وعندما يختار نص أدبي فلسطيني، للفدائي، موقعاً جغرافياً هو قاعدة المثلث؛ فإن على التفسير أن لا يمر على هذا الاختيار، دون الحفر في أعماق علاقاته الأيديولوجية: فساقا المثلث المتساويان شكلاً، يحيلان إلى موقفين سياسيين متشابهين، لكل من اليمين الرجعي واليسار الشيوعي، في فلسطين المحتلة. وبما أن المؤلف الضمني يرفضهما سوياً، إذن فمن الطبيعي أن يتموقع قيمياً، مع الفدائي، في قاعدة المثلث: إذ من المفترض أن (القاعدة الشعبية) هي أساس الموقف الصلب، لكل الثوريين، كما هو حال القاعدة بالنسبة للمثلث المتساوي الساقين. وهكذا سوف يصبح ممكناً لنا رؤية أن وجهة النظر، وفق هذا التناول، قادرة بالفعل على أن تلقي كثيراً من الضوء، لا على مقدار تشابه الموقفين فحسب، بل كذلك على مدى طفيليتهما: إذ يعتمدان في الإضرار بأمتهما، على قاعدة منها. وهو أمر كان وعي الشخصية الرئيسية قد أدركه. نفهم ذلك من قوله لأمه: “وأنا أيضًا لا أفهم! إنها المأساة الحقيقية لنا.. أكثر حتى من الاحتلال، وأنا أحسّ بهذا”(ص195).

ها نحن الآن نرى وجهة النظر الأيديولوجية للشخصية الرئيسية، وقد بدأت تتجه نحو التحول في الهدف. ورغم أن التحول لا يكون تحولاً درامياً إلا بعد المواجهة؛ إلا أن المؤلف الضمني مدرك أن عليه، قبل ذلك، أن يبرر موقفه الأخلاقي الجديد؛ وذلك بتصوير هؤلاء (الأعداء الجدد) في صورة لا يمكن لها إلا أن تحظى بسخط المتلقي، فتتيح للراوي من ثم أن يدفع الفدائي لاستهدافها، على اعتبار أنها تعترض الطريق إلى المصفحة. ولنقرأ هذا المقطع:

“وفطن إلى الطاولة التي عن يمينه وهي تقول: وكنت في طريقك إلى المسجد للصلاة، وحدث أن دلقت امرأة ما سائلاً إلى الشارع وأصاب ثيابك منه شيء فكيف تفعل؟ إنك لا تعرف ماهيّة السائل نجاسة هو أم لا.. فهل تجدّد وضوءاً أم تصلّي بغير ذلك!. الأمر واضح. أسأل المرأة! أتوضّأ.. ماذا يقول الأستاذ إبراهيم؟ يغلب أن ما تدلقه النساء من ماء إلى الشوارع يكون فيه نجاسة من براز طفل أو دم حيض أو… واحتدّت الطاولة اليسرى لأول مرّة: إنه كذاب منافق! لقد أخلي المستوطنون بفضل احتجاجنا فقط”(ص196).

كلهم مشغول بتحقيق مكاسب وهمية، تمهيداً للفوز بمقعد في البرلمان، ولو على حساب القضية الوطنية.

ولو قارنا هذا التصوير الدال، لموقف مثل هذه الحفنة المنتفعة، بالموقف الأيديولوجي للمؤلف الضمني؛ فسوف ندرك أن كل ذلك هو من فعله: إذ يريد لنا أن نراه متطابقاً مع شخصية المؤلف المدني أحمد حسين، المناضل القومي الناصري، الذي سبق له أن وصف الانتخابات الإسرائيلية بأنها “قضية عائلية يهودية. ومن الصفاقة تدخل الغير في الشؤون العائلية للآخرين”(31).

إذن، هل حدث هنا نوع من التطابق؟. ربما. ولكن المؤكد أن هذا لا يحدث إلا نادراً، ومع المفكرين العضويين الذين طالما حلم بهم غرامشي(32). إن قبولنا بهذا الاستنتاج هو الذي سوف يؤهلنا لنوع من عقد المقارنة، بين شخصية المؤلف المدنية، التي نعرف مواقفها الحقيقية، وبين هذه النسخة النصية التي لن تتورع عن خداعنا، إن وجدت الطريق إلى ذلك ممهدة.

وإذا كانت كل هذه الشخصيات تحول القضية الوطنية إلى (مأساة حقيقية أكثر من الاحتلال)، كما رأينا في مقطع سابق؛ فقد كان لا بد للراوي من أن يأتي بالمصفحة، لتمر تحت مرمي قنبلة الفدائي فلا تنطلق من يده، في تعبير عن تحقق هزيمةِ وعيٍ قديمٍ مترددٍ، أمام وعيٍ جديدٍ ينشئه فشلُ العملية الفدائية: وعي يوجه الفدائي نحو هدف جديد، بتنا الآن نتوقعه، بعد كل تلك المقدمات اللافتة. فلننظر كيف تحقق ذلك في النص:

“وهبّت كل مشاعره دفعة واحدة، وأحسّ بجلده يمتلئ بشيء كالهواء الساخن حتى يكاد ينفجر … لقد ظهرت النقطة السوداء عند النقطة البعيدة، وخيّل إليه أنهم يسمعون دقات قلبه حتى من ذلك البُعد، ماذا حدث له؟”(ص198).

لقد حدث له ما لا بد أن يحدث لأمثاله، في موقف كهذا. ظهرت المصفحة، وحرر حلقة الأمان من القنبلة. ولكنه لم يقذفها على الدبابة.

يقول تيري إيجلتون: “الأدب أيديولوجيا لأنه أحد الوسائل التي تستخدمها مجموعات اجتماعية معينة، لتمارس وتفرض سلطتها على الآخرين”(33). ولقد حاول الراوي ملحاً أن يضعنا تحت تأثير توجيهات صارمة، تقيد رؤيتنا التفسيرية، وتقرر لنا ما يجب وما هو ممنوع؛ وذلك عندما أرادنا أن نتعاطف مع رؤية المؤلف الضمني، في ضرورة إلقاء القنبلة على الطاولتين، بدلاً من المصفحة.

وحيثما سعت دراسة نقدية إلى إلقاء الضوء على علاقات النص الخفية، أمكن لنا أن نسميها تفسيراً (Interpretation)، كما هو الحال لدى المحلل النفسي عندما يسعى “إلى إبراز معنى جديد، فيما وراء المعنى الظاهر”(34)، في خطاب المريض.    

إننا إذن في مواجهة راوٍ يحاول أن يمارس بحقنا عدداً من استراتيجيات الخداع، مثله في ذلك مثل مريض يخضع لعملية تحليل نفسي، تحفر في لاشعوره المتخفي من وراء وعيه الظاهر. فهذا السرد نص ظاهر، أما الخطاب (Discourse) فيخفي وراء الكلمات الظاهرة عملية (قلب) استبدلت المختلف الضعيف بالعدو القوي، تحت ضغط كبت يبحث عن التنفيس. “فقد عرفنا من قبل تلك القاعدة التفسيرية: أن كل عنصر، من حيث تفسيره؛ قد يعرب عن ضده، كما يعرب عن نفسه… والذي يجعل هذا القلب إلى الضد شيئاً ممكناً، هو هذه الرابطة الاستدعائية الباطنة، التي تربط في فكرنا بين فكرتنا عن شيء وبين ضدها. وهذا القلب ـ شأنه شأن أي نوع آخر من أنواع النقل ـ قد يخدم أغراض الرقابة، ولكنه قد يكون أيضاً، في أحيان كثيرة، وليد تحقيق الرغبة: فما تحقيق الرغبة إلا أن تستبدل بشيء مستكره ضده”(35).

لا رغبة لدينا، ولا رغبة حقيقية لدى المؤلف الضمني؛ في رؤية القنبلة تلقى على الضعفاء، لمجرد سلبيتهم. لكننا نقف هنا، في الحقيقة، أمام شحنة غضب عارم تبحث عن تنفيس: حيث لا تجد النفس وسيلة لذلك أسرع من تفريغ شحنتها في أقرب محيط، بشرط أن يكون ذلك ممكناً. وهذا هو ما كان، حين ألقى الفدائي القنبلة ـ التي تبحث لها عن هدف ـ على الطاولتين. أما كل هذه التقنيات الجمالية فلم تكن إلا محاولة لتسريد الهزيمة، وجعلها من ثم مجرد حكاية يمكن للراوي أن يجد لها الحل في النهاية.

مرة أخرى نرى أنفسنا في مواجهة نوع من (القلب)، الذي تحدث عنه فرويد في المقتبس السابق: قلب يستبدل بشيء مستكره ضده، خصوصاً إذا كانت مواجهة هذا الشيء المستكره متعذرة؛ فهو يضع المشجب أمام عيني عاجزٍ ينوء بعجزه، ويبحث عن شيء يعلقه عليه. ولقد قدم له الراوي هذا المشجب بالفعل، حين حاول إقناعنا بأن هؤلاء السلبيين الجالسين على الطاولتين، هم المتسببون الحقيقيون في هذه الهزيمة. ولقد استعان في سبيل ذلك بحيل جمالية، لعل المقطع الأخير أقدرها على التأثير:

“وفجأة فهم كلّ شيء. إنه لم يُهزم. اللحظةُ لا تزال تنتظر. لم يكن الخوف هو السبب…الرؤية فقط. لم يكن كل شيء واضحًا كما هو الآن. نظر عن يمينه وعن شماله إلى الطاولتين!. وتذكر رغمًا عنه العمود النازل من الرأس على منتصف القاعدة وقذف بالقنبلة. واستدار على منتصف القاعدة وقذف بالقنبلة. واستدار خفيفًا ممتلئًا كغمامة ملأى بالمطر”(ص200).

الرؤية هي التي تحدد جدوى الهدف التكتيكي. هذا ما يريد المؤلف الضمني أن يقوله هنا، متلفعاً بتصوير جمالي يكاد يخدر الإحساس، كما في قوله: (وتذكر رغمًا عنه العمود النازل من الرأس على منتصف القاعدة، وقذف بالقنبلة. واستدار على منتصف القاعدة، وقذف بالقنبلة. واستدار خفيفًا ممتلئًا كغمامة ملأى بالمطر).

ومع ذلك فما زلنا لا نعرف بعد: هل الرؤية هذه هي الوطن، أم أنها صورة الطريق إلى الوطن؟. ثمة كثير من المفكرين الأيديولوجيين الذين استعاضوا بالصورة عن الأصل، في خضم جدالهم الفكري المحض. ولقد نعزي أنفسنا بأن كل هذا من الممكن له أن يزول، حين يتحرر الوطن.

هناك عديد من الدلالات الموضوعية، التي من الممكن أن تحيل إليها مراجعة مبحث شكلاني الأصل كوجهة النظر. وقد رأينا مثال ذلك في تلاعب النص بتعبيرات، تعودنا على مجرد التوظيف الجمالي لها، لتحيل إلى محتوى أيديولوجي موضوعي: حيث نكتشف، إضافة إلى الدلالة الشكلانية المعهودة لوجهة النظر، دلالةً موضوعية قيمية، تنتج مرة عن المقابلة بين موقعين أيديولوجيين متناقضين للشخصيات؛ ثم تنتج مرة أخرى، عن مقابلة مشابهة بين قاعدة المثلث المتساوي الساقين ـ كموقع جغرافي لوجهة نظر الشخصية الرئيسية ـ من جهة؛ وتعبير (القاعدة الشعبية) ذي المحتوى المرجعي الأيديولوجي لكل النظريات الثورية، من الجهة الأخرى… وهكذا.

خاتمة البحث:

نلاحظ في النص الأول (الشوط الرابع) أن الكاتب قد نجح بالفعل في توصيف انفعالات الغريزة: إذ تسارعت أنفاسنا ونحن نراقب روعة تصوير الراوي للحظة التمرد العنيف، لدى الشخصية الرئيسية (صالح)، على واقع القهر الذي ظل مفروضاً عليه، قبل أن يتمكن من قهره وتحديه. وبذا يمكن القول إن الخطاب المضمر لهذا النص يستلهم مقولة الفلسطيني في الدولة اليهودية: (ما يؤخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة).

أما في النص الثاني (الوجه والعجيزة) فقد بدا لنا واضحاً العنف اللفظي للمؤلف، في تحديه لكل إملاءات القوة الصهيونية، على المواطنين العرب في الدولة اليهودية. إذ نرى العربي (سامي) يستعيض عن هزيمة قومه، باعتلاء العجيزة اليهودية التي لا ملامح لصاحبتها. وإذا كنا نعلم أن كل تنكير هو تعميم فإن لنا أن نتصور كيف أمكن للمؤلف أن يجعل من هذه العجيزة المعتلاة نائبة عن كل اليهود المحتلين. ولكي لا يذهب بنا الظن بعيداً، فنتخيل أن هذا نوع من علاقة توحد إنساني بين قوميتين فإن المؤلف يعمد إلى إنشاء صراع بين المتساكنين (سامي) و(ليزه) حول البراكة مكان السكن المشترك، ويجعل اليهودية تصر على الاستئثار بها دون العشيق الذي تتهيأ لطرده. ثم لا يجد المؤلف من حل لهذه العقدة سوى أن يزيل البراكة، التي أدرك سامي أخيراً أنها لم تكن أكثر من ندبة في الخلاء الواسع الجميل. وبذا يؤكد النص استحالة التعايش بين الفلسطيني وقاهره على أرض فلسطين.

أما في النص الثالث (قاعدة المثلث) فقد بدا لنا ضرورة الاستعانة بأدوات التحليل البنيوي، وذلك عندما تطرقنا إلى وجهة النظر. حيث توخى التحليل تحميل وجهة النظر ـ وهي في الأصل مقولة بنيوية جمالية ـ مدلولات أيديولوجية تاريخية، تحيل في أغلبها إلى مقولات المؤلف الضمني. ولقد يمكن تأكيد ما ذهبنا إليه، من تأمل بسيط لطبيعة التشبيه الذي لجأ إليه الكاتب، حين رسم صورة مفعمة بالجمال للمناضل الذي يقذف قنبلته على مواطنيه السلبيين بدلاً من الدبابة، بالكلمات الآتية: (وقذف بالقنبلة. واستدار خفيفًا ممتلئًا كغمامة ملأى بالمطر). ونحن نعرف أن تشبيهاً كهذا هو تعبير لا يخلو من مدلولات أيديولوجية، يتعاطف معها كاتب النص، أو الكاتب الذي نستكشفه في النص.

ــــــــــــــ

الإحالات:

1ـ تيري إيجلتون. مشكلة القيمة الفنية: حوار بين الناقد الأدبي تيري إيجلتون والناقد الفني ﭙيتر فوللر. ترجمة وتقديم نهاد صليحة. من كتاب لعدد من المؤلفين بعنوان: التفسير والتفكيك والأيديولوجيا ودراسات أخرى. القاهرة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 2000.  ص35ـ 36

2ـ ميخائيل باختين. الخطاب الروائي. ترجمة محمد برادة. ط1. القاهرة. دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع. 1987. ص63

3ـ انظر: إدوارد سعيد. الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء. ط4. ترجمة كمال أبو ديب. مؤسسة الأبحاث العربية. بيروت. 1995ص275

4ـ انظر: ﭭنسنت. ب. ليتش. النقد الأدبي الأمريكي من الثلاثينيات إلى الثمانينيات. ترجمة محمد يحيى. مراجعة وتقديم ماهر شفيق فريد. المجلس الأعلى للثقافة. المشروع القومي للترجمة. القاهرة. 2000. ص410

5ـ أحمد حسين. الوجه والعجيزة (مجموعة قصصية). الناصرة. الصوت. 1979

6ـ كارل يونج. علم النفس التحليلي. ترجمة نهاد خياطة. القاهرة. مكتبة الأسرة. 2003. ص278

7ـ سيجموند فرويد. تفسير الأحلام. ترجمة مصطفى صفوان. مراجعة مصطفى زيور. ط5. القاهرة. دار المعارف. دون تاريخ. ص591

8ـ انظر: تيري إيجلتون. الماركسية والنقد الأدبي. ترجمة جابر عصفور. فصول. م5. ع3: ابريل/ مايو/ يونيو 1985. ص24

9ـ روبرت همفري. تيار الوعي في الرواية الحديثة. ترجمة وتعليق وتقديم محمود الربيعي. القاهرة. مكتبة الشباب. دون تاريخ. ص44

10ـ انظر: عزيزة صالح حافظ. نحو منهج للنقد الثقافي. دراسة من كتاب لعدة مؤلفين، بعنوان: النقد الثقافي والنقد النسوي. ط1. القاهرة. دار غريب للطباعة والنشر. 2003. ص29 ــ 31 

11ـ جورج ساتيانا. الإحساس بالجمال. ترجمة محمد مصطفى بدوي. مراجعة وتقديم زكي نجيب محمود. مكتبة الأسرة. القاهرة. الهيئة المصرية العامة للكتاب 2002. ص247

12ـ جيل دولوز. التجريبية والذاتية. بحث في الطبيعة البشرية وفقاً لهيوم. ترجمة أسامة الحاج. ط1. بيروت. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. 1999. ص52

13ـ انظر: رايموند وليامز. الثقافة والمجتمع. ترجمة وجيه سمعان. مراجعة محمد فتحي. القاهرة. مكتبة الأسرة. 2001 . ص92

14ـ الوجه والعجيزة. مصدر سابق.

15ـ انظر: إدوارد سعيد. الاستشراق: مصدر سابق. ص275

16ـ (اسكت) نوع من السجائر الإسرائيلية. و(معريب) اسم صحيفة يومية عبرية.

17ـ انظر: سوزان. أ. باسنت ـ ماجواير. نحو نظرية لمسرح المرأة. من كتاب: التفسير والتفكيك والأيديولوجيا ودراسات أخرى مصدر سابق. ص147

18ـ انظر: موقع سعيد بنكراد: http://saidbengrad.free.fr/al/n6/3.htm. نسخة مسحوبة من الموقع بتاريخ :2/ 8/ 2008

19ـ جورج ساتيانا. الإحساس بالجمال. مصدر سابق. ص56

20ـ وين بوث. بلاغة الفن القصصي. ترجمة أحمد خليل عرادات وعلي أحمد الغامدي. الرياض. جامعة الملك سعود. 1994. ص83

21ـ عبارة يهودية متداولة تعتبر المفهوم الأشهر في تحديد علاقة الصهيونية بالعالم: حيث لا تكتفي بتأثيم النازية، بل العالم كله في نظرها آثم، لأنه صمت يوما عن المحرقة، كما تعتقد.

22ـ انظر: كارل يونج. علم النفس التحليلي. مصدر سابق. ص141 ــ 142

23ـ كارل. يونج. علم النفس التحليلي. مصدر سابق ص103

24ـ سيجموند فرويد. محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي. ترجمة أحمد عزت راجح. مراجعة. محمد فتحي. القاهرة. مكتبة الأنجلو مصرية. دون تاريخ. ص65

25ـ الكلمة من الفلسطينية الدارجة. وهي غرفة من صفيح تقام كبناء عشوائي في أحد الأماكن غير المأهولة.

26ـ الوجه والعجيزة. مصدر سابق.

27ـ تيري إيجلتون. مشكلة القيمة الفنية. مصدر سابق. ص30

28ـ جلين ويلسون. سيكولوجية فنون الأداء. ترجمة شاكر عبد الحميد. مراجعة محمد عناني. الكويت. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. سلسلة عالم المعرفة. 2000. ص12

29ـ انظر: جبريل محمد وآخرين. فلسطينيو 48: نضال مستمر (1948ـ1988). ط1. القدس. الزهراء للدراسات والأبحاث. 1990. ص196

30ـ انظر: تيري ايجلتون. الماركسية والنقد الأدبي. مصدر سابق. ص28

31ـ محطة الباصات المركزية. قصة من مجموعة: الوجه والعجيزة. ص111 

32ـ انظر: إدوارد سعيد. العالم والنص والناقد. ترجمة عبد الكريم محفوض. دمشق. منشورات اتحاد الكتاب العرب. 2000. نسخة مسحوبة من الموقع الألكتروني للاتحاد:  www.awu-dam.com . بتاريخ 1/12/2007. ص90

33ـ انظر: ألڤين كرنان. موت الأدب. ترجمة بدر الدين حب الله الديب. القاهرة. المجلس الأعلى للثقافة. المشروع القومي للترجمة. 2000. ص93

34ـ حسن المودن. مترجم جان بيلمان نويل. التحليل النفسي والأدب. القاهرة. المجلس الأعلى للثقافة. المشروع القومي للترجمة. 1997. هامش الصفحة 61

35ـ سيجموند فرويد. تفسير الأحلام. مصدر سابق. ص469

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى