المكان بين ذاكرتين.. قراءة في ( أيّام طبرق ) 1 للشاعر ياسين طه حافظ

بلاسم الضاحي | ناقد أديب عراقي

مقدمة :

تعد المهارة الشعرية في كيفية تحوّل المشهد المرئي المألوف في ( مكان ما ) وأحالته الى الورق / كتابة تحيل المتلقي الى إعادته ثانية وتمثله مشهداً مرئياً( صور ي ) غير مألوف تكمن الدهشة في مهارة هذا التحوّل الذي ينتجه الخيال الشعري مقروناً بمهارة الشاعر وخبرته على اعتبار ان الخيال ( خزان واسع يستمد منه الشاعر كثيرا من المدارك المتنوعة والخبرات والتجارب الشعرية المختلفة ) 2 المهارة اذن : في استرجاع هذا الخزين وتحويل المعنى المباشر المستمد من المكان على اعتباره جزء من مخزون الذاكرة وإنتاج معنى جديد ينتجه مع الخيال الشعري وتتلاقه ذاكرة المتلقي لتعيد إنتاجه على وفق معطياتها ، بهذه الحرفية والمهارة والخبرة الطويلة اشتغل الشاعر ( ياسين طه حافظ ) في مدونته على اعادة انتاج المكان بمسميات اخرى فاعتبر ( النخلة )مثلا مكانًا عراقيًا أينما كانت وسوّقه للمتلقي شعراً فيه من الاكتشاف والاختراع والدهشة الكثير

– ستكبرين ايتها البنت العراقية –

المكان :

وردت تعريفات كثيرة في المعاجم اللغوية للمكان منها تعريف ( الفيروز آبادي ) اذ عرفه ( المكان بمعنى الموضع والجمع أمكنة وأماكن ) 3 وهذا تعريف مادي ، مباشر ، معلوم خارج فاعلية ما يحدثه المكان داخل النص كاداة تثوير واستذكار ونمو وإيحاء يقرّب المعنى خارج كينونة المكان الماديةالتعريفية الاولى له على انه جزء او حيّز ما من الكون ، المعنى الاخر ، ان للمكان وجود طبيعي ووجود افتراضي الاول أوجدته الطبيعة والآخر يفترضه النص ويخلّقه من جديد وحسب ( جاستون باشلار ) ( المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لايمكن ان يبقى مكاناً غير مباليًا ، ذا ابعاد هندسية وحسب بل لكلِّ ما للخيال من تحيّز ) 4

الذي لا يهمنا تعريف الفيروز آبادي للمكان هنا والذي يهمنا اشتغال الخيال حين يكون قرينًا للمكان هذا الاقتران وما يشكله من اهمية فنية داخل النص خارج هيمنة المكان الجغرافية بمعنى ادق ما يهمنا هو كيفية توظيف المكان خيالياً وبذهنية خيالية قادرة على اخراج المكان من هيمنته الجغرافية الى تشكيل شعري ، تأويلي ، مُنتج والدخول به الى آفاق معبرة تحمل دلالاتها وليس للمكان اهمية اذا لم يعيد إنتاجه الشاعر بغير ذلك يظل المكان مجرد طللاً لا حياة فيه ، الذي يهم في استلهامه من المكان هو ( تكوينه الذاتي بما يمتلكه من عناصر بنائية تسهم في بنية النص ) 5

الشاعر هو الذي يحيي المكان ويبث فيه الحياة ويمنحه بعدًا ثقافياً جديداً داخل النص يختلف عن وجوده خارج النص اعني وجوده الجغرافي التاريخي .

الكون بأسره هو مكان و ( طبرق ) جزء من هذا المكان الكوني كيف حوله الشاعر الى سؤال ؟ انطلق منه وفرضه على المتلقي لإعادة تمثله واستثمار طاقته في انتاج معنى .

طبرق ، الصبيّة الناعمة

تجلس بين ابيها المتوسط وامها

الصحراء

وبكلمات الاولاد وابتساماتهم

تريد ان تزيل الخلاف

بين امها والبحر .ص 58

بفعل الخيال الشعري حوّل الشاعر ( طبرق ) المكان من طلل الى كائن منحها حياة وكينونة جديده / الاولاد وابتسامتهم / وأعطاها اهمية فاعلة حفزت البحر / مكان ومنحته حياة كائنة وكذلك الصحراء / امها / في النص لم تعد طبرق مكاناً جغرافياً داخل النص وانما صيّرها / الخيال / الشاعر الى كائن حي وواسطة محبة وسلام .

( طبرق ) هكذا يقول عنها الشاعر ياسين طه حافظ في مقدمة ديوانه الموسوم ( أيام طبرق ) محل بحثنا ولمن لا يعرف ( طبرق بلدة ليبية تحتفظ بلبها الأبيض بفطرتها ، هي بلدة تريد ان تحتفظ بروح القرى وسلامة الصحراء ، هي لسان صخري في البحر ، الصحراء سند من جهة وللبحر منها جهتان ) ص5

من الذي جاء بها إلينا الآن ؟؟

ذاكرة الشاعر الجديدة ، الشاعر من حوّلها من وجود جغرافي قصي الى أيقونة جمالية شعرية تماهى بها مع أيقونات مكانية اخرى مختزنة في ذاكرة الشاعر القديمة وأحدث بها ومن خلالها مقاربة جمالية بين :

ذاكرتين / مكانين

ذاكرة قديمة / ذاكرة جديدة

العراق ، مكان / طبرق ، مكان

احتوت هذه المجموعة ( 35 ) عنواناً تراوح بين نص قصير ومتوسط لتأتي ب (95 ) صفحة من القطع المتوسط شكّل المكان سمة في هذه العناوين التي حملت دلالة مكانية ( 12 ) نصاً وهذا مؤشر قادنا ويقود المتلقي الى قراءة هذه المجموعة على وفق معطيات المكان داخل النص وما يبوح به والذهاب الى المسكوت عنه الذي دلنا عليه المكان نفسه كما ورد في عنوانات هذه النصوص التي ذكرت ( طبرق ) عشر مرات اضافة الى ما حملته عنونة المجموعة وهذا دليل اخر يؤكد هيمنة المكان على متون المجموعة التي بين أيدينا وياتي ذكر ( العراق ) اربع مرات / من مجمل عنونة النصوص / أفراح عراقية ، خمر عراقي ، النخلة الطالعة ، ورسالة من طبرق الى أولادي /

هذه العناوين هي محل بحثنا الموسوم ( المكان .. بين ذاكرتين ) والبحث من خلاله عن المقاربة الجمالية بين ذاكرتين مكانيتين ،

أفراح عراقية / ص 13

-كم حلوة يد طبرق وهي تفتح الباب

للذكريات . –

انها ذكريات الذاكرة القديمة التي استدعتها لحظة الآن لحظة القدوم الى هذا المكان الذي بدء يشكل ذاكرة جديدة تستنفر خزائن الذاكرة القديمة ذاكرة الشاعر المغترب لتنتج نصاً خارج المكانين الذي شبه نفسه .

-مثل شوكة نبتت خطأً في المكان –

لكنه سرعان ما يستدرك شعوره بالغربة اول الامر محاولا طمئنة النفس الملحة الضاغطة الامّارة بالخوف من المجهول

– حانية طبرق على الغرباء –

هل يكفي هذا القول والاعتراف المخاتل للنفس كي تطمئن ؟ وصوت العراق / مكان ، يلاحقه اينما حلّ انه صوت فاطمة صوت العراق

– رايت صوتاً طرياً.

التمع بين الأشجار

صوت فاطمة

فاطمة فاطمة فاطمة !

صوتها ، صوتها صوتها الهي يد الرحمة

قني من جنون الفرح –

كأني بالشاعر هنا يتمثل او يعيد معاناة الشاعر السياب مقاربا لحالتيهما بين غربتين حين يصيح

السياب ( الريح تصرخ بي : عراق

والموج يعول بي : عراق عراق ليس لي سوى عراق ) 6

هذه البنية النصية السيابية احدثت انزياحا واضحا للمعنى من نص الشاعر نحو معنى اخر مشابه ومعقود بذاكرة المتلقي لامتثال الحالتين بمداليلهما الايحائية لإنتاج معنى جديد مع اختلاف حالتي الشاعرين في الزمان والمكان فاطمة صارت دورة أسطوانة عند ياسين طه حافظ كما كان العراق دروة أسطوانة عند السياب وفي كلاهما هو صوت العراق / مكان شعوري حسي عاطفي ليس مكانًا جغرافيًا لذلك ادى واجبه في انتاج بنية شعرية متخيلة .

وفي نص اخر يحمل عنوان

– خمر عراقي – ص 16

في هذا النص بجزء الشاعر المكان الى محلية جزئية للإشارة الى الكل ليوجد مقاربة بين مكانين منطلقاً من جزئيهما المحلين

طبرق / ليبيا

ديالى / العراق

ليدلنا بوجه الخصوص عن وجهة المتشابه الطبيعي للمكانين حين يسأل :

– الآن اعرف كيف يجف ثدي الخوخة

وسَكب عذوبتها على حشاشتي المشتعلة

هل غير ( ديالى ) يملك هذا الفرح

المعتق في خوالي العراق الاولى ؟؟

دعني ارتشفك ايها العراق العذب –

ولماذا ( ديالى ) ؟ انها موطن صبا الشاعر الاول واكتمال تاسيس ذاكرته الاولى لذلك لم يغاد هذا المكان هيمنته على مجمل قصائد الشاعر ومدوناته وظلت مفردات النهر ، البساتين ، البرتقال ، الليمون ، البلابل ، التين ، الحدائق والشجر محط اهتمام الشاعر وتضمينها لنصوصه الشعرية على مدار ما أنتجه يذهب هنا الى ابعد من ديالى كمكان

– وكان فمي مكمماً بحجر من سحابة امس

– وراسي على تينة نهر الشيخ –

– ( ونهر الشيخ ) قصبة زراعية مبستنة من قصبات ديالى شرق مدينة بعقوبة وهي مكان صغير عبارة عن حديقة وبستان شكل هذا المكان واحتل حيزًا مهمًا من ذاكرة الشاعر وخزينها ربما كان مربع صباه استثمره بالاستذكار وإحضاره في نص يكاد يكون بعيدا جدا بزمنه وزمن كتابة النص لكنه توافق كمكان بكل جمالياته مع المكان الجديد الذي استضاف الشاعر مما أحدث مقاربة بصرية للمكانين وللشاعر ياسين طه حافظ حب استثنائي لمدينة بعقوبة وله مقولة سابقة يعترف بها بشغفه بالمكان / بعقوبة اذ يقول : ( اينما ذهبت واينما حللت الى بعقوبة حننتَ واننت )

وفي نص اخر بعنوان – النخلة الطالعة – مدار بحثنا

هنا يستبدل الشاعر المكان الجغرافي بمدلول اخر اذ جعل من النخلة هذا الكائن الذي يحمل ما ترسخ في الذهن الجمعي من مدلول استحال الى مكان رامز لمكان اقترب من القوة بإحالته الى الأسطرة اذ ما ان تذكر النخلة الا ويشخص معها اسم العراق بلد النخل فالنخلة ارض عراقية / مكان وإذ يتساءل الشاعر باستغراب كيف انتقل هذا الكائن ، هذا المكان ، هذه الذاكرة القديمة الى هذا المكان ؟ ليؤسس للشاعر ذاكرة جديدة ، مكان جديد مألوف تتروض وتطمئن عنده روح الشاعر فيؤول هذا الوجود لهذا الكائن ، المكان ، النخلة فيقول :

هل ألقى جائع يأكل على عجل

نواةً هنا

لتطلع في هذه الارض الحجرية القريبة من البحر

فسيلةً ، طفلة تريد ان تكون ؟؟ –

بهذا التبرير الذي اختلقه الشاعر ليخلق لنفسه معه وطناً افتراضياً أنتجه وجود هذه النخلة / المكان ليفترض مكاناً منتجاً من مخزون ذاكرة قديمة

اذن : توجب عليه ان يديم هذا الوجود ليظل احساسه قائما بافتراض النخلة وطن .

– ساسقيك كل يوم من زجاجة الماء حصتي

في هذا الصيف ؛ قدح لي وقدح لكِ .

انا الآن لست وحدي

ولست بعيدا عن عائلتي

أنتِ معي ، لن أظل وحيداً لاحزاني – ص22

ثم يعود الشاعر ليختتم هذا النص الموجع بقوله :

– ستكبرين ايتها البنت العراقية –

نعم ستكبر لتكون لك ومعك وطنا يؤنس غربتك ايها الشاعر فالنخل كما عهدناه لا يخون انه الوطن .

وفي نص آخر وهو مسك ختام بحثنا والذي يعد اطول نصوص المجموعة حجمًا اذ تمدد على مساحة ست صفحات اقترن بعنوان وإهداء فالعنوان / رسالة من طبرق / والإهداء الى أولادي رسالة من مكان الى مكان من ذاكرة الى ذاكرة

– حبنا عذاب

وخبزنا يا ولدي عذاب – ص 79

تضمن هذا النص المفجع وصايا الشاعر لأولاده وهو يحط رحاله في بلاد الغربة بحثاً عن حياة افضل لهم

رند …

كأنها تريد ان تقول لي : نعم ولا ،

ارحل ولا ترحل ، ولست الراحل الوحيد

يا ولدي امسك بكف أختك الطري

خلها تنتظر الآن

اخاف من سؤالها – ص80-81

ثم يعود الشاعر ليفجعنا بوصية اخرى

– اختكم ” دلمون ” كيف وجهها ؟

غائبة ٌ ضحكتهُ

شحوبه دمر قلبي حينما

عانقتها في الباب ؟

يا “طرفة ” !

وهي تدور حول وجه امكم

أحداقكم تلمعُ في مكانها ولا جواب ْ

– ص82

لينهي الشاعر فجيعة الترحال والاغتراب المكاني بقول :

– يا ولدي السطوة للزمان

– ولا احتجاج لي ولا عتاب ْ

واخيراٌ ماذا كان على ( طبرق ) ان تفعل ما كان لهذا المكان الذي حط الشاعر عنده رحله هل ليستريح ؟

– طبرق لا تجبيبني

– صامتة لا تقول اي شيئ

– خبيرة

وتعرف الاحزان

يأتي لها الأغراب كلّ زمنٍ

يبكون في ساحلها –

( ايّام طبرق ) ذيّل الشاعر ياسين طه حافظ معظم نصوصها بتاريخ عام 1997 وهو وقت اغترابه عن أهله ووطنه للعمل في ليبيا وصادف ان يكون محل عمله في طبرق هذا المكان الذي اشعل جذوته المتقدة في روح الشاعر شوقاً واستياقاً وقد احال الشاعر وعمم ما عاناه لينقل اثر تلك الجذوة الى قلوبنا في محاولة لنتماهى مع هذه التجربة المنتجة لحلو العذاب وأعذبه شعراً لا يغفل مدى تأثيره على مشاعر واحاسيس المتلقي الذي يعيد إنتاجه مرة بعدية ( ايّام طبرق ) جديرة بالقراءة والتأمل فيها فيض من العطاء لا ينتهي بقراءة واحدة

ايّام طبرق / مجموعة شعرية مذهلة تؤرخ بحزن كظيم تجربة الابتعاد عن المكان الاول ليؤسس رغم المعاناة مكاناً جديداً اخر فرضته الظروف قسرًا

– يا ولدي السطوة للزمان

– ولا احتجاج لي ولا عتابْ -———————————-

إشارات :

1- ايام طبرق / مجموعة شعرية للشاعر ياسين طه حافظ / دار بنين / الطبعة الاولى 2012 / لوحة الغلاف للفنان علي الطائي / تصميم الغلاف فلاح حسن الخطاط .

2- المخيال الشعري المفهوم والخصوصية للكاتب بن عشورة طه حسين / انترنيت / كوكل

3- الفيروز آبادي ، جمال الدين محمد بن يعقوب (1998 )القاموس المحيط ط6 مؤسسة الرسالة ، بيروت .

4- باشلار ، غاستون / جماليات المكان ترجمة غالب هلسا ط5 المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع بيروت ص17 .

5- مٓنْ حوار للناقد العراقي الكبير ياسين النصير حاوره القاص حامد فاضل في صحيفة المثقف .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى