أدب

غربان “دعاء البادي” في رؤوس أنهكتها الهزائم

عبد الوهاب شعبان

ناقد وروائي وكاتب صحفي مصري

    لا فرق بين هزائم الحب، وهزائم الحرب.(كلتاهما تسحق الروح، وتجمد الزمن).

(1)

كيف تتشظى حياة المرء رغمًا عنه؟..

      يولد الطفل “موسى غريب المنسي” في سني النكسة، يتنسم عفونتها في مهده، وبينما يلهو أقرانه، ويلعبون، تحت أسقف الهدوء الأسري، يفتح الوليد عينه على أب مأزوم، وأم تريد “عقلنة” ما طبعته الهزيمة في قلب مرهف.

   الغربان في الأرض، لكن أحدهم لا يبحث ليواري سوءة أخيه!.

(2)

     تنكأ رواية “غربان لا تأكل الموتى” للكاتبة دعاء البادي، جراح المرهفين في الأرض، وتذر نيران مستعرة تلفح قلوب العاطفيين طوال النص المدهش في تخييله، المثقل بعذابات الفقد، والحلم، والصدق، والعواطف المتداخلة.

    وتسحبنا على مهل إلى شطآن السويس الشاهدة على الحب، والحرب، وفنارها الناظر من عليائه إلى مآلات الحكايات دون أن يبصّر أحد.

   عنده تولد قصص الحب، وعنده تتلاشى، وهو على أية حال يراقب، ويسجل، فلا تثنيه عن كبريائه لذة اللقاء الأول، ولا تدهشه عبارات الوداع.

(2)

يكبر بطل الرواية “موسى المنسي” فجأة، والحياة في خاطره “هروب متجدد”، فلا هو يعرف إلى أين؟، كما لا يعرف من أين؟..

    ومن الملجأ، إلى البحث عن ملجأ، يستقبل أيامه، فيأويه الحب، وتبدد “سلوى”- ابنة المعلم فتحي- عذابات الفقد المبكر، ومن ظلمات الوحدة، والسراب إلى ونس الرسائل المشتهاة.

(3)

     ويتلاشى الحب كشهاب، أضاء فجأة ثم احترق.

    وتنتهي الرحلة القصيرة بعد أن فرضت الأسرة أسوارها الغليظة العالية، فكيف تمنح الحياة فرصة لصبي سباك أن يعانق الأمل، ويتوسد الأمان؟.

(4)

ويخرج “موسى المنسي” من السويس خائفًا، يترقب.

ويمتد التناص في الرواية ذات الوجد الطاغ، لتتعرى المدن، وتصخب الذاكرة.

من السويس يحمل “المنسي” خطابات الحب، وصورة الفنار، وفي دمياط يركن إلى الموانئ الفسيحة، حيث تتوه المعاني تمامًا، وتسحق العاطفة على الأرصفة العريضة.

وفي الذاكرة غربان تنعق..ومشاعر أثقل من هزيمة.

(4)

    ويهرب “موسى” من ذاته، شأن المهزومين في الحب، يتخبط، ويساق وراء خيبة الذكرى، إلى حيث تلقيه المقادير.

    الكتاب الذي كان يحفظ رسائل “سلوى”، يفصح عن مكنوناته الدينية، الحب في تصورات شيخه الكائن في المنصورة لم يذكر في القرآن إلا مذمومًا.

والعاطفة بعد انسياب رائق، وأحلام فتية، تتصلب، ويغشاها خريف مستبد.

(5)

   يا لرحلة “موسى”!..تنبى قناعاته الأولى في “ملجأ”، والأخرى في “سجن”.

    وبين الرحلتين، يتورط في زيجة تصفها الكاتبة بأنها “هزيمة مبتورة”، وهو على إشفاقه بسيدة بتر ذراعها إثر حادث قطار، لم يجد طوال رحلته من يشفق عليه!.

     وفي زنزانة موحشة يتدلى من سقفها عناكب، وعتمة، تبين “سلوى” بوداعها البليد، كمخاض أول لميلاد وحش من رحم الرقة، والبراءة.

(6)

    يطلب الضابط من “بطل الرواية” تحرير محضر ضد أمين شرطة ادعى تعرضه لاعتداء بآلة حادة.

   وكعادة المعذب، يود لو أن نجاة من مشهد العذاب إلى النار، حرر محضرًا، ولم يدر عواقبه.

   بهذا المحضر عوقب “موسى” بالسجن 5 سنوات، وهناك، تناسى تمامًا ملامح كل شيء، إلا “سلوى”..

وأرسى قناعته” ستحترم الحياة من ينتقم”.!

(7)

    وتتصاعد حبكة أعدتها الكاتبة بإحكام متقن، ولغة عذبة، تفتن المارين على سطورها، بقلوب تذوقت قبلًا ألم الفراق.

     يواجه “المنسي” مصيره كوحش انفلت من قيده، ينسى ابنه “غريب”، ويستحيل إلى غراب ناعق، غير أنه لا يأكل الموتى.

    وهو ينتقم ممن أرداه سجينًا، يتأمل بعد أن استقرت رصاصة في رأس “علي هارون”، وجه سلوى، وهي تختم قصته بكلمتين”ربنا يوفقك”، ويتساءل:من أيهما ينتقم الآن؟..لولا أن الرصاص أصاب شخصًا واحدًا.

(8)

     وتصحبنا الكاتبة إلى فضاءات صحراوية موحشة، “موسى” زعيمًا لتنظيم يستبيح كل شيء، ورغم ذلك، وبمعزل عن صور الانتقام، يجيء صاحبه ويتناجيان: هل تفعل كل ذلك من أجل قصة حب فاشلة؟..

       (فجأة، وبعد إفاقة على مقتل صاحبه بيد أتباعه، يفيق “موسى”ويضرب بعصاه الصحراء، فيعبر بنا إلى بيت “سلوى”، وقد أنهكها الزمن، وأذبلتها التجارب).

  وتدخلنا الكاتبة ببراعة متكررة إلى محاريب الهوى الأول، ونتذكر القصة من بدايتها، مع سؤال “موسى”: هل أحببتني فعلًا؟..

فتقول “سلوى”: لم يعد هذا مهمًا.

(10)

وتتركنا الكاتبة لتأمل المشهد الأخير، دون أن تفرض علينا نهاية محددة.

    وتحصرنا فقط في تأمل أثر هزائمنا الصغيرة، وتدفعنا دفعًا للتساؤل: إلى أين ينتهي “المنسيون” في الأرض؟.. ولماذا يزدهي غربانها، ويقيمون حفلات صاخبة على أجساد الحزانى؟..

     شكرًا دعاء جمال البادي على وجبة شهية، وشجن يثير الهزائم الكامنة، ولا يريد أن ينهزم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى