فن النسيان

أ.د. محمد سعيد حسب النبي| أكاديمي مصري
ذات يوم هبطت حمامة فوق رأس الفيلسوف الكبير سقراط؛ فتعجب قائلاً: وكأنني شجرة أو تمثال أو ميت، وسأل تلاميذه: هل أنا لم أتحرك منذ وقت طويل؟ فقيل له: منذ ساعة. فقال سقراط: ولا أنتم؟ قالوا: ولا نحن، قال: ولماذا؟! فأجابوا: ننتظر ردك يا أستاذ. قال: على ماذا؟ فقالوا: على السؤال. قال سقراط: أي سؤال؟ فقالوا: وهل نسيت يا أستاذ؟ فقال: وما هو النسيان؟ هل الإنسان ينسى الذي كان يعرفه..هل ننسى شيئاً كنا نعرفه.. ثم جاء شيء يجعلنا ننسى.. فأيهما الأقوى.. وأيهما الأنفع: الذي عرفناه ونسيناه.. أم الذي عرفناه أخيراً فجعلنا ننسى كل شيء؟ هل هناك أشياء تافهة تستحق النسيان؟ هل هي ضارة ولذلك يجب أن ننساها؟ وهل نحن ننسى الذي نحب أم ننسى الذي نكره؟
وفي “كتاب النسيان” للشاعر الفرنسي “برنار نويل” ما يعكس الاعتقاد السائد، حيث لا شيء يضيع مع النسيان، فما ننساه يظل موجوداً في مكان ما ثم يعود إلى الظهور في الكتابة، لا كما كان ولا إلى ما كان؛ بل ككلام يجسد كل ما تم فقدانه، يعود من المكان الأبعد والمجهول. ولعل أسرار النسيان العديدة هي ما يجعل المجهول فيه أكبر من المعلوم، ومن ثم يفرض علينا التواضع في التعامل معه في كليته، كلما عجزنا عن معرفة كيف نعبر عنه في كليته.
ولقد صار من البدهي أن بعض الماهرين في هذه الحياة يستطيع توجيه عقله لنسيان ما مر به من أشكال الشقاء، وللكاتب “جون كوبر بويز” كتاب مهم في هذا السياق حيث قال في كتابه “فن نسيان الشقاء”: إن إحساساً بالاطمئنان والسلام النفسي والاسترخاء الهادئ، يطغى على أعصاب الإنسان عندما يستغرق في العمل.
وأشار الروائي الفرنسي “أندريه موروا” إلى عبارة ألهمته القدرة على تحمل التجارب المريرة في الحياة وهي “إن الحياة أقصر من أن نقصرها”، والمتأمل في مواقف الحياة سيلحظ أننا نثور على أمور لا تستحق سوى التجاهل المطلق، وإن أعمارنا التي لا تزيد عن بضع عشرات من السنين لا يمكن تعويضها؛ ورغم ذلك ترانا نبذل الجهد الأكبر في اجترار أحزان خليقة بأن يطويها النسيان. فمن الأجدى أن نملأ حياتنا بالنشاط المثمر، والأفكار الملهمة، والأعمال النافعة، فإن الحياة أقصر من أن نقصرها.
ولنعلم أن القلق يكون أقرب في وقت الفراغ، حيث يجمح الخيال ويعيد ذكرى كل هفوة تستحق النسيان، فلنتخلص من عوامل القلق والمخاوف غير المبررة، والخواطر السلبية ومواقف الإخفاق التي مرت بنا، وسنلحظ أننا أهدأ روعاً وأقل خوفاً وجزعاً.




أ .د. محمد سعيد، جزاكم الله خيرًا على هذه المقالة الثرية والعميقة .
توقفت طويلًا عند تناولكم لفلسفة النسيان وربطكم بين سقراط وأقوال الأدباء والمفكرين الغربيين، وهذا منح النص بعدًا متنوعًا وملهمًا.
ولعل النسيان في جوهره ليس مجرد فقدان للذاكرة، بل هو نعمة إلهية تحفظ للإنسان توازنه النفسي، وتمكّنه من الاستمرار والعطاء. فكما قيل: “لو بقيت المصائب في الذاكرة كما وقعت، لما ذاق الإنسان طعمًا للحياة.”
ومما يزيد المعنى جمالًا أن النصوص الشرعية نفسها تشير إلى رحمة الله بالإنسان حين ينسى، فيخفّ عنه العتاب على ما لم يتذكره، ويُعفى من ثقل ما طواه الزمان.
مقالة ماتعة تفتح آفاقًا للتأمل في حكمة النسيان ودوره في صناعة حياة أكثر صفاء وطمأنينة.