حول مفاهيم السعادة والرفاه.. بدايات القياس الكمي للمؤشرات الاقتصادية

د. صلاح حزام | خبير عراقي في التخطيط والاقتصاد

في بداية الثلاثينيات استضافت إحدى لجان الكونغرس الأمريكي مجموعة من الاقتصاديين ورجال الأعمال لتوجيه بعض الأسئلة عن حالة الاقتصاد الأمريكي في تلك المرحلة معبّراً عنها بالأرقام ، لكن المجموعة  عجزت عن تقديم الإجابات للجنة. على ضوء ذلك تم تكليف اقتصادي شاب مهاجر من الاتحاد السوفيتي السابق، بوضع مؤشرات عن حالة الاقتصاد يمكن استخدامها لقراءة توجهات الاقتصاد الوطني، وكان ذلك الاقتصادي هو (سيمون كوزنتس) وهو مولود في روسيا البيضاء.

وقد كانت مساهمات كوزنتس أساس الحسابات القومية الحديثة . وبعد الحرب العالمية الثانية تطورت احصاءات الحسابات القومية ومنها الناتج المحلي والدخل القومي ونصيب الفرد منهما. ولقد تم استخدام نصيب الفرد من الدخل القومي أو الناتج المحلي باعتباره مؤشرا على مستوى الرفاه بين الأمم وتم قياس التقدم الاقتصادي الاجتماعي على اساس نصيب الفرد من الناتج والدخل وترتيب الدول في سلم التقدم الاقتصادي بناء على تلك التراتبية.

وكما هو معروف، فإن احتساب نصيب الفرد من الناحية الاحصائية يقوم على أساس قسمة مجموع الناتج أو الدخل على مجموع السكان.

وهذا يعني توزيعاً متماثلا على جميع السكان بغض النظر عن العمر والجنس والمهنة والتعليم . وهذا بطبيعة الحال أمر غير واقعي لانه لايوجد توزيع من هذا النوع في أي مكان في العالم.

كانت هناك اعتراضات على استخدام هذا المؤشر لقياس الرفاه الإنساني، ولكن الرد  كان أنه لايوجد مؤشر آخر يمكن استخدامه لهذا الغرض وإنه ، مع مافيه من عيوب ، يعكس بعض الحقيقة عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلد المعني.

في الستينيات اعترض على استخدام هذا المؤشر السيناتور الأمريكي الراحل روبرت كينيدي، حينما قال قوله المشهور الذي خلاصته: ممكن استخدام أي مؤشر آخر لقياس مستوى الرفاه، ماعدا نصيب الفرد من الدخل والناتج لأنه لايعكس أي قيمة حقيقية أو دلالة اقتصادية لأنه يطبق في عالم يبتعد عن العدالة في التوزيع باضطراد.

كذلك كرر الاعتراض السيد بيل غيتس في بدايات القرن الواحد والعشرين حينما ضمّن كلمته في منتدى دافوس الاقتصادي نقدا مشابها لنقد السيناتور كينيدي.

واستخدمت تقارير التنمية البشرية عند بداية ظهورها عام 1990 نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي كأحد عناصر بناء دليل التنمية البشرية .

وكانت هنالك اعتراضات على استخدامه لأنه يتضمن عوائد عناصر الإنتاج الاجنبية في البلد والتي ستخرج إلى مواطنها الأصلية وكذلك فهو لايتضمن عوائد عناصر الإنتاج المحلية في الخارج والتي ستعود إلى البلد أيضا.

وبالفعل تم استبداله بنصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي في السنوات الأخيرة لأنه أكثر واقعية.

ويقول الأستاذ أمارتيا سين الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد وأحد الذين طوَروا دليل التنمية البشرية: ان مفهوم التنمية البشرية هو اوسع بكثير من أن يتم التعبير عنه بهذا الدليل وبالمؤشرات التي يتضمنها ومنها الدخل، ولكننا أردنا فقط إثارة رغبة الناس للاهتمام بالإحصائيات والأرقام التي تعبر عن أوضاعهم الحياتية بدل الوصف الإنشائي الذي لايمكن قياسه.

في ظل هذا الجدل بل ومنذ فترة مبكرة بدأ التفكير بايجاد مؤشرات واقعية وقابلة للقياس للوقوف على مستوى الرفاه الاجتماعي بدل الاعتماد على الدخل فقط.

 

الرفاه الاجتماعي والسعادة كمؤشرات بديلة

تعريف الرفاه الاجتماعي:

هنالك العديد من التعاريف لمعنى الرفاه ، من أبرزها التعريف التالي والذي تم تبنيه في كندا لكي يكون التعريف المعتمد في صياغة دليل قياس الرفاه الكندي :

( هو توفر أعلى مستوى ممكن من نوعية الحياة بكل ما يمكن التعبير عنه من ابعاد وبالتركيز على الجوانب التالية بدون الاقتصار عليها بالضرورة : مستويات معيشة جيدة ، السلامة الصحية ، بيئة مستدامة ، مجتمعات مفعمة بالحيوية والنشاط ، سكان متعلمون، استخدام متوازن للوقت، مستوى عالي من المشاركة الديمقراطية، التمتع بأوقات الفراغ والقدرة على الوصول الى النشاطات الثقافية.)

                     

بدايات نشوء فكرة احتساب دليل الرفاه الاجتماعي:

تعتبر مملكة (بوتان) الصغيرة الواقعة في الهملايا، أول من صاغ الدليل المعروف ب : ( دليل السعادة الوطنية الاجمالية) وذلك مقابل مؤشر ( الناتج المحلي أو القومي الإجمالي ).

وكان ذلك بتوجيه من ملك بوتان الرابع (جيغم سينغي وانغجوك) في العام 1970 عندما اعلن هذا الملك :  ” السعادة الوطنية الاجمالية تعتبر اكثر اهمية من الناتج المحلي الاجمالي “.

وأعلن الملك أن العقائد الأربعة التي يتشكل منها دليل السعادة الوطنية الإجمالي هي : تنمية اجتماعية / اقتصادية مستدامة وعادلة ، المحافظة على البيئة ، الحفاظ على الثقافة وترويجها وأخيرا الحكم الرشيد.

ويتضمن هذا المنهج الجديد فهما جديدا للتنمية المستدامة ويتبنى فهما جديدا شاملا لمعنى التقدم يعطي اهمية متساوية للأبعاد غير الاقتصادية للرفاه الاجتماعي.

ويتشكل دليل السعادة الوطني في بوتان من تسعة أبعاد ، هي :

-الرفاه النفسي

-الصحة

التعليم

استخدام الوقت

 التنوع والتسامح الثقافي

الحكم الرشيد

الحيوية المجتمعية

التنوع والمرونة البيئية

مستويات المعيشة

( لعل من المناسب الإشارة إلى أن مستوى المعيشة او الدخل جاء في المرتبة الأخيرة من حيث الأهمية حسب تقديرات الناس الذين تم استفتائهم)

وقد تم اختيار 33 مؤشر فرعي توزعت على الأبعاد التسعة المذكورة أعلاه..

وبموجب نتائج حسابات هذا الدليل، فإن الأفراد الذي يحصلون على أقل من 50% من الرضا يعتبرون غير سعداء . اما الذين يحصلون على درجة رضا تتراوح ما بين 50%- 65% ، فانهم يعتبرن سعداء بدرجة محدودة. والذين يحصلون على درجة رضا تتراوح ما بين 66% -76% فانهم يعتبرون سعداء بشكل واسع . اما الذين حصلوا على 77% فاكثر  فانهم يعتبرون سعداء بشكل عميق.

ابرز تطبيقات دليل السعادة او الرفاه الاجتماعي :

يستخدم الدليل المذكور في ميادين مختلفة ، منها:

– استخدامه من قبل صناع السياسات قبل تبني اي سياسة مقترحة للتأكد من طبيعة تأثيرها على قيمة الدليل اضافة الى متابعة نتائج تطبيق السياسات المختلفة بعد ان يتم تبنيها وتطبيقها لتقييم آثارها على قيمة هذا الدليل.

– إن هذا الدليل يعتبر من ابرز مظاهر استخدام المعلومات الاحصائية في بناء وعي الجمهورولاسيما في سياق العملية الديمقراطية، ففي سياق عملية صنع القرارات هنالك فرق بين ما يراه المختصون وبين ما يراه الفرد العادي من عامة المجتمع، حيث ان هنالك علاقة بين الراي العام وبين الخيارات السياسية. لذلك، فان الافراد سيكون لديهم ادوات احصائية ملموسة حول انجازات الحكومات وبالتالي ترتيب مواقفهم السياسية من مختلف الاحزاب السياسية في الانتخابات.

– يتأثر الافراد ،عادة ، بميولهم الايديولوجية في دعمهم لهذا القرار او ذاك في حالة عدم امتلاكهم المعلومات الاحصائية التي تتوفر لديهم عن الحالة الاقتصادية في البلد .وتم اختبار هذه الفرضية على المواطنين الامريكان واثبتت صحتها.ان التأثر بالايديولوجيا سلوك غير بناء ويجب استبداله بعوامل علمية واقعية.

– لذلك اصبح نشر وترويج المعلومات الاحصائية السليمة قضية مهمة في تحسين مواقف الراي العام من القرارات الاقتصادية التي تتخذها السلطات السياسية.

– تلعب وسائل الاعلام دورا هاما سلبيا او ايجابيا في تثقيف الجمهور والتأثير في بناء مواقفه وتوقعاته، لاسيما تصريحات الاشخاص المختصين التي تتعلق بالتوقعات المستقبلية للاقتصاد، ووجود الاحصاءات لايسمح بالتلاعب في مزاج الجمهور بالكلام الانشائي الفارغ ويحد من قدرة الاعلام المتحيز في التلاعب بتوجهات الراي العام.

– تزايدت المبادرات على المستويات الدولية والوطنية والمحلية من اجل الاستجابة للمطالب المتزايدة التي تدعو الى ايجاد مقاييس اكثر مصداقية للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية ولغرض تطبيق قدر اكبر من التحاسبية على السياسات العامة من قبل الجمهور.

 

الأبعاد التي تدخل في حساب قيمة دليل الرفاه الاجتماعي في كندا :

سوف نستخدم التجربة الكندية في مجال قياس الرفاه الاجتماعي لانها من بين اكثر دول العالم اهتماما بهذا المقياس ، لايضاح طبيعة وكيفية احتساب هذا الدليل.

تستخدم الأبعاد التالية في قياس قيمة الدليل الكندي للرفاه الاجتماعي ، وتحتسب ثمانية مؤشرات فرعية ضمن كل بعد من الابعاد الثمانية ، أي أن مجموع المؤشرات سيكون 64 مؤشرا :

  • التعليم
  • السكان الاصحاء
  • الحيوية المجتمعية
  • المشاركة الديمقراطية
  • مستويات المعيشة
  • استخدام الوقت
  • البيئة
  • وقت الفراغ والنشاطات الثقافية

ولإعطاء مثال على المؤشرات الفرعية التي يتكون منها كل من الأبعاد أعلاه ، سوف نورد مؤشرات الصحة المجتمعية الفرعية  كمثال على الطبيعة التفصيلية لهذه المؤشرات :

العمر المتوقع

نسبة السكان الذين يعتبرون أنفسهم يتميزون بوضع صحي جيد جدا أو ممتاز

نسبة السكان الذين يعتبرون انفسهم يتميزون بصحة عقلية جيدة جدا أو ممتازة

نسبة السكان الذين لا يعانون من قيود في الحركة ناجمة عن اسباب صحية

نسبة المدخنين من المراهقين سواء بشكل يومي أو في المناسبات

نسبة السكان الذين أبلغوا ذاتيا عن إصابتهم بالسكري

نسبة السكان الذيم حصلوا على التلقيح ضد الانفلونزا في العام الماضي

نسبة الكنديين الذين لديهم طبيب يعودون اليه بانتظام

 

كيفية حساب قيمة الدليل الكندي للرفاه الاجتماعي :

يعتمد اعداد الدليل على مجموعة من المسوحات التي تجرى دوريا مثل : ( مسح الصحة المجتمعية في كندا، مسح القوى العاملة ، مسح استخدام الوقت، مسح الشبكات الاجتماعية، مسح عمليات الإيذاء والاحتيال، مسح السفر، مسح آليات العمل والدخل). اضافة الى احصاءات تؤخذ من دائرة البيئة الكندية ومكتب الاقتصاد الداخلي ودائرة الانتخابات الكندية . وأخيرا فإن هنالك مجموعة من المؤشرات يتم الحصول عليها من  مجموعات ومنظمات مستقلة.

 

ملاحظات عامة حول تجارب العالم مع بناء دليل الرفاه الاجتماعي:

– يمكن احتساب الدليل على اسس ديمغرافية مختلفة ، مثل احتساب الدليل للرجال وللنساء بشكل منفصل أو احتسابه حسب المناطق الجغرافية أو حسب ابعاده المختلفة لإيضاح اي الجماعات التي تفتقر إلى التعليم مثلا. إن تصميم الدليل ومكوناته يهدف إلى التأكيد على الأبعاد المختلفة للرفاه وكذلك الطرق المختلفة لتحقيق الحاجات الانسانية.

– إن استخدام هذا الإطار، حتى وإن كان بدون بيانات، يمكن ان يساعد في تغيير أسلوب تفكير وعمل الناس فيما يتعلق بالرفاه. إنه يسلط الضوء على مصادر للرفاه او التعاسة ربما لم تكن جزءاً من ثقافة المجتمع لفترات طويلة كما إنها تساعد في تغيير قوائم المطالب الاجتماعية التي تعرض على السياسيين وعلى المؤسسات.

–  في بريطانيا وفي فترة رئاسة السيد توني بلير للحكومة البريطانية ، تقرر اعداد دليل لقياس الرفاه والسعادة للبريطانيين. وتم تشكيل لجنة موسعة تضم مختلف الشرائح لتقرير ماينبغي ادراجه من مؤشرات. وقد اقترحت اللجنة 51 مؤشراً من بينها 🙁 طبيعة الروائح التي تصل اليك عنما تفتح زجاج السيارة وانت تقود في الطريق ونوعية المناظر التي تشاهدها وشعورك بالامن عندما تعود الى بيتك مساء ووجود شخص مستعد لمساعدتك عند الحاجة وشعورك بأنك في صحة جيدة وشعورك بالاحترام والاطمئنان للمستقبل ورضاك عن مشاركتك السياسية وشعورك بوجود كرم اجتماعي يحيط بك وأنك تنام بشكل جيد في الليل وتستطيع التخطيط لمستقبل اطفالك وانك تطمئن الى نوعية الماء والطعام الذي تتناوله…الخ).

–  في كل التجارب لم يكن الدخل هو النقطة الأولى التي تحدد السعادة والرفاه بل تقدمت عليه عوامل اخرى يراها الافراد اكثر اهمية لسعادتهم من الدخل النقدي.

 

اجتماعات الأمم المتحدة حول السعادة والتنمية :

في العام 2011 تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإجماع القرار الذي قدمته دولة بوتان بدعم من 68 دولة عضو أخرى، والذي يدعو إلى صياغة منهج شامل للتنمية يروج للسعادة والرفاه المستدامين.

ولقد اتبع ذلك القرار في شهر ابريل من عام 2012 عقد اجتماع عالي المستوى في الامم المتحدة حول موضوع : السعادة والرفاه : صياغة تعريف لنموذج اقتصادي جديد .

ولقد كان الهدف من ذلك هو جمع قادة العالم والخبراء والمجتمع المدني والقادة الروحانيين سوية للاتفاق على تطوير مثال اقتصادي جديد يستند على الاستدامة والرفاه.

– ولقد ارتكز ذلك على العمل الريادي الذي قامت به حكومة بوتان في تطويرها لدليل السعادة الوطني العام .وبناء على ما تقدم ، صدر في العام 2012 تقرير السعادة العالمي الاول وبدأ العالم يدرك ان السعادة تعتبر مقياسا ملائما للتقدم الاجتماعي وهدفا مناسبا للسياسات العامة.

 وفي شهر مارس 2020 صدر تقرير السعادة العالمي الجديد الذي يتضمن من بين امور اخرى تصنيفا لدول العالم حسب مستوى السعادة في مجتمعاتها. واصبح تاريخ العشرين من شهر مارس من كل عام يوم السعادة العالمي. ويصدر التقرير عن شبكة الحلول التنموية المستدامة التابعة للامم المتحدة ويمول عن طريق المنح.

–  أخيرا لابد من الإشارة إلى السبب الكامن وراء كون مملكة بوتان الصغيرة في الهملايا مصدرا لهذا التوجه، والذي يعود الى الفلسفة البوذية التي تعلي من شأن الإشباع الروحي والمعنوي ولاتعطي قيمة أساسية للإشباع المادي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى