مخيَّمٌ في الظَّلامِ (2)

نور الهدى شعبان | سوريا

اللوحة: Richard Ramsey 

لم يكنْ ذنبُ المساءِ ما اقترفَته الغربةُ من خطيئةٍ ،
لم يكنْ ذنبُ الحريّةِ ما حصدَه الوطنُ من دمارٍ و دماءٍ و تشرّدٍ ..
لقد انتهَتْ حلولُ الأرضِ التي استبدَّ بها الدّمارُ حتّى أجبرَتْ الحجارةُ على اشتهاءِ الرّحيلِ .. هذا المساءُ كان علامةً فارقةً فاقَ فيه وجعُ الإنسانيّةِ التي قتلَها الجورُ و الطّمعُ فوقَ وجعِ اللّجوءِ والغربةِ ..
أمّ ناي تقفُ أمامَ جسدِ طفلتِها المريضةُ تتأمّلُ ..
عذراً لطهرِ جسدِك الذي نهشَتْه أنيابُ الجشعِ .
عذراً لقدميك الصّغيرتين يا بنيّتي حينَ لم نلحقْ قطارَ النّجاة دهست أحلامُنا بالحياةِ و لم يكن لنا إلّا أقداماً تجوبُ الطّرقَ الشّائكةَ والمعرّجة لتنقلنا من الأرضِ التي التهمتها نيرانُ الأحقادِ على متنِ خشبةِ الطّاولاتِ ، وهم يتناولوننا بوطنياتهم المزعومةِ و ينسجون من أجسادنا المرهقة على مقاسِ تقاريرهم السّاقطة فوقَ أجسادِنا بتهمةِ لجوءٍ ، فهناك يشربونَ نخبَ انتصاراتهم من عرقنا ودمعنا المكسور و هناك هويّةٌ مفقودةٌ لأشلاءنا المتراميةِ على حوافِّ الوطنِ .
عذراً لدمِعِكِ الذي تسرَّبَ على وجهِ الأرضِ بعدَ أن أنهكتهُ الحقيقةُ المرَّةُ ..
بعدَ وقتٍ علمَتْ أمّ ناي بالحقيقةِ التي طرحَتْ طفلَتَها بالفراشِ مرضاً بسببِ صدمتها بصاحبِ القناعِ الكاذبِ أبو شاهر ، فقرَّرت أن تتسلَّل ليلاً لتتأكَّدَ من الحقيقةِ التي سمعتها .
وكانت الصدمةُ بعدَ انتظارِ ساعتين قربَ المبنى الذي أتّخذَ مؤقتاً مدرسةً للأطفالِ المهجّرين ، و على مسافةٍ من الغرفةِ الخلفيّةِ جلسَتْ تراقبُ من ثقوبِ الظّلمةِ وبردِ المكانِ ما يحدث ، و في داخلِها تتصاعدُ الأنفاسُ المغمَّسةُ بالظّلمِ وترتسمُ أمامَ عينيها صورٌ لبعضِ القاطنين في المخيّمِ و حالَهم وحالُ مرضاهم وجوعُ الأطفال ، و ترتسمُ مشاهدٌ لمواقفَ أبو شاهر الذي أتقنَ تمثيلّه بإقناعهم أنّه الودودُ الطّيب الذي يساعدُ أهلَ المخيّم ويساندَهم ، تحاولُُ أن تحاربَ الحقيقةَ الماثلةَ أمامها حينَ فاجَأها ضوءُ شاحنةٍ يقتربُ من بعيدٍ و يظهرُ ثلاثةُ رجالٍ بينهم أبو شاهر الذي عرفته من صوتِه وهو ينادي بصوتٍ خافتٍ : هيّا، بسرعةٍ لقد تأخّرتم اليوم ، استعجلوا قبلَ أن ينتبه أحدٌ لوجودكم بسرعة ..
بينما يتراكضُ الرجلان لنقلِ الصّناديقَ إلى الشّاحنةِ ..
وقفَت أمّ ناي مندهشةً لتصدّقَ حقيقةَ أنّ الغرفةَ الخلفيّةَ للمدرسةِ مستودعٌ تخزّنُ به صناديقَ الإغاثاتِ و الإعاناتِ و الأدويةِ و الأغطيةِ والموادِّ المختلفةِ التي تقدّمُ للّاجئين فيقومُ أبو شاهر باحتكارها والمتاجرةِ بها لكسبِ الثّروةِ ، بينما يعاني أهلُ المخيَّمِ من سوءِ المعيشةِ وقسوةِ الواقعِ وهو يتذمَّرُ مثلَهم ويهوِّنُ عليهم ، بينما يتنكَّر خلفَ لباسِ ثعلبٍ غادرٍ خالٍ من الإنسانيّةِ تدورُ في ذاكرتها صورةُ العمّ أبو زيدٍ الذي كان يعاني لأسابيعَ من حالةٍ مرضيّةٍ تنفسيّةٍ وهو يقدّمُ وعودَه بجلبِ العلاجِ و الإغاثةِ بينما يخزِّنُ آلافَاً من صناديقَ النّجاةِ للمرضى والأطفالِ الحالمين بكسرةِ خبزٍ و بعضُ دفءٍ ، تراكمَتْ الصّورُ في مخيّلةِ أمّ ناي فلمْ تستطعْ أن تكتمَ ثورتها وغضبها ، ذهبَتْ ثائرةً على أبو شاهر و رجاله بمواجهةٍ غيرَ عادلةٍ فقامَ أبو شاهر بكتمِ أنفاسها وصوتها وأرغمها عنوةً إلى داخلِ المستودعِ وطلبَ من الرّجلين أخذَ الشّاحنةِ والابتعادِ مباشرةً عن المكانِ .
عَلِقَتْ أمّ ناي بينَ أذرعِ أخطبوطٍ أرعنَ كلَّ محاولَاتِها بمواجهَتِه وإبعادِهِ عنها بجسدِها النّحيلِ المتعبِ باءَتْ بالفشلِ ، كلّ مناجاتِها وصرخاتِها المحشرجةِ لم تحلْ دونَ قدرِها البائس ، فكانت فريسةً سهلةً لوحشيته و اغتصابه ..
سقطَتْ خائرةَ القوى بعدَ صدمةٍ عاصفةٍ وهو يتهيّأ للخروجِ مهدداً لها : لقد جنيتِ على نفسك أيّتها الجميلةُ الحمقاءُ ، كيفَ تتسلّلين وتتهجّمين عليّ ألا تعلمينَ من أكونُ أليسَ كذلك أظنُّكِ الآنَ عرفْتِ من يكونُ أبو شاهر لذلك اكتمي أنفاسَك عمّا رأيتِ وإيّاك أن تحاولي العبثَ معي مجدّداً و إلّا ستخسرينَ عائلَتَك بأكملِها ليسَ جسدَكِ الجميلُ فقط ..
تنهضُ و هي صريعةً تكابدُ الألمَ و تشتم وحشيته وعدم انسانيته و وحشيّة الحروبِ التي علّقَتْ آلاف البشرِ في أنيابِ الغربةِ وطاحونةِ التشرّدِ والحاجةِ ..
في صباحِ اليومِ التّالي قرّرت أن تنتقمَ أشدّ انتقامٍ ولو خسرَتْ روحَها وفي اجتماعِ الصّباحِ حيثُ اعتادَ أهلُ المخيَّمِ انتظارَ أسماءِهم لتوزيعِ بعضُ الخبزِ والماءِ ، كانت تنتظرُ أمّ ناي و ترمقُ أبو شاهر بنظراتٍ ملؤها الحقدَ والانتقامَ ، وهو يرتدي زيَّهُ المعتادُ الذي يخفي تحتَه قناعَ أخطبوطٍ لايعرفُ الرّحمة ، و على حينِ غرَّة أخرجَتْ أمّ ناي سكيناً وركضَتْ نحوَه لتطعنَه في خاصرتِه وسطَ دهشةِ الجميعِ ،
فسقطَ راكعاً تُلطّخ دماؤُه الأرضَ ، بينما تقصُّ أمّ ناي للجميعِ حقيقتَه و فعلَه وبلحظةٍ خاطفةٍ تناولَ من جيبه مسدساً يخفيه و أطلقَ النّارُ عليها لتسقطَ مضرّجةً بدمائها ترتسمُ على شفاهِها ابتسامةٌ تقولُ ..
لا بأسَ يا صغاري صناديقُ الحياةِ ستعودُ إليكم ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى