قراءة نقدية في “من فيض الوجدان” للأديبة كفاية عوجان

رائد محمد الحواري| فلسطين

في هذا الزمن نحن في أمسِّ الحاجة إلى الأدب، لأننا نجد فيه متنفساً لنا، فهو “يخرجنا من الظلمات إلى النور” اللغة الأدبية، والألفاظ البياض، والصوت الناعم كافٍ ليمنحنا الراحة والسكينة، ويقرّبنا من الحياة. وميزة الأدب الجيد، أنه يستخدم طريقة ناعمة ولغة خاصة وأسلوباً سلساً حتى عندما يتناول فكرة قاسية ومؤلمة، من هنا يأتي دور الأدب في تهذيب النفس وصفاء الروح، وتطهير الأجواء.

في هذا العمل الأدبي نجد المتعة، والفرح، والطبيعة، واللغة الجميلة، والفقرات القصيرة، كل هذا نجده في “من فيض الوجدان”، فهناك أكثر من صيغة للأديبة كفاية عوجا، منها ما جاء بأنا المتكلم، أو نحن، ومنها من جاءت بصيغة هو الغائب، وهذا التعدد في الأصوات يحسب للأديبة “كفاية عوجان” التي قدَّمت أكثر من موقف/حالة من خلال تعدد الأصوات.

سنحاول إضاءة بعض جمالية الكتاب من خلال بعض الشواهد، فعندما تتحدث الكاتبة عن السواد والألم في الحلم البعيد” نجد هذه اللغة:

“حلم توارى خلف غيمة سوداء

أرض يكسوها الغبار والغباش” ص19،

فإذا ما توقفنا عند الألفاظ المجردة سنجد تناسقاً وتناغماً بينها وبين الفكرة المطروحة، من خلال التكامل والتواصل بين ” توارى/خلف/غيمة سوداء/يكسوها الغبار/الغباش” فكل هذه الألفاظ تخدم فكرة التعتيم، وعدم وضوح الرؤية والمشاهدة. والجميل في هذا التعتيم أنه جاء مقروناً بالطبيعة، بمعنى أن الأديبة والطبيعة كيانان متماثلان، فهناك، “غيمة، أرض” والجميل في هذا المقطع أننا نجد صوت الأنثى (مخفياً)/مستتراً وراء الصورة الشعرية، فهناك “حلم” المذكر مستتر “توارى” خلف المؤنث “غيمة، وفي المقابل نجد الأنثى “أرض” مغطاة “يكسوها” مذكر “غبار وغباش”. وما يؤكد أن هذا المشهد جاء من خلال أنثى، أنها جعلت المذكر “حلم” يستتر وراء الأنثى، بينما جعلت الأنثى “أرض” يعلوها/ يكسوها المذكر “الغبار، الغباش”.

وإذا تتبَّعنا بقية المقطع نجد فيه ما يشير إلى صوت الأنثى:

” رياح تشدني بقوة للوراء

أوقد حطب أحزاني

علّي أحظى بقليل من الدفء

وقمري الوضّاء يراقبني

يحرسني من بعيد

وهمس كائنات

يسري في مسامعي

كلحن يخرج للنور” ص19″

ثمة مجموعة ألفاظ تأخذنا إلى الأنثى: “تشدني، أحظى، الدفء، يراقبني، يحرسني، يسري” فهذا الألفاظ متعلقة بالأنثى، منها ما هو متعلق بفعل الحب، ومنها ما هو متعلق بالمشاعر، ومنها بالمجتمع. والجميل في هذا المقطع أنه قُدّم بصورة رومنسية: أوقد حطب، الدفء، وقمري الوضّاء، يحرسني، من بعيد، همس كائنات، مسمعي، لحن”، فالأديبة تأخذنا إلى أجواء الليل الهادئة والساكنة، فلا نجد إلا هي وقمرها، ومثل هذه النعومة ما كانت لتأتي إلا من خلال الأنثى الحقيقية وليس المتخيَّلة.

وتقول في “ترتيل الحب”:

“على وقع نبضك ترقص الروح

بشذى عطرك تنتعش الأنفاس

وبظلك العمر احتمى

يا رعشة القلب الأولى

برحيقك العليل

رويت زهور عمري

في محراب عينيك

ستكون صلاتي

وفي معبد روحك يطيب المقام” ص33.

في النص بياض مطلق، تنسجم فيه الألفاظ والفكرة معاً، لخدمة فكرة الفرح: “ترقص، الروح، بشذى، عطرك تنتعش، الأنفاس، وبظلك، العمر، احتمي، القلب، الأولى، برحيقك، رويت زهور، عمري، محراب، عينيك، صلاتي، معبد، روحك، يطيب، المقام”؛ فهذا التكامل بين الألفاظ والفكرة يشير إلى تماهي الأديبة مع النص، فقد أخذها الحب إلى الهيام بنصّ، بحيث جاء بصورة شبه نقية إذا ما استثنينا بعض الألفاظ القاسية: “وقع، احتمي، رعشة، العليل”.

وعندما استخدمت الأديبة “كاف” الحبيب: “نبضك، عطرك، بظلك، برحيقك، عينيك، روحك” أرادت بها التأكد (ملكيتها) له، لهذا نجد ياء الأنا حاضرة في المقطع: “عمري، صلاتي”، واللافت في هذا المقطع أن الأديبة بدت خجولة في البداية، فلم تستخدم أنا/ياء المتكلم، بل استعاضت عنها بالحديث عن: الروح، الأنفاس، العمر” وهذا يتماثل وحالة الأنثى الخجولة، لكن مع تقدم العلاقة، يختفي (الخجل) فتظهر أنا المتكلم واضحة وصريحة دون وسائط.

في مواضع أخرى تقدم الأديبة رؤيتها للمرأة وللرجل، وكأنها من خلال “فاكهة صيف” تدعو للمساواة التامة بين الرجل والمرأة:

حنون على قلبي

وكنت لك جاحدة

تتأجج فيك نار العشق

وتلفحك مني رياح باردة

فأنا في سبات راقدة

تسرب لقلبي بعض من نارك

فأذاب جليد روحي

ودبت الحياة في عروق

غصن جرده الخريف من أوراقه

وأشبعه الشتاء ارتواء

أخذ من البرد قسوته

ليأتي الربيع

يهديه الأوراق من جديد

فيزهر قلبي

في غير أوان.

قصير عمر أزهاري

تساقط من هبة ريح

بعضها يتشبث بذلك الغصن

ليكون فاكهة الصيف المنتظر

تبهج القلب وتسر النظر

ونعصر منها خمرة عمر

في سكرة الأحلام ارتحل” ص56و57،

في هذا النص مجموعة من الألفاظ المتضادة: “حنوت/جاحدة، نار/باردة، نارك/ فأذاب، السبات/ ودبت، جردة/ارتواء، الخريف/الربيع، فيزهر/تساقط” وهذا الأضداد يخدم فكرة (الصراع) بين المرأة والرجل، لكنه في ذات الوقت يؤكد وحدة هذه الأضداد، فلا يمكن لأحدها أن يكون دون وجود الآخر/نقيضه، وهذا الصراع يتماثل تماماً مع الطبيعة، التي يتصارع فيها الخريف مع الربيع، والصيف مع الشتاء، لكن في ذات الوقت كل فصل يموت/يذهب فيكون هذا ضرورياً لوجود الفصل الجديد.

والجميل في هذا المقطع أن الأديبة بدأته بفصل الشتاء، فهناك “رياح باردة، ونار، سبات، راقدة، جليد” ثم تأخذنا إلى الربيع “دبت الحياة، وأشبعه الشتاء، ليأتي الربيع، الأوراق من جديد، فيزهر،” ثم يأتي الصيف ونضوج الثمر: “فاكهة الصيف، ونعصر خمرة” وهذا التتابع في الفصول، رغم تناقضه يخدم الحياة وانسجامهاـ ومن هنا نقول إن الأديبة تدعو إلى التكامل بين الرجل والمرأة والمساواة بينهما، رغم تباينهما واختلافهما.

والتناصّ مع القرآن الكريم في نصوص الكاتبة كفاية عوجان، يأتي ليخدم الفكرة ويجمّلها، وهذا الأمر يستدعي الدقة في الفكرة والدقة في استخدام الألفاظ، وإلا سيكون سينقلب الأمر على صاحبه، جاء في “ورق أصفر”:

“عمر تطوى صفحاته

لا بهجة له ولا بريق

ورق أصفر

يتطاير على قارعة الطريقة

تذروه الرياح

فلا أنيس له ولا رفيق

تخلت عنه الأغصان والشجر

أم هو من غادرها

وهجر؟” ص80،

فالتناصّ هنا جاء من خلال تذروه الرياح، وهذا يأخذنا في سورة الكهف: ” وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا (45) ” فهنا الحديث يدور حول (عبث/فناء) الحياة وعدم أهميتها، وهذه الفكرة متماثلة تماماً مع النص، فهناك “لا بهجة، لا رونق، ورق أصفر، يتطاير، قارعة الطريق، فلا أنيس، لا رفيق” من هنا نقول إن التناص كان متقناً وفي مكانه، فهو متماثل مع ما جاء في الآية القرآنية، وفي ذات الوقت يتيح للمتلقي التعرُّف أكثر على جمالية الآية القرآنية، وكأن الأديبة تدعو القارئ ليتقدم من القرآن الكريم بطريقة غير مباشرة.

واللافت في هذا المقطع كثرة استخدام الحروف وأسماء الإشارة: “على، فلا (مكررة)، له، عن/ه، أم، من” وكأن الأديبة لا تريد أن تتعمق بالحديث عن السواد، فاستعاضت بالحروف وأسماء الإشارة، كتعبير عن (ألمها) وامتعاضها من هذا السواد، فالحديث عن الألم ألم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى