الكورونا .. ( التَّغَيُّر ) واللغة لم تعد ممكنة

غسّان علي عثمان | السودان

التَّغَيُّر ‏عند صاحب كشاف اصطلاحات الفنون هو: “كَوْنِ الشَّيْءِ بِحَالٍّ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ”، أو كما يمدنا الجرجاني أنه “انتقال الشيء من حالة إلى أخرى”. وأرسطو يرى التَّغَيُّر انتقال من ضد إلى آخر، أي انتقال من اللاوجود إلى الوجود، وذلك هو التَّوَلُّد أَوْ الْحُدُوث أو الكون. ولذلك فإن التَّغَيُّر لا يمكن وصفه إلا بالسلّب، هو حالة أخرى تماماً غير تلك.

وبذا فإنه ما من شك أننا نعيش لحظة جديدة، وهذه اللحظة لا تستمد عجائبيتها من الخطر الذي دهْم العالم ولا يزال، بل إن مصدر قوتها الحقيقي يعود إلى انكشاف ظهرها (ذاتها) أمام ذاتها، وقد كان لودفيج فيتغنشتاين (1889م- 1951م) الفيلسوف النمساوي خطر المزاج يقول بأن لا معنى لوجود الوقائع إذا ارتبطت بالأشياء، فالأشياء لا تعيش في عزلة عن عالمها، ذلك أن الكرسي هو كرسي لأننا نضعه لنجلس عليه، ولا يُشخص دون هذه العلاقة مع الغرفة والصانع.

وتجدر الإشارة إلى أن مقولة فيلسوف اللغة والقوة لم يكن يقصد بها إلا إيذاء الحقيقة بجعلها غير منتظمة في سكونية تمتاز بها عن معنى الوقائع، والآن فإن الفايروس الذي استطاع أن يمحو كل الحدود بين الناس تكمن قوته في ضعضعته لمفهوم الإنسان واللغة ، فإذا كان الإبداع هو محاولة لبناء جسر بين العالم والدلالة (Semantic) وفي ذلك تتفاوت ملكات المبدعين في التحرك بعدةٍ جمالية لتعميق حضور الرمز في الأشياء، فالآن لم يعد بالإمكان للإنسان أن يتحدث أكثر، لأن اللغة التي كانت تختبئ خلف القوة اُكتشف أنها لم تعد تملك لنفسها امتيازاً خاصاً يُمَكّنها من السيادة بالترميز الخالص، فعند كل (تَّغَيُّر) يصيب العالم فإنه يمس اللغة في المقام الأول، وبحق يسعنا الحكم بأنه لم تعد للغة حدود، بل خضعت للمصير الجديد بعد الوحدة الجبرية التي فككت سلطتنا في معرفة قيمها المطلقة، فـ(الوجود) وهو حَدُّ مركزي يجعلنا نقف مندهشين أمام وجود العالم، وبه تنتقل الفاعلية من وجودها الخاص إلى الذات، جعل الأنا الصانعة لها تتحرر من شُغلها في تجذيرها وتدبيرها، وفي ظل عالم الكورونا استحال وجود اللغة إلى حيز غير مرعي، ومسجون في معنى واحد، وللأسف فإن ذلك لا يعني بأننا قد وصلنا لما يسمى بأخلاقية اللغة تلك التي تجعل كل شيء في العالم قابل للتفسير والكتابة دون خصوصية (الأنا)، بل الذي يجري هو عين بعث الموت اللغوي، موتٌ يعيش أكثر على استخدام أنا مُزيفة، ومُزيّفة للوقائع.

ومن حسنات الخطر أنه يكشف لنا عدمية التعدد، ووهم الاختلاق، فالصحيح أن الإلهة القديمة كانت أعظم حظاً منا كونها استجابت لمعاني مطلقة قيدتها بالفراغ والعدم أو هكذا يقول فيلسوفنا، أما إنسان القرن الجديد الذي ابتدع لنفسه حرفة التفكيك والنقد والهدم والأسلوب طمعاً في صياغة اللغة، فهاهو اليوم يعيش العزلة المجيدة والتي صوبت أول أهدافها نحو جدار السياسات اللغوية، ويتوجب علينا دفن القواميس والمعاجم والتي هي بناء للذات بالتراكم، هي حالة من الطمأنينة في المعرفة، لأن كل أمة تصنع قوامسيها تتغذى على معنى معرفي يخصها، وبه تدافع عن نفسها، لأن الدفاع عن اللغة هو عن الذات، فالصورة الآن أن القواميس لن تملك حجة للدفاع عن نفسها، وستكون مضطرة للتنازل عن خصوصيتها، فـ(قاموس أكسفورد) بل حتى (موسوعة لالاند) وفينا (لسان العرب) لم يعد في مقدورهم فتح الباب لدمج معنى جديد يضاف إلى الحواشي ظناً بأن كل شيء على ما يرام.

اليوم اللغة تهتز إذ فقدت السيطرة على الوافد، وهي الآن تخضع له بعد أن كانت مهيمنة، ولن تجدي تلك الحيلة المسماة “الاصطلاح” وهي حالة من ذُهان الذات تبحث فيها عن ملافاة الخلل بالاتفاق المفتوح.

وفي حالة اللغة لم تعد ممكنة وأنها أصيبت وباتت بكماء، فنحن الآن نعايش أكبر ضربة تتلقاها علوم اللغة كونها لن تستطيع التعبير عن الوعي بشكل دقيق، فهذا الزائر الجديد ليس ككل زائر عنوة يُفتح له الباب ليوضعَ رفقة الكلمات، الجديد هنا يتعلق بأن اللغة التي هي بنت الحضارة تعيش تحلل حقيقي يشطرها أكثر في ذاتها.

 

وهنا، فالأسئلة المشروعة، ترى هل ستعود اللغة إلى موقعها في الذات مرة أخرى؟ أم باتت اللغة الآن في هامش الوعي ولن تستخدم إلا بصورة غير واعية؟.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى