أدب

قراءة في شعر حاتم الصكر

في ظلال البدايات والنهايات: تأملات في رحلة متاهات الحياة

د. رائدة العامري| ناقدة – بابل – العراق

يبدو أن قيامنا بقراءة نقدية لقصيدة (بداية ونهاية من أواخر القرن العشرين) من ديوان “ربما كان سواي في الدواوين الأربعة” للناقد الدكتور حاتم الصكر.. فإننا نتوقف أمام عمل شعري يحمل في طياته العديد من الرموز والمعاني العميقة. قصيدة لا تقدم سرد لأحداث، بل سياق رحلة تحليلية للبداية والنهاية بأشكال وتقنيات شعرية.

وددت الإشارة إلى المرحلة الفنية التي كتبت بها النص وهي الوزنية بطريقة شعر التفعيلة.قبل قصيدة النثر.الاستناد إلى كتابة هذا النص في التسعينيات.إذ ان أواخر القرن العشرين يحمل دلالات تمثل حركة الحداثة والتجديد للنص الشعري والبحث عن أشكال جديدة للتعبير عن مشاعر وأفكار الشاعر من جانب  والتحديات الهوية التحولات الثقافية من خلال التعبير عن التوترات والتناقضات والتأثيرات المتبادلة في المجتمع من جانب أخر. التي تعتمد على الشاعر والسياق الثقافي والاجتماعي المحيط إذ تلعب الرموز دورًا مهمًا في الشعر وغالبًا ما تحمل دلالات مختلفة. منها الوحدة والانعزالية والتحدي والفراغ وفضاء العدمية.

رحلة يتخللها كشف سلسلة من البدايات والنهايات في حياتنا بأسلوبٍ متوازن، يستخدم الشاعر العديد من الرموز لتمثيل البداية والنهاية: الورد، مقص القابلات، العصافير، الليل، الأرض، المنابر، المقابر، الشمس، الدم ، القلب …

دوامة الدوران دورة اللامتناهية من التلميح إلى التحول والتغير، “بداية ونهاية”. تحول دائري يعكس طبيعة الزمن باتجاه دائري، سلسلة من البدايات والانتهاء والاستمرار في حركة تكرار دائري ودوران داخلي وترجمة للأفكار والمشاعر للبحث والتنقيب عن المعرفة. تكرار يعكس بدء رحلة جديدة دائرية بإيقاع متناغم في خلق حركة توازن ترمز للجمال والتجديد بحماس وأمل الذات ورؤيتها الفريدة وذلك لتمنح شعورًا الاستقرار والثبات.

حركة دائرية لقوة لا نهائية ومستمرة وتوازن متكرر، إذ يوحي النص بأن الزمن والتغير ليسا مسألة خطية أو اتجاه واحد، بل هما دائريان ومتلازمان في الحياة والطبيعة.   

رحلة الحياة بأبعادها المختلفة يستخدمها الشاعر تحت عنوان “بداية ونهاية” نقطة انطلاق لصياغة المشاعر وخاتمة للتعبير تحمل دلالة الحب والفراق والألم والأمل والفرح، التي تشير إلى نقاط ولادة التحولات والتغيرات وتعكس سريان قوة مرور الزمن ومواجهة تدفق تغيراته المستمرة وتلاقيه في اكتشاف بداية دورة رحلة الحياة في عمق المعنى والخضوع بنقاط مختلفة من البداية إلى النهاية بشكل متناغم يمثل مفتاح العوالم المتعددة التي يخفيها الشاعر في أبياته.

انسجام العنوان والتركيبة الشعرية في تعبير رمزي بداية كل مقطع من مقاطع القصيدة تنطلق من نقطة البداية، لتسلط الضوء على حلقة لانهائية من البدايات والنهايات، مما يعكس استمرار دورة الزمن والتغير المستمر في نسيج الحياة.

تكرار عبارة “يبدأ” توظيف رمزي وشعور بالنسيج الداخلي والاستمرارية يسهم في إيصال رسالة يتنبأ بالعودة إلى نقطة البداية بعد الانتهاء، حلقة زمنية لا نهاية لها، توحي بالإصرار والشجاعة في مواجهة التحديات والمخاطر، يبدأ من حيث ما ينتهي ثم يبدأ من جديد في دورة لا نهاية لها كبداية جديدة لكل يوم.. إذ يقول في قصيدة:

بداية ونهاية

(من أواخر القرن العشرين..)

-1-

يبدأ الحب بوردٍ.. وهدايا

 ورنين القبلات

ثم ينُهى.. بمقص القابلات (1)

عتبة العنوان في النص الشعري تشير إلى تجاوز حدود محددة البداية والنهاية إلى بداية حالة جديدة ونهاية حالة سابقة وذلك من خلال تسلط الضوء على فكرة عدم استمرارية الأشياء في تلاشي البداية والنهاية كدلالة على الهروب من عجلة الزمن، فضلا عما يعكس الشاعر رغبته في الحفاظ على اللحظات الجميلة رمز للأمل و التنبؤات بالوعي الذات إلى رحلة البدء بشيء جديد وإبقائها حية وذلك بتجاهل النهايات تدريجيًا على مر الزمن.

يقدم الشاعر صور رمزية لإضفاء جمالية التعبير عن الأفكار والمشاعر بشكل فني ليعبر عن دورة الحب والحياة، وتحمل دلالات تباين المشاعر والانتقالات المتناقضة لتظهر قدرة الزمان على التغيير والتحول بشكل مفاجئ في النص الشعري.

يبدأ الحب برحلة إلى عمق الروح ليعزف في أوتار القلب بلغة الهمس فيغني عن الكلام ليتوقد كل يوم بشغف جديد وليبقى في تلك المتاهة ليروي التفاصيل الدقيقة بروحانية التنبؤ شجون البعد ويبدأ لينتهي برؤية فنية وحركة مفاجئة وسريعة لمقص القابلات شفرة تأويلية عميقة تشير إلى رمزية الثبات والتحدي والتغيير والتحول الثقافي والاجتماعي من جانب ورسالة رمزية تحقق التوازن والتناغم في النص لتعبر عن فكرة معقدة محددة النهاية بشكل مفاجئ وذلك لتبرز الألم والحزن المؤلم لحقبة في نسيج الحياة من جانب آخر.

ـ ۲-

يُبدأ الكأس بضحكاتٍ.. ونشوة

ثم يُنهى – رغوةً –

في آخر الليل

على الأرض تُراق

يعتمد النص الشعري على التناقض والانسياق للرغبة في تبيان انتقال المشاعر والتجارب المتناقضة، بحركة دوران داخلية لإضفاء جاذبية وتأثير عاطفي تبدأ بنشوة الكأس المغري من الخارج كرمز للراحة بتوظيف الضحكات والهروب من الحقيقة والدخول في عالم من الأحلام بلا حدود، وتنتهي حركة الدوران إلى تدهور الأمور بتلاشي الرغوة الهاربة بين أصابع الزمان من الظروف المتغيرة والتناقضات الوجودية المختلفة، رسالة للإشارة إلى السراب والانقضاء السريع للواقع المغيب والسطحي للآمال في الحياة. مما يعكس آثار الزمن لهشاشة العبور وتلاشي الذات المتخيلة والعودة إلى الواقعية.

وظف الشاعر دلالة التزامن والتسارع في النص عن التناقض والتضارب بين الأحاسيس المتناقضة من خلال دمج هذه المشاعر المتناقضة كـ: الفرح والحزن والسعادة واليأس “يبدأ الكأس بضحكات ونشوة ثم يُنهي ـ رغوة ـ في آخر الليل على الأرض تراق”، المتعة التي تنتهي بالحزن لخلق تأثير عاطفي قوي في المتلقي ليظهر الحزن والتراجيديا برمزية التصوير عن تجربة مليئة بقسوة الحياة. تبدأ بضحكات ونشوة تعكس البداية المليئة بالحيوية والحماس، ثم تنتهي برغوة على الأرض تراق لترمز إلى انحسار وتلاشي الحماس وحدوث تحولات بمرور الوقت وإلى الغموض وانتهاء هذه اللحظات ليولد الحزن والألم وعدم الاستقرار في الحياة.

من يقرأ النص للوهلة الأولى يمكن فهم هذه الرمزية بأنها تصور لمفارقة الحياة، حيث تبدأ بلحظات سعيدة ومرحة، ولكنها تنتهي بشكل مفاجئ ومؤلم. بل أنها تعبير عن الوجود الداخلي لذات الآخر وصراعاته المتناقضة ، إذ تتلاشى بسرعة وتتحول إلى أحزان وخيبات.

إذ أن تجسيد رمزية العبثية والتوتر في النص يعبر عن التناقض والتضارب في النص بإضفاء طابع عميق ومعنوي فضلا عن إيصال رسالة فلسفية أو شعورية للمتلقي، ولتسليط الضوء على التناقضات في الحياة وعدم الثبات الذي يواجهه الآخر.

ـ3ـ

تبدأ الحربُ خطاباً

 جامحاً فوق المنابر

ثم تمشي

في جنازة

تعتلي عرش المقابر

   يستخدم النص الشعري آلية التحول والتغير للتعبير عن رمزية مختلفة للحرب، ليعكس الخطاب الجامح  اللاذع في  توظف الدلالات الرمزية لإيصال رسالة تشير إلى آلية التحول من خلال قوة الكلمة الجامحة المؤثرة وتأثر الأقوال والنداءات في إذكاء رغبة الحرب التي يتم توجيهها عبر المنابر مما يستدعي صورة للإثارة والتحريض، التي تحمل طابع الألم والحزن الذي يتسبب فيه الصراع المدمر كرمز للبداية المفاجئة التي تتحكم في الحياة وتنصهر مع الموت والدمار الذي يمثل الهيمنة/ السلطة الكاملة على الأرض.

   إذ تنطوي هذه الدلالات الرمزية على عمق النص وتذكير المتلقي بالحقائق العميقة والقضايا الإنسانية المعقدة، ثم يأتي التحول الآخر في استخدام الصور والكلمات المعبرة بشكل متناقض “تمشي في جنازة تعتلي عرش المقابر”، رمزية تتحول من السلطة إلى الألم والحزن ومرارة الموت والخراب. هذا التحول صورة مركزية وقوة معقدة تعبر عن تسلط الحرب وسيطرتها على الحياة والموت إذ يعزز التناقض بين هاتين الصورتين المتضاربتين، مما يثير استجابة عاطفية مختلفة لإثارة المشاعر والتأمل لدى الآخر وكسر أفق المتلقي، إذ يسهم في نقل رسالة بعمق لتحولات متضاربة في صورة الحرب، مجسدة التناقض بين الخطاب العدواني والجامح والعنف إلى السكون والحزن والتذكر في صورة تمثيلية قوية تعزز الاستياء والتشويش والتعاطف في تصوير الحرب.

في صمت عميق وتحدي ينبض بقوة لتحكي الألسن من خلال طاقة تتجدد لتستمر الرحلة في استخدام الشاعر الأرقام 1، 2، 3،… في كل مقطع من مقاطع القصيدة على نحو متجانس وذلك لإظهار التحول الرمزي والتغير لتناول دلالات مختلفة المضمون وتتابع للمشاعر والأحداث في موازنة بين الأفكار الإيجابية والسلبية في القصيدة.

ـ4ـ

يبدأ الشعر ببيتٍ

 عن عصافير.. تهادتْ

 في فضاء العاطفة

ثم يُنسى في غبار النثر

يسقط ريشاً في هبوب العاصفةُ

 صورة شعرية تبدأ البداية الجميلة بتهادت العصافير في فضاء العاطفة العميقة والتواصل الروحي الذي يستحضره النص.. تحول يعكس الإبداع  لقدرة الشعر والتأثير العاطفي لإلهام الفن والأحاسيس على التحول إلى الواقعية والتحديات الصعبة التي يمكن أن يواجهها، صور تعكس تحليق العصافير في فضاء العاطفة كرمز للحيوية والجمال والحرية وتمثيلًا للعالم الداخلي  للذات والآخر، ولكن، رغم جمال أصواتها ــالعصافيرــ وحركاتها الموسيقية، فإنها تتلاشى في النص لا تستطيع البقاء..

   تأملًا رمزيا وتأويلا عميقا للمعنى وذلك من خلال تأثره بالمحيط الخارجي على الشعر ليعكس العواطف العميقة وتجارب الحياة المليئة بالمشاعر الداخلية والأحاسيس، ويسلط الضوء على التناقض بين الجمال الروحي والواقعية المادية. كرمز للتحول العنيف والتغيير في العالم الذي يقمع جمال الشعر ويرميه بعيدا. إذ يغير في غبار النثرــ يسقط الشعر ريشه في هبوب العاصفةًــ يعكس هذا التحول الكبير والشديد الذي يعبر عن مخاطر فقدان الجمال الروحي في ظل الواقعية والضغوط الخارجية. وذلك من خلال استخدام صورة النثر والغبار كرمز للواقعية والقواعد العقلانية. إذ يتعرض للتشويش والتحولات ذات التأثيرات القوية غير المرغوب فيها.

ـ5ـ

تبدأ الشمس صباحاً

سيرها!

وهجاً من ذهبِ

فأقول:

 احضنيني مثلما تمتد في القلب خريطة…

 فتغيب

شفقاً من دم قتلاها على وجه البسيطة!

   يحمل النص الشعري رمزية التغير والتجديد، رمز إشراق ظهور الضوء و بداية الإنطاق والتجدد والدفء مع وهجها الذهبي، يدعو من الشمس/ الآخر لاحتضانه مثلما يمتد الشفق في القلب كخريطة تحيط بالسعادة والدفء، كطيور الشفق التي تحتضن الليل المظلم ،”احضنيني مثلما تمتد في القلب خريطة” إذ يتملك الشخص نفسه وأن يكون متواجد في ذاته، و قادر على الحب والدعم الذاتي وأن يكون الآخر حاضر وموجود ومحاط  بهذا الحضور بنفس الطريقة التي تمتد بها الخريطة في قلبه. ومع ذلك، يظهر الغياب في “تفادي شفق”، يرسم غيابا عن تلبية حركة الداخل وعدم القدرة التواصل مع الذات.

فيبدأ التغيير تراجيديا ليعبر عن رمزية التناقضات والتحولات يعكس الأوقات الإشراقية إلى تراجيديا الألم والفقدان “تغيب الشفق من دم قتلاها على وجه البسيطة”، يعكس هذا الغياب واندثار الجمال وعدم القدرة على تحقيق التواجد والحضور الفعلي في نسيج الحياة ، مما يشير إلى الحفاظ على البساطة والرقة رغم تلك التغيرات.

  نسق يعطي إحساسًا بالتكامل والتناغم بين الأفكار والصور لربط بين عناصر الطبيعة والمشاعر مما يضيف عمقًا وتأثيرًا عاطفيًا للنص الشعري لإيصال فكرة المشاعر القوية وتناقضها في الوقت نفس من خلال هذا النص يعبر عن أهمية الاستمرار في التغيير والتطور وأهمية الحب والاحتضان.. أهمية الحضور الفعلي واكتشاف نسق الداخل والانفتاح الجيد على الذات وتواجدها بشكل كامل وملموس. كي يحقق الاستقرار الذاتي للشعور بالكمال والتوازن. وذلك للقدرة على تحقيق التجديد والنجاح في نسيج الحياة.

البداية والنهاية حلقة مغلقة تؤكد رحلة الابتداء للحركة المستمرة رمز للأمل والتفاؤل ذا تأثير مفاجئ في إيقاظ الاهتمام لدى المتلقي، والخروج من آفاق مألوفة واستكشاف أفكار ومشاعر جديدة لا تتوقف عند نقطة محددة، بل تستمر في الانتقال والتطور.

   الدوامة الدائرية للزمن والتغير المستمر تبدأ من أشياء جديدة وتنتهي بأشياء أخرى رغبة الشاعر في التعبير عن الإبداع الدائم والبدء من جديد في كل مقطع جديد من القصيدة. يعكس الشغف والحماسة المستمرة للتعبير الشاعري. ليحقق التوازن والاستقرار بين الأفكار والمشاعر لفهم معانيها الكاملة والدلالات المحتملة إلى الوجود الدائم والثابت في وجه التحديات والتغيرات، ويضفي عليها طابع شاعري خاص من التلميح إلى التحول الرمزي والدائري للزمن والتغير. “بداية ونهاية” التحول الدائري للزمن والتغير..

إشارة

(1) ينظر: ربما كان سواي في الدواوين الأربعة: الدكتور حاتم الصكر، إعداد : د. رائدة العامري. مؤسسة ابجد للترجمة والنشر والتوزيع،66 ، ط1-2022 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى