عالم الثقافة | القاهرة
هذا الكتاب يضعنا أمام علاقة الإنسان بالشعر من خلال انتماء الإنسان للشعر وصيغته التواصلية، وانصهاره في صميم الذات الإنسانية؛ إذ يسهم الشعر في تكوينها، وترسيم حدودها وفق ما جُبلت عليه تلك الروح من الشاعرية التي تشكّل لحمة الذات الإنسانية، والشعر دوماً في بحث دائم عن وسائل تعبيرية أكثر جمالاً، وأدقّ إفهاماً لمشاعره، لأنّ الناس جميعاً يتواصلون في الشعر، وبالشعر، ويجيدون وجهاً من وجوهه كلّ من موقعه، فالرسام يجيد الشعر من خلال إفراغ شاعريته على لوحة تفيض جمالاً، والناقد يعطي للمتلقي لغة أخرى أكثر واقعية لفهم النصّ، والشعر يمجّد الحياة التي- بطبيعتها- تتلوّن بأشكال عدة للشعر، والإنسان كذلك في تدافع مستمرّ للوصول إلى أدوات تعبيرية يقيم بها وجوده الحضاريّ، ويصنع ذاته الفاعلة في هذا الكون، فلم يكن الإنسان يوماً منفصلاً عن الشعر كأداة تعبيرية تميزه عن سائر المخلوقات.
إنّ الشعر بحدّ ذاته فنّ يؤصّل لكيفية التوصّل إلى حالة أو وسيلة تفسّر أطراً عصية لا تستجيب إلا بالأداء الشعريّ الذي يقوم على إحياء الروح، وتنمية قدراتها الحياتية، حيث تسعى إلى السامع بوجدانيات لا يدركها العقل مباشرة، ولا يستطيع اللسان ببديهته أن يصنع لها الألفاظ التي تعطي نفس الإشارات الخفية الداخلية التي تموج بها المشاعر، لكنه يمكنه أن يصنع منها عالماً مفسراً لوجدانه الداخليّ، وشكلاً من أشكال التواصل البشريّ الذي لا بدّ منه، غير أنّ هذا التواصل عبر اللغة يتطور ليصل إلى مرحلة أرقى وأسمى تُسمى الشعر.
لهذا كان الشعر ضرورة حياتية تصعد وترتقي بالنفس الإنسانية، وتحملها إهابات ناطقة وفاعلة في التكوين النفسيّ، فالشعر هو الذي يتولى التعبير في مراحل كثيرة لا تسعف فيها اللغة العادية، وتعجز عن أداء ما يعتلج به الوجدان، فيمنح اللائذ به أجنحة خلاص من أسر ما هو معلوم معاش، إلى رحابة المفترض الذي يسعى إليه، ويرتقي بالذات المكبلة بثقلها في عالمها، إلى حقيقتها من الجمال والحرّية، فهو ضرورة ذوق وجمال، والشعراء في كل زمن هم حارسو تلك المعاني الراقية، وفرسان مرابطون على ثغور الإنسانية يحفظونها من السقوط في هُوّة الإسفاف والهزلية، وذلك صنيع لا يقدر عليه إلا الشعر.
والإنسان هو مركز الانبعاث الإبداعيّ؛ حيث ترتبط الإنسانية في جوهرها بالعالمية، حيث يصبح الإنسان هو مركز الكون، بصفته يحمل المشترك بين الجغرافيات المتعددة والثقافات المختلفة، والحضارات المتباينة، وهذا المشترك هو سبيل التفاهم والتعايش والتسامح والحوار والائتلاف في الحياة والجمال والقيم، عبر إبداع الأسئلة المسهمة في كشف هذا المشترك، والذي تتمايز فيه الشعوب، ويعلو عند أمة وينخفض عند أخرى حسبما تقتضيه طبيعة التربية الجمالية والحسية لكل أمة.
وقد سرنا في تقسيم هذا الكتاب إلى مرحلتين:
الأول: وهي عن ضرورة الشعر للإنسانية، والتي تحددت معالمها مع أول دفقة للروح التي تخللت خلايا الجسد الإنساني، وهي ما جعلت الشعر في كل زمن يصنع عالماً لا تصل إليه مادة الغذاء، ولا يقوم بنيانها عليه؛ بل تتغذى على دفقات الشعر الحية المعبرة، حيث يمنح الآداب الإنسانية كثيراً من سماته التي انطلقت من لدن الأمر الإلهي في تكوين الإنسان بقوله: اقرأ، إلى الحالة التي تمّ فيها رسم صورة القصيدة.
الثاني: وهي مداخل للشعر: وفيها نماذج للشعر المعاصر، أعددناها كمداخل للشعر، نستطلع من خلالها آفاقه المتعددة، ووجوهه المتجددة، ونرصد اهتماماته من التي تتباين أو تتلاقى، وهي تمثل صوراً حية لما وصل إليه الشعر من تطوّر ما بين التفعيلة والنثرية، وقد جاءت تلك النماذج على شكل الشعر الحديث الذي لم ينبتّ عن أصله، ونماذج أخرى لقصيدة النثر التي لا تزال تثير خلافاً ممتداً حول صلتها بالشعر العربيّ.
وقد توصلت إلى عدة توصيات ونتائج ربما تكون مدخلاً إلى قراءات أخرى أعمق تأصيلاً، لتثير شهية الناقد إلى نظرة مغايرة لكشف مغاوير الشعر:
التوصيات:
أولاً: لم تكن أمة من الأمم أكثر استهتاراً بنصيبها من منحة الشعر كأمتنا العربية، وما يدلنا على ذلك هذا الكفران الذي يحط بالشعر والشعراء من التهميش والإقصاء، حتى صار في غالب أزمانه أداة للتسول، الأمر الذي حطّ من سلطانه كشعور إنسانيّ راق.
ثانياً: العمل النقديّ على الشعر أُصيب في معظم مراحله بالفردية والادعاء، ولم تكن لنا أعمال جادة إلا القليل منها الذي يؤسس لمنظور نقديّ متكامل الأركان مثلما حدث للشعر الغربيّ مثلاً، ويؤصل نظريات نقدية تخدم هذا الفنّ الكبير، وكلّ ما قدمه نقادنا مستفاد من نظريات وأبنية الغربيين التي لا نزال ندور في فلكها إلى اليوم.
ثالثاً: أننا حين أردنا الخروج من دائرة التقليد لما هو قديم فيما يسمى بالحداثة ضللنا الطريق، وكفرنا بالشعر جملة، وتمردنا عليه في ثورة مضللة خرجنا منها وقد خسرنا معالمنا، وفقدنا وسائلنا التعبيرية الجاذبة للجمهور، وولجنا إلى التغريب والتضليل اللفظيّ والمعنويّ، الأمر الذي أحدث انفصالاً عظيماً بين الشاعر والمتلقي، وهذا الانفصال أحدث بدوره انتكاسات كبيرة للشعر عبر عصوره المختلفة.
رابعاً: أنّ القطيعة التي أحدثناها ونحن متخفون وراء الحداثة قد أحدث مفهوماً آخر لدى المتلقي مفاده أنّ الشعر حالة خاصة بصاحبه، بعد أن كان الشعر وسيلة للتقريب والتوحيد بين أجناس البشرية، ودعوة للمؤاخاة وجدانياً وروحياً صار الآن لغة خاصة لتجمعات منفصلة ذاتياً ووجدانياً عن المتلقي الذي هو حجر الزاوية الثاني بعد الشاعر.
النتائج:
أولاً: الشعر فطرة إنسانية لا صناعة بشرية، حيث انطلق الإنسان الأول آدم عليه الإنسان أول ما انطلق متسائلاً وباحثاً ومكتشفاً للأشياء بسؤاله المتكرر، وقد انتقل هذا السؤال بعد إلى محاولات للتعبير والتدقيق والرغبة في إفهام الآخر مشاعره، ومن هنا تطوّر الشعر ليصبح أداة لا تتخلف في كلّ الجنس البشريّ، ولا تقعد عن الإبداع وتلوين الحياة بكلّ جمال، وتشكيل الجوهر الإنسانيّ بكلّ معاني الجمال والخير.
ثانياً: لم يكن الشعر صناعة ونظماً في أيّ طور من أطواره، وهو دائماً ما يفضح الكذبة المدعين عليه، وما أسهل ذلك عليه، وأثبت أنه منحة ربانية عالية القدر، ولهذا تداخلت فاعلياته في المجتمع والسياسة والحرب والسلم والزواج والرثاء والحب وغير ذلك.
ثالثاً: أعظم ما حققته القصيدة الإنسانية أنها وصلت العالم المنظور باللامنظور، أو الوجدان بالشعور المباشر، واحتفت بتجربة الإبداع أيّما احتفاء، فجعلها ذلك أقرب إلى التجربة الروحية الصوفية، وهي قدرة الروح المبدعة وانتصار موهبتها على قوانين المادة، لتقدّم الحجج والبراهين على أنّ الفنّ وبالأخصّ الشعر هو طريق النجاة من قسوة الموت، وتخبّط السياسة، وغرور العلم الهدّام، وتعنّت الفكر المتطرّف، وجشع البورجوازية العشوائية، وضياع أنقى وأبقى ما في الإنسان وهو حياته الوجدانية، وقدرته على الخلق والتجديد والإبداع تحت عجلات الآلة والنفعية والوضعية، وزحام الفضاءات المدينية الملوّثة.
رابعاً: أنّ الشعر يحتاج كثيراً من العمل والعودة إلى البساطة والامتزاج بقضايا الآخر، حتى يصبح مرآة للأمة، وتعبيراً حقيقياً عن آمالها وأحزانها وأفراحها.
خامساً: أنّ الخروج على القديم ليس معناه انتقاصه، ولا ابتعاداً عن موروثه الذي تمّ بناؤه في مئات السنين؛ بل يجب أن يكون التحديث بناء على ما تمّ إنجازه، وتطويراً لأسسه وقواعده، فالنكران للقديم يضعنا في حالة من الفوضى والخسران للقديم والجديد على حدّ سواء.