دهاليز البحثنة الشعرية في دفتر د. زينب أبو سنة
بقلم: د. السيد خلف (أبو ديوان) – رائد مدرسة الجن
كلية دار العلوم – جامعة القاهرة
بحثنة الذات والتفتيش في أعمق أغوار مدارجها بغيةَ الوصول غيرِ الآمن أحيانا لإشارة تماثلية مستمرةٍ مع تغير الزمن بإيقاعه النابض، في كلِّ لحظة تجعل البحثنةَ الشعريةَ متقطِّعةً بالنسبة للزمن، فيتقاطع البحثُ مع الزمن لتقريبالإشارة التي يمثلها، متماسًّا مع أدق خلجات([1]) الروح الشفيف.
تقدم الشاعرة نصا مغايرا يتكئ في دفتر القلب الصادر عن دار أفاتار للطباعة والنشر سنة 2019م على تجربة صادقة واقعا ومتخيلا وظفت السرد والرواية والفن التشكيلي والكيمياء في جل أجزائه التي استمدت ثقافة عريضة تمتد بين قرنين: النصف الآخر من القرن العشرين والنصف الأول من القرن الحادي والعشرين في نصية متماسكة يضمها خيط رفيع من الحكمة دون وصاية والرقة بلا ابتذال والسباحة مع التيار أو ضده بغير تعالم، وفي القلب قصيدتها (دهاليزك) ص67.
فبيْن وضوح المُحِبة ورغبتِها في المكاشفة، حتى في أعتى لحظات الحياء وغموض المحب المتواري في رمزية مقيتة، يحجُبُ بها ضوءَ الشمس؛ ليعكسَالمشهدَ الموروثَ معيدا بطَرْف خفي سلوكاتِ ابن أبي ربيعةَ مع حبيباته في صورة غزلية معكوسة وَفقا لسرعة إيقاع العصر الحديث ومآلاتِ اللامبالاةِ من وجه، وعدميةِ اختيار الأفضلِ استنادا إلى أي مفضولٍ من آخر لا تَعْدَمُ أن تجدَ امرأة عنيدة، وإن هدَّها العطاء، تحاول البحثِ عن أجزائها الحالمة بين ركام العُنْجُهِيَّةِ الذكورية، حين تتشظى على مرأى ومسمع من البرواز.
ومنها قولها:
أنا ما زلت حتى الآن لم أفهمْ دهاليزَكْ
أنا كالشمس واضحة وأنت تحبُّ تلغيزَكْ
سأبحث عن شظاياي التي فقدتْ براويزَكْ
قد يبدو لبعض العاديين أن المعنى مباشر، وأن الصورةَ غيرُ عميقة، والحقُّ أن كليَّةَ التصويرِ العبثيِّ متجذرٌ في نقيضين: فترى أحدَهما حاضرا بقوة، والآخرَ يستدعي بغروره الغيابَ، فيتسعُ المدى السلبيُّ بين ال (هي) وال (هو)؛ هي توقظ الضوءَ وهو ينام، فتقبلُ ليدبرَ، ثم يعبِسَ حين تضحك.
فتبدأ واعيةً بأعرف المعارف وأرقى حالات القصدية واستحضارِ الذات في صرخة حزينة (أنا) مجددةً عهدَ الحب ومواثيقَ الوفاء(ما زلتُ)، ثم تصارع ضميرَها الموجوعَ بعد وصول آهاتها إلى قيعانِ المأساةِ المتجسدةِ في استغراقٍ زمنيٍّ ممتد، لا حدَّ ولا سقف، لا قاعَ ولا شاطئ في يأسٍ مُطبِقٍ (حتى الآن)، فتزداد المعطياتُ التي شكَّلتْ من دموعِ تراكيبِها جوهرَ الحدَثِ(لم أفهمْ دهاليزَكْ) بالتماس طريقٍ أخرى تتوصل بها إلى فُسْحَةٍ نفسيةٍ لإكمالِ علائقَ شائكاتٍ منذ البَدءِ على حافَةِ الظمأ، يسيطرُ عليها حسٌّ صوفيٌّ، يُؤَمِّلُ أنْ يُغيِّر المصباحُ زيْتَهْ.
ثم يتنازلُ عن الوصفِ المباشر بواسطة الكاف الموضوعة حاجزًا يشي بقيمة المغايرةِ بين الأنا المشرقةِوالأنا الأخرى(أنْتَ) حين تستقلُّ الواوُ بنقلةٍ نوعيةٍ؛ لتقارنَ حالًا بأخرى.
وهنا يُحْمدُ للشاعرة المباشَرةُ مرةً في جملة تقريريةٍ -لم تتنازل فيها عن(أنا)ها- من مبتدأٍ وخبرِه، ومرتينِ لفصلِها بين المسندِ والمسندِ إليه بشبه الجملة المتعلِّق بالشفَّافيِّةِ خارجَ إطارِ الزمن؛ ليزيدَ الصورةَ وضوحًا ويَجْلُوَ بياضَها الشفيف.
إنه لم يكتف بجَرْح مشاعرِ أنثاهُ الرقيقةِ فقط، بل إنه يمارسُ طقوسًا تُبقي الباب موصدًا في تخطيطٍ واعٍ يَنُمُّ عن درْبةٍ بالصدِّ وخبرةٍ بالإيلام، والعجيب أنه لا يفعل ذلك مضطرًّا؛ فهْو أحدُ أساليبِه، وتلك إحدى خُطُواتِ منْهَجِه في تعتيمِ المسافات بحبٍّ مريضٍ يدفع إلى ذلك، يتضح في خطابها:
تحطِّم كلَّ أسواري تحاصرني بألفِ حصارْ
تكبِّلني بلا قيدٍ تحاورني بغيرِ حوارْ
وأكملُ فيك إبحاري وأنتَ المدُّ والتيارْ
وعلى الرغم من تلك الجراحات فلن تستغرقَ وقتا ولا جُهْدًا في الهروب منه فيه إليه، وإن ظلَّت محاصرةً بغيرِ مَنْعَةٍ من أسوار، حتى تولدَ مأساةٌ جديدةٌ في دائرة معتمةٍ تلهمُ الشاعرَ الحقَّ والعاشقَ الصدقَ، ولا تعلم الظالم الرفق، في اعترافها المر:
أنا ما زلت حتى الآن لا خوف ولا اطمئنانْ
وما أبدلت نار الشوق فيك بجنة النسيان
سأهرب منك فيك إليك حتى آخر الأزمان
أما الطريف بين تلك الأشواك فميلك إلى أن الزهرة الرقيقة تكاد تكون استسلمت لتدفع ضريبة ثورة الروح للحظات عاتبت فيها نبيها المزعوم وكاهنها الموهوم وغائبها المعلوم مفترشة فضاء حكايتها بقلب عارٍ على رمال الخوف من العودة ليعزف ذلك المحظوظ على نوتته الموج الهامس صخبا والصاخب استعلاء رقاه الماكرة وتعاويذه الآسرة فوق دمها الغض الذي لا يزال يراه مع ما فيه من تسلط وتجبر وضبابية صاحب العرش وأمير العشق الملهم. وإن حاولت يائسة التحدي والصمود اللحظي الضعيف في بوحها الصامت:
تخوفني ولست أخاف في الأحكام تنفيذَكْ
سأترك قلبيَ العاري لكي تُلقِي تعاويذَكْ
أميرَ العشق والعشاقُ قد صاروا تلاميذَكْ
فأيُّ سلطة عليا تلك التي حازت مشاعر جنية جميلة مثقفة تعرف كيف تتحكم في مقامات الوصل والهجر والقرب والبعد على السواء حتى ملكتها من ست جهات؛ لتقع راضية مرضية، فتستبدلَ يائسة بالخوف إيناسه وبالشوكة الواحدة السير على الشوك كله، بالانزواء داخل جدران الصمت والنزوح إلى دفع الروح دفعا في علاقة غير عادلة يرضى فيها الطرف الضعيف بتنفيذ عقوبات الجاني منذ البدء بأحكام تصبح بالتقادم منصفة!
لذلك، ولغيره؛ صارت قديسة الإحساس تشرق كي تفتح وعاء المسك،ولا تدري أن خيوط الصباح سكنت في أشواقها عبر السحاب، حين أحبت قبل الرحيل في تحدٍّ واضح بلا تساؤلات، وبلا بكائيات، فلم تبال، ولم تلم خيالا سلَّم مرة- كالطيف- على حبها، وإن أوجع القدر امرأة من بلور، واقتلعها في أثناء هروبها إلى العلياء بحثا عن سِفْر العاشقين، ململمةً شتاتَ بعض الجنون وحدَها في وشوشات تشدو القصيدَ هادرةً بالحزن والأعياد معا.
^^^^^^
أبو ظبي، فبراير 2021م.
([1])أحمد مختار عبد الحميد عمر (ت 1424هـ): معجم اللغةالعربية المعاصرة، أربعة أجزاء،عالم الكتب،الطبعة الأولى، 1429هـ – 2008م،1/ 262.