جدل بيزنطى حول طبيعة المسيح ينتهي بفرقة الكنائس

د. يوسف زيدان | الإسكندرية

فى كلامنا اليومى تعبير شهير، كثيرا ما يستخدمه المتأنقون و الكتاب و المؤلفون، للإشارة إلى المناقشات الفارغة التى لن تؤدى إلى شئ فى النهاية؛ فيصوفنها بأنها: جدل بيزنطى.

بيزنطة ، هى فى الأصل العاصمة الرومانية التى أنشأها الإمبراطور قسطنطين لتكون مقرا لحكمه، بدلا من روما، فعرفت المدينة أولا بالقسطنطينية نسبة إلى مؤسسها، ثم صارت في الزمن المسيحى من أكبر المراكز المسيحية.

نحن إذن بصدد الكلام عن مدينة واحدة تحمل أسماء كثيرة، من شأنها أن تربك غير المنتبه: القسطنطينية، بيزنطة، إسلام بول، آستانة، إستانبول، اسنطبول! وهي اليوم أكبر المدن التركية، ونقطة التقاء قارتي آسيا وأوروبا.
وأيضاً نقطة اختلاف المسلمين والمسيحيين . الذين لم ينسوا أن أكبر كنائس العالم القديم صارت هناك مسجداً لقرون طوال، مع إن القائد التركي الشهير مصطفى كمال أتاتورك الذي حكم تركيا في بداية العشرينيات من القرن العشرين، بعد الانقلاب العلماني الكبير الذي أطاح خلاله بالدولة العثمانية ذات الطابع الديني، كان قد منع الصلاة في مسجد آياصوفيا، وجعل المبنى متحفاً للسائحين.
أما الجدل المنسوب إلي بيزنطة، فإن جذوره ترجع إلى ماقبل وجود المدينة بقرنين من الزمان. وقد بدأت هذه الجذور في مناطق بعيدة عنها هي تحديداً مصر وفلسطين.

ففي هذه النواحي، ظهرت منذ القرن الثاني الميلادي أناجيل كثيرة ، تتحدث بأشكال مختلفة عن مخلّصٍ جاء من السماء في أوروشليم المدينة المقدسة عند اليهود.
وقد اتخذ هذا المخلص (الماشيح، المسيح، الماسايا، يسوع، عيسى) صوراً كثيرة في تلك الأناجيل، مابين الإنسان الذي يصل بفكره إلى الحقائق (الغنوصي) والإنسان الموفد إلى الأرض برسالة من السماء (النبي) والإنسان الإله الذي تجتمع فيه البشرية والألوهية.
وفي النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي، ظهرت في شمال الشام خاصةً مدينة أنطاكية أفكار شهيرة صاغها بولس السميساطي، ملخصها أن يسوع نبي من عند الله. وكانت الملكة العربية زنوبيا ملكة تدمر ترعى هذه الفكرة وتحمي صاحبها .
ولما أطاح الرومان بالملكة أطاح رجال الكنيسة بالسميساطي (يكتب اسمه بالعربية: الشميشاطي) حتى جاء الراهب السكندري الليبي الأصل آريوس وأذاع هذه الأفكار ثانيةً، فأثار ضد كنيسة الإسكندرية وكثيراً من الكنائس الأخرى. وشكاه الأساقفة إلى الإمبراطور قسطنطين الذي كان يحرص على إرضاء الكنائس الكبرى.
فدعا الامبراطور كلاً من الراهب آريوس وأسقف الإسكندرية آنذاك إلى التزام الهدوء وعدم إثارة هذه (الموضوعات) التي وصفها الإمبراطور في رسالته إليهما بالسخف والسوقية، غير أن دعوة الإمبراطور لم تجد صدى، واستمر الخلاف حول طبيعة المسيح.. هل هي طبيعة بشرية كما يقول آريوس؟ أم هي طبيعة إلهية، كما تقول كنيسة الإسكندرية؟ ولسوف نعود في هذه النقطة الدقيقة فيما بعد.
وأملاً في إنهاء هذا الجدل حول طبيعة المسيح، وجه الإمبراطور دعوة لرؤساء الكنائس في العالم للاجتماع في مدينة المقر الامبراطوري، غير أن المدينة (القسطنطينية، بيزنطة) لم يكن بناؤها قد اكتمل آنذاك، فاجتمع الإمبراطور ورؤساء الكنائس في بلدة قريبة اسمها (نيقيا) تسمى اليوم: أزنيق، وانعقد هناك أول مجمع كنسي عالمي، مسكوني ، سنة ٣٢٥ ميلادية .
وانتهى المجمع، بعد وقائع كثيرة. يضيق المقام هنا عن ذكرها – إلى إرضاء الإسكندرية و روما  وتم الحكم على آريوس بالنفي إلى شبه جزيرة أيبيريا (إسبانيا) التي كانت آنذاك هي آخر العالم .
ولم ينته الأمر عند هذا الحد، إذ سرعان ما ثار ثانية حول طبيعة المسيح، ودلالة كلمات: (الطبيعة، الأقنوم، التجسد.. إلخ). فانعقدت مجامع مسكونية كثيرة، جرى فيها (حرْم) كثيرين من رجال الكنيسة، حتى كان المجمع الذي انشطرت فيه كنائس العالم، وصار لكل جهة مذهبها.
وهو مجمع خلقيدونية الذي انعقد سنة ٤٥١ ميلادية، بعدما كان الجدل المذهبي قد بلغ منتهاه وفشل المجمع الذي تلاه (للقسطنطينية، بيزنطة٤٥٣) في توحيد الرأي وتصفية الخلافات المذهبية التي ثارت في أنحاء العالم، انطلاقاً من بيزنطة، مقر الإمبراطور ، التي كانت ميدانها الأول ومحل ابتدائها ومنتهاها.
وهكذاً انتهى الجدل البيزنطي إلى الفرقة والانقسام والعداء بين الكنائس، وهو مايذكرنا بالآية القرآنية التي نزلت بعد انشطار الكنائس بقرنين من الزمان، لتقول للناس (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) . صدق الله العظيم .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى