متى تفكر؟
أ. د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي – مصر
جلس بين يدي شيخه ومعلمه يقصُّ عليه برنامجه اليومي في القراءة والتحصيل والدرس؛ فقال: “إني أستيقظ صباحاً أقرأ وأدرس حتى موعد الغداء، ثم أهرع بعده للقراءة والاطلاع حتى العشاء، ثم أقضي شطراً من ليلي في قراءة مستمرة، وهكذا كل يوم وليلة”. أنصت الشيخ إلى حديث الشاب حتى أتمه، وصمت برهة ثم قال: “هذا كله حسن يا صديقي، ولكن قل لي: متى تفكر؟” وكان الصمت، وكانت الحيرة في الجواب!.
تُذكر هذه القصة بعبارة تعكس المعنى نفسه وهي “ما أكثر ما نقرأ، وما أقل ما نفكر!”، وما يدعو للنظر أيضاً، أن “ديمقريطس” الفيلسوف اليوناني كان يطمس عينيه برداء حتى لا يشغله النظر عن التفكير، والقراءة عن التأمل. وكان “فيثاغورس” يقضي ليله في التفكير العميق في أحداث يومه، إنه يوازن بين تفكير يعادل القراءة، وتأمل يقابل النظر. فهُم يوقنون أن القراءة جمع أزهار، والتفكير تأليف باقة، والقراءة جمع حبات لؤلؤ، والتفكير نظمها في عقد. ومع أن القراءة الخام قد تضم عقيماً إلى عقيم، إلا أن التفكير يولد منها جديداً وراء جديد. إن كثرة القارئين شيء عظيم، ولكن مفكراً واحداً يبعث الروح، وينير الظلام، ويحفز الهمم، ويهدي إلى الطريق.
والقارئ الخالق هو الذي يقرأ الجملة فتفتح له آفاقاً للتفكير كأنه يطل منها على العالم؛ فيدرك وجوه الشبه بين الأفكار ووجوه الخلاف، يدرك وجوه الفروق الدقيقة بين ما يظنه الناس متشابهاً، ووجوه الشبه الدقيقة فيما يراه الناس متخالفاً. والقارئ الصادق يأبى أن يجعل عقله مستودعاً للأشياء الناقصة المتناقضة، ثم يتركها كما هي على حالها؛ إنما يُعمل فكره لينسج مما في عقله وحدة متجانسة، بعد أن يطرد منه ما لا ينسجم مع هذه الوحدة، يصفف أفكاره في نظام كما يصفف التاجر اللبق سلعته، ويستبعد الزائف كما يستبعده التاجر الأمين.
والقارئ الناقد هو الذي إذا قرأ فهم، وإذا فهم قوَّم، وإذا قَوَّم احتفظ بالصحيح واستبعد الزيف، فإذا احتفظ بالصحيح فكر في العلاقة بينه وبين ما سبق له ادخاره في ذهنه، ثم كوَّن من ذلك كله وحدة متجانسة ينظر من خلالها إلى العالم، ويصدر بها حكمه على الأشياء.
وهذا ما سعى إليه المفكرون عبر التاريخ، فقد أدركوا تبعة تحصيل المعلومات، وعظم الواجبات للأفكار التي تحل في عقولهم، فلم يقنعوا أن يحملوا عبئاً غير عبء الفكر، كما أدركوا أن كثرة الالتهام من غير هضم لا معنى لها، وأن خير ما يؤكل هو ما يُهضم وما يتم تمثله. إنهم ينشدون المثل الأعلى للعقلية والتفكير والبحث.
موضوع المقال مهم جدا وعنوانه مثير، كما تعودنا في مقالات د. محمد سعيد
ما أكثر ما نقرأ، وما أقل ما نفكر! عبارة مهمة فعلا، وتحتاج إلى تفكير حقيقي، شكرا على المقال
موضوع ممتاز وعنوان جميل، بالفعل التفكير والتأمل بعد القراءة شيء مهم. والمقال دعوة للتفكير.