فكر

النظام العالمي الجديد وتحوّلاته الجوهرية

بقلم : عماد خالد رحمة ـ برلين
    مازال العالم يشهد تطوراتٍ اقتصادية وسياسية وعسكرية وجيواستراتيجية متسارعة في العالم، من المؤكد أنها ستفضي إلى وجود نظام عالمي جديد يلغي الأحادية القطبية، بخاصة أنَّ أي نظام عالمي جديد متعدِّد الأقطاب له طبيعة ديناميكية تحدِّد بنيته وتوجّهَهُ ومسارَهُ، وما يجري داخله في مستويات عدّة، أهمّها مستوى التفاعلات الداخلية الذي يتم فيه ترابط العلائق المشتركة بين القوى السياسية والثقافية والفكرية والاجتماعية داخل الوحدات االرئيسية، والتي يتشكل منها النظام العالمي نفسه، وهذا النوع من التفاعلات يحدِّد حالة الفاعلين الرئيسيين الدوليين، ومدى موافقتهم وقابليتهم لتحقيق النهضة والتقدّم، أما المستوى الآخر هو المستوى البيئي أو مستوى الخارج ، ويُقصَد بِهِ التفاعلات بين الأقسام والوحدات المشكّلة للنظام العالمي ذاته .أكانت مشتركة تعاونية أم نزاعية، هذا النوع يحدِّد كيفية توزيع الخيرات والموارد وموازين القوى والتكتلات، وبالتالي شكل النظام العالمي، وما إذا كان نظاماً أحادياً أو نظاماً ثنائياً أو متعدِّد الأقطاب .
     بتفسيرٍ وشرح آخر يمكن القول إنَّ ديناميكية النظام العالمي الناجمة عن نتيجة مفاعلاته الداخلية تكوين بنية على أسس متينة تجعله في حالة تقدّم وتطوّر مستمرين. ومن ثم، من الطبيعي جداً أن تتسم كل فترةٍ من فتراتِ تطوّرِهِ بخصائص وسمات محدّدة. هنا يمكننا القول إنّه نظام دولي أحادي القطبية في فترةٍ ما، وثنائي القطبية في فترةٍ ثانية ، ومتعدِّد القطبية في فترةٍ ثالثة.. وهكذا . على أن يكون معلوماً للجميع أنَّ تلك القضية كلها مفاهيم وآراء تقريبية. ولأنَّ النظام العالمي في حالة حركة تغيّر وتحوّل وتطوّر مستمر، فمن الطبيعي جداً ألا يكون مستقراً على حال في فترةٍ طويلةٍ، وهو ما يفسِّر لماذا يلجأ الباحثون والدارسون في كثير من الأحيان إلى تقسيم كلّ فترةٍ أو كل مرحلةٍ إلى مراحلَ فرعيّة.فقد عمل هؤلاء الباحثين والدارسين والخبراء الاستراتيجيين على تقسيم فترات التاريخ إلى مراحل تم تقسيم فيها مرحلة النظام العالمي ثنائي القطبية إلى مراحل فرعية. والتي امتدت نحو أربعين عاماً من عام 1949 حتى عام 1989 م . حيث تم وصف الفترة أو المرحلة فيها النظام العالمي إلى كتلتين ضخمتين متنافستين، لا يسمح لأحد بأيِّ هامش للحركة بحالةِ الثنائية التي أطلق عليها اسم (الثنائية الجامدة) أو (الثنائية الثابتة) الممتدّة من عام 1949 حتى عام 1956 م، بينما تم وصف الفترة أو المرحلة التي أصبحت فيها مجموعة (عدم الانحياز) التي أسسها رئيس الوزراء الهندي الأسبق جواهر لال نهرو، والرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، والرئيس اليوغسلافي الأسبق جوزيف بروز تيتو. قدر أكبر من التأثير بما بات يُعرَف بـ (الثناية المرنة). وهذا بمجمله يفضي إلى أنَّ النظام العالمي لا يَثبَت أبداً على حالٍ واحد أو فترةٍ واحدة، ويتصف دائماً بوجود تكتلات وقوى صاعدة، وأخرى هابطة طيلة الوقت.
     بعد كل ما مضى يمكننا القول إنَّ الفترة أو المرحلة التي يمرُّ بها النظام العالمي في الوقت الحالي ليست استثناءً، لأنّها تتصف بتراجع كبير لوزن الولايات المتحدة الأمريكية وتأثيرها في العالم، بعد أن كانت القوة المسيطرة والمهيمنة بمفردها على النظام العالمي عقب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق مباشرةً، وصعود قوى وتكتلات دولية جديدة في مقدمتها جمهورية الصين الشعبية،وجمهورية روسيا الاتحادية، ودول أخرى عديدة. تلك التحديات الجديدة والكبيرة وتلك التحوّلات والتغيرات التي يمر بها النظام العالمي تفرض تحديات جديدة على عالمنا العربي، وربما أو من الممكن أن تتيح له فرصاً كبيرة يمكننا استغلالها وتوظيفها لصالحنا.
      إنَّ من يقرأ سيرورة التاريخ السياسي العالمي يُدرِك ومن خلال مقارنته مع ما جرى للنظام العالمي في مرحلة ما بين الحربين (1918 ـ 1939) وبين ما يجري الآن في العالم لم يختلف كثيراً . مع علمنا المسبق أنَّ مراحل التاريخ لا تتكرّر ولا تتكرَّر معها مراحل تطور النظام العالمي ، ولكلِّ مرحلةٍ خصوصيتها وسماتها، تختلف عن كل ما سبقها، وعما سيأتي فيما بعد . سواء من حيث موضوع الصراع المتنامي بين تلك القوى المتنافسة ، أو من حيث طبيعة القوى والكتل المتصارعة ، أو المتنافسة على قيادة النظام العالمي، أو من حيث المسار والتوجّه الذي قد يسير وفقه النظام العالمي محصّلة لهذا الصراع وذلك التنافس. ففي حقبة ما بين الحربين العالمية الأولى والثانية (1918 ـ 1939) كانت أوروبا تهيمن بشكلٍ كلّي على النظام العالمي التي كانت تسيطر وتستعمر العديد من الدول في العالم ، فقد كان التنافس والتسابق على المستعمرات والسيطرة على مقدرات وثروات الدول الواقعة تحت نير الاستعمار القديم ، تلك الدول كانت موضوع الصراع الأساسي بين الدول الأوروبية المتنافسة والمتنازعة بين الدول الأوروبية وتحديداً بريطانيا وفرنسا وإيطاليا ،جميعهم تنافسوا على قيادة النظام الدولي في ذلك الوقت. وكانت تلك الفترة قد انتهت بقيام الحرب العالمية الثانية التي بدأت في الأول من أيلول عام 1939 وانتهت في الثاني من أيلول عام 1945، جميعها لها سمات وخصائص تختلف عما يجري اليوم من تغيير وتحوّل على الساحة الدولية . فلم تعد أوروبا بكل مكوناتها المحرّك الأساسي لتفاعلات النظام العالمي في المرحلة الحالية الراهنة . فقد تراجع دورها واهتزَّت مكانتها بشكلٍ كبير منذ الحرب العالمية الثانية ، كما انتهى الاستعمار التقليدي الذي عرفته العديد من الدول إلى غير رجعة. وأضحت الهيمنة الدولية تُدارُ بأدوات ووسائل أخرى . أما الصراع التنافسي على قيادة النظام العالمي فيدور بشكلٍ رئيسي بين الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الأوروبي من جهة، والصين وروسيا من جهةٍ ثانية . فضلاً عن أنه يصعب تصوّر الحسم النهائي من خلال حرب عالمية ثالثة ستكون حرباً نووية مدمِّرة للعالم وتفني البشرية من على وجه البسيطة. وستكون مفاعيلها سلبية وغير مسبوقة.
   لقد كشفت الحرب الساخنة في أوكرانيا الكثير من التحوّلات التي حدثت في الماضي القريب ولا تزال تحدث داخل النظام العالمي في مرحلة تقدّمه وتطوّره الراهن. وليست الحرب الساخنة هي منشأ وبداية تلك التحولات ، فجذور التحولات الكبيرة في العالم تعود إلى ما قبل عام 1980 م، عندما بدأت جمهورية روسيا الاتحادية تشعر بأنّها استعادت قدراً كبيراً من قوتها التي فقدتها في فترة انهيار الاتحاد السوفييتي السابق وما تلاه، ومن ثم بدأت بالتأكيد على رفض ما كانت مضطرة للقبول به، بخاصة كل ما يتصل بمنهج وسياسة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي يسعى إلى التوسّع شرقاً، فكانت أولى محاولات (الناتو) التوسع باتجاه جورجيا الواقعة في منطقة القوقاز في غرب آسيا أوَّل مسببات الاحتكاك الذي أدى في نهاية المطاف إلى انفصال جمهورية أوسيتيا وجمهورية أبخازيا في أوَّل صفعة يتلقاها الغرب ، وعندما تجدّد الاحتكاك عام 2014 م على الساحة الأوكرانية قبلت جمهورية روسيا الاتحادية التحدي وتمكنت في فصل شبه جزيرة القرم وضمتها إليها وكانت تلك الصفعة الثانية التي تلقاها الغرب من روسيا.
    من الواضح تماماً أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية قد وضعت المزيد من الخطط في ذلك الوقت للمراهنة على أوكرانيا، وعملت بشكلٍ ممنهج على تحويلها إلى ساحة مواجهة مع روسيا، بغضّ النظر عن القرار الذي تم اتخاذه في شهر شباط عام 2022 في التدخل عسكرياً في أوكرانيا ،لا جدال في أنَّ القيادة الروسية وعلى رأسها الرئيس بوتين قد رأت في سياسة حلف شمال الأطلسي (الناتو) بعملية التوسع شرقاً، بخاصة ما يتعلّق منها بالمحاولات المستمرة لضم أوكرانيا إلى صفوفه، تهديداً وجودياً وتهديداً للأمن القومي الاستراتيجي الروسي، وهذا الأمر يستحيل قبوله أو السكوت عليه من قِبَل الروس كما تبين ذلك من خلال مواقفهم وتصريحاتهم النارية. وهذا يعني بوضوح أنَّ موازين القوى في النظام العالمي الحالي كانت تتجه منذ مدة نحو التغير والتحوّل لغير صالح الغرب الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية ، ليس لأنَّ روسيا استعادت جانباً من قوتها وإمكانياتها فحسب، ولكن أيضاً لأنَّ جمهورية الصين الشعبية كانت تتنامى بشكلٍ كبير ومتسارع ومستمر في الآن ذاته. بينما كانت القوة الأمريكية تتراجع بسبب ما تحمّلته قدراتها ومواردها من استنزاف كبير في حروبها الطويلة في كل من العراق وأفغانستان ودول أخرى. ومعظم التقديرات تؤكّد أنَّ الحرب الساخنة في أوكرانيا والتي قرَّر الغرب الأوروبي ـ الأمريكي خوضها معاً إلى جانب أوكرانيا التي تعاني من الاستنزاف،مع تجنّب أن تؤدي العمليات العسكرية إلى اندلاع حرب نووية مدمرة ، لن تنتهي بانتصارٍ حاسم لأيِّ طرفٍ من الأطراف المتصارعة . والمرجّح أن تلك العمليات العسكرية ستؤدي إلى استنزاف قدرات كلا الطرفين وإجبارهما على البحث الجاد عن مخرج في نهاية مدّة لا يمكن التنبؤ متى ستكون. وربما تستمر حتى نهاية عام 2023 الجاري على أقل تقدير.
معظم المؤشرات تؤكد أنَّ ما يجري الآن في العالم من تحولات متسارعة لمراحل تطور وتسارع النظام العالمي لم يكن مسبوقاً في التاريخ السياسي، كون ما يحدث يتميز بخاصيتين: الخاصية الأولى، هي تحوّل النظام العالمي إلى قرية كونية صغيرة بفعل العولمة ومظاهرها ، وهي ظاهرة غير قابلة للتراجع أو الارتداد ، على الرغم من الكثير من الدعوات حول العالم لمناهضتها والوقوف ضدها . ومنع تمدّدها، فالمشكلة لا تكمن في أساليب ووسائل وآليات العولمة، ولكن في عدم توزيع الثروات بشكلٍ عادل لمكاسب الظاهرة العولمية واستحقاقاتها.. والخاصية الثانية تتعلّق بوصول السياق المؤسسي المؤطَّر للنظام العالمي ، ممثَّلاً في هيئة الأمم المتحدة إلى مرتبة العالمية لأوَّل مرة في التاريخ. فالدول الأعضاء في المنظومة الدولية جميعها أعضاء في الأمم المتحدة وقد وصلت إلى مائة وثلاث وتسعون دولة، بينما لو قارنا هذا العدد مع عصبة الأمم المتحدة نجدها تضم فقط ثمانٍ وخمسون دولة فقط .
     من كل ما سبق يتضح أنَّ النظام العالمي يتجه في المرحلة القادمة إلى نظام متعدِّد القطبية، وستضطر الدول للقيام بإصلاحات جوهرية في بنية ومهام ودور الأمم المتحدة يتناسب طرداً مع مع التحوّلات البنيوية للنظام العالمي الحالي.
     في الختام نجد أنفسنا نحن العرب في وضعٍ حرج للغاية، فالتحولات الكبيرة التي يمرُّ بها النظام العالمي يفرض علينا تحدياتٍ كبيرةٍ وجديدة، وما علينا سوى أن نتمكن جميعاً من مواجهة التحوّلات وما تفرضه من مواجهات وتحديات في سبيل الحفاظ على مكوننا العربي، بخاصة بعد حالة التشرذم والتهميش الدولي لقضايانا الجوهرية والمصيرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى