سأم

ياسمين كنعان

لو لم يكن السأم سيد الخيال هذا المساء ما كنت تأملت حوض المغسلة المتسخ؛ ولا فكرت طويلا بطريقة ما للقبض على الأفكار التي تنساب من فنجان القهوة؛ سوداء قاتمة، ثم بلون البن الشفيف، ثم يخضعه الماء لخواصه ويصير بلا لون..!

لو لم يكن السأم سيد الخيال، ربما كنت تأملت الوردة الرخامية السوداء على الحائط الأبيض، وربما كتبت عن الشيء ونقيضه، وربما اكتفيت بالتأمل حتى لو كنت سأبدو مثل بلهاء..!

لكن جسد الأوراق النازفة بالحبر ظل يثير خيالي..!

في وقت سابق من هذا النهار مزقت ما كتبت؛ كورت الأوراق في كفي، فتحت صنبور الماء؛ سال الحبر الأزرق من بين أصابعي، تابعت الغيمات الزرقاء وهي تتشكل في الحوض، راقبتها وهي تتلاشى، عصرتها حتى آخر قطرة حبر، عصرت جسد الأوراق الهش بين أصابعي..غسلت ما علق عليها من حبر قلبي..!

وتسألني باستغراب”لماذا..؟!” وأقول لك “واحدة من حماقاتي المتعددة..حاولت أن أغسل اعترافاتي الحبرية؛ أكره أن تقرأ حزني واشتياقي على الملأ..أنتقم منك على طريقتي..!

ليس للغياب أسماء كثيرة يا صديقي لكن أزمنته متعددة؛ كأن تقرأ رواية كتبت في أزمنة متداخلة؛ كم مرة عليك أن تعيد القراءة  كي تخرج سالما من المتاهة..؟!

كم مرة علي أن أكتب حزني كي أخرج حية من الذكريات..؟!

مزقت ما كتبت..يا لحماقتي ها أنا وبسردية مختلفة، وفي زمن مغاير، وبصوت آخر أُعيد كتابة ما مزقت..!

كم مرة عليك أن تتجرع الكأس لتدرك في النهاية أنه لاذع..وكم مرة ستحرق أصابعك وأنت تحاول نقل الحرائق من قلبك إلى الورق..كم مرة ستطرد الغيم من عينيك ليسح حبرا على الورق، كم مرة..؟! 

حماقة أن تعيد السرد؛ أنت لا تنجو إذ تحاول النجاة من غرق؛ تلك الأصابع اللامرئية تشدك إلى القعر مرارا..!

مزقت ما كتبت؛ وكتبت ما مزقت بصيغة أخرى، لكن الحبر واحد؛ كأني الآن أعيد تقطير الحبر الذي انسكب في الحوض.. كأني أحاول مثل طبيب فاشل فرد جسد الورق الذي تهشم منذ قليل.. كأني أحاول نقل الماء بالورق؛ فلا الورق يصمد ولا الماء يبقى..!

حماقة أن تكتب الذكريات بالماء، حماقة أن تغسل الذكريات بالماء، حماقة أن تطفىء الماء بالماء..حماقة أن تتعرى بالماء يا صديقي..حماقة أن تستتر به أيضا..!

مزقت ما كتبت، وها أنا أُعيد لصق الحكاية..!”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى