أدب

الوصول إلي كركوشة

قصة قصيرة: محمد السعيد | مصر

كنت جالساً أمام التلفاز، أتابع النشرة الإخبارية ،حينما دخلت  زوجتي علي وهي واجمة  ، لتخبرني، بنبرة حزينة، أن هاتفها قد تعطل، بعد أن سقط في جردل  المياه ،عندما كان في يد إبنتي الصغيرة، في الحمام.الحق أني لم أصدم ، بل سررت ،سرورا غامضا،لم أستجلي حقيقته، في حينها ،علي رغم تحسسي سطحه الشفاف والمترب في آن!. كنت أبحث عن شئ جديد، حدث جديد، هاتف جديد، يخرجني من عتمة الجمود  والتكرار!. ولعلي وجدت في ثنايا تلك الحادثة العارضة حركة جديدة  تشي ، وإن بشكل سري ، بما هو  قادم وجديد!.

قلت لها بهدوء: لا تقلقي يا زوجتي العزيزة ..سأحضر لكي واحد  جديد . أغمضت عيناها ، علي ما قرأته في وجهها، حقيقة ظروفنا المتواضعة ..الراتب الصغير  الذي تعبت معدته من كثرة الأقساط ،محدودية الاختيارات وقلة الفرص. كما نظرة تحتانية مستغربة أطواري. كانت كمن أغلقت باب غرفتها علي أحزانها وأحلامها وجعلت تبكي. تدرك،الآن ،وبعمق، أنني موظف.. موظف بسيط! ،هذا الواقع  المؤلم  الذي إبتنت فوق جسره أيام الخطوبة السعيدة، بيتنا الكبير ذو الحديقة المفعمة برائحة الفل  والياسمين،والتي، مع الأسف، وبعد كل هذه السنوات، لم تجيء، إلا فيما ندر،وفي أوهام الإسكان الشعبي الرخيص فقط!. ومن فوق ذاك الجسر ذاته، ومع تعاقب الليالي والنهارات، اكتشفت ، ولو متأخراً، أنه يطل علي خلاء! وأن الجسر نفسه قديم ومتهالك!.

أحضرته لي فوق  كفيها، كمن يحمل  طفلاً مريضاً، لا أمل في شفاؤه، ومع ذلك لم تفقد الأمل كلية. كنت لا زلت أتابع النشرة.. مشاهد الجثامين المحمولة علي الأكتاف في فلسطين، تثير في نفسي شفقة وحزن عميقين،وسؤال مؤلم ومزمن  عن جدوي وثمن وضرورة تلك  التضحية !؟ 

قمت من مجلسي وقابلتها عند باب الغرفة ..

حملته برفق ، وأنا أنظر بقلق  إلي جسده الصامت ، شاشته الغارقة في الظلام ، قلبه الذي توقف نبضه، هل مات الموبايل؟ !.قلت لها محاولا إزاحة أستار الحزن عن وجهها الباكي: مسألة وقت يا عزيزتي ..كل شئ له حل .

غيرت ملابسي سريعاً، فتحت باب الشقة، خرجت، ركبت ميكروباص كمسافر يتسلي  بمشهد  المساكن والدكاكين علي الجانبين, حتي وصلت إلى الهدف سريعاً…كركوشة  فون،بيني وبين اليافطة المعلقة أعلي المركز خطوات، الفراغ  فقط هو ما يفصلني، ويصلني بما أشعر وأحس، لكنه الوهم وحرارة الشمس القوية ،كنت أحاول التحرر من الرغبة. والأمل كي أري بوضوح .!

لكن قوة اللحظة كانت طاغية  ومستبدة  !. دخلت خائفاً   ،شرحت له ماحدث  .

كان رده مطمئنا إلي حد ما : ساعة وتعالي ..

هذا هو الفني المسؤل عن إصلاح الهواتف الذكية، ومن ثم إعادة تأهيلها. إخترته ، لقربه،من منزلي، الحي السابع، ربع ساعة فقط. ولسابق تعاملي الجيد  مع المركز ، حيث بدر، منذ عامان، من أحد شباب العاملين سلوكاً فنيا كريما، فقد أعاد الشاب الطيب، آنذاك،تشغيل الموبايل في دقائق، وفي حرفية وذكاء، وعندما سألته كم يطلب نظير ذلك،  خاصة بعدما قام بتنظيف الجهاز من الفيروسات،رفض في طهر ونقاء أن يأخذ مقابلاً   .كانت ورشة الفني الصغيرة ،داخل المركز،تحتل الجانب الأيسر كله،وتذكرني بدكان الساعاتي قديما، علي حين إحتل النصف الآخر، المواجه للباب مساحة أكبر ،حيث وضعت فاترينة عليها ماكينة شحن، وفي الداخل قطع غيار هواتف  بألوان  مختلفة، كما علقت  صورة أعلي الجدار  لمحمد صلاح، لاعب الكرة الأشهر !. وجدته قابعا خلف صندوق زجاجي مضاء بلمبة نيون صغيرة، أمامه، ومن حوله هواتف  كثيرة مفتوحة، كما وجدت ، أيضاً ،مكبرا بعدستين، يشبه الميكروسكوب، أو ربما يكون ميكروسكوبا فعلا! ،مما يوحي بتعقيد العمل ودقته ،وبمهارة وموهبة الفني الذي يقوم بالعمل أيضاً.

جلست علي أحد المقاهي القريبة، وطلبت قهوة مضبوط. إعتبرت نفسي في نزهة بسيطة،من شأنها الترويج عن النفس، وشجعني علي ذلك التفكير ذكرياتي وحبي  للمكان في بداية زواجي ، علي الرغم من بعض الغموض!. شرعت  أتذكر لكنني وجدت صعوبة في التذكر …طبقات فوق بعضها البعض من  الذكري والتذكر، صور لأشباح وأماكن كأنها أشعة مقطعية صنعها مخي لذاكرتي المعتلة! ،ملامح الصراع وشراسته  تتجسد الآن في لحظة جديدة أتأكد فيها من النسيان شبه الكامل والمتعمد ،ربما !  ، وفي رغبتي الملحة والعميقة في  السلام  ، ولو لفترة مؤقتة ! . المقهي الذي أجلس عليه لم يكن موجوداً  قبل عشر سنوات ، مطعم المشويات في الشارع المقابل  تحول إلي دكان سجائر ، الغرزة التي كنت أتناول داخلها  قهوتي تحولت إلي دكان منظفات، الشوارع أصبحت مزدحمة أكثر!. غير أني لست منفعلا بالمرة، أشعر ببرود، هذه المرة، تجاه المكان ، مرت سنوات كثيرة، مرت أحداث أكثر مما كنت أعتقد واتخيل . رحت أحلم بعودتي حاملاً الهاتف إلي زوجتي  ، وقد شفي تماماً من وعكته الصحية، وعاد لحياته الطبيعية كما كان،حتي دخل مجال رؤيتي رجل أسمر، مجهد الملامح، يبدو عائداً  من عمل شاق، يحمل شنطة علي ظهره، وجهه بيضاوي ،عيناه واسعتان  ،رفيع وقصير إلي حد ما. ألقي التحية فرردت من فوري .جلس خلفي ثم بدأ في الكلام بصوت مرتفع  ،كنت أسمعه بوضوح حتي صدرت منه ألفاظ نابيه،خجلت لسماعها .لم ألتفت إليه لكنني شعرت بضيق . فجأة سمعت من ينادي:يا أبو جار ..يا أبو جار ،التفت إليه ثم رحبت به كما يجب،ثم سألني أين أسكن الآن؟قلت له : أسكن في حي الأمل  ،لكنني جئت هنا لإصلاح هاتفي عند كركوشة!. رأيت رأسه وهي تستعيد توازنها ،عاقلة ما قلت ،هزة بسيطة  علي مقياس  ريختر الدماغي!، مالبث بعدها أن عادت الأمور إلي سابق عهدها. لا أتذكر إسمه، كل ما أتذكره أن عائلته كانت تسكن في حينا القديم أيام الطفولة، ثم إختفت الأسرة،فجاءة، وغابت ثم أمعنت في الغياب،مثل الكثير من الأسر بعد حرب الخليج الأولى.  قمت ثم بدأت أخرج النقود من جيبي، شعرت، حينها، أن جاري القديم ذاك يود لو دفعت له قهوته،فدفعت، بدون تردد، لصاحب المقهي  كل الفكة التي وجدت في جيبي، شكرني وهو يفحصني بعمق وأدب.  بعدها شعرت بغرابة المكان وبغربتي  فيه .

دخلت كركوشة فون مرة أخرى، فقابلني الفني قائلا:تحت أمرك يا أستاذ.. كان لا يتذكرني. قلت له: الهاتف الذي وقع في المياه… أه أه..لسه شوية ..الساعة لم تنتهي بعد حضرتك ثم ضحك .خرجت مصدوما، ثم جلست علي مقهي آخر غير الذي كنت عليه، كما اضطررت، أسفا، لطلب قهوة من  جديد ،بتكلفة إضافية، كان المقهي ،هذه المرة،  بجوار كركوشة.كنت قلقاً، ولم استطع التركيز في موضوع واحد ، كما كان المقهي يضج، وبوضوح، بالعاطلين، الذين لا يتوقفون عن التدخين !.عدت بعد نصف ساعة،وعندما رآني ناولني  الهاتف ،علي الفور، مدركاً، علي ما يبدو، بواعث قلقي،  ،لكنني جعلت أنظر إلي الهاتف مستغربا، ثم قلت له :ليس هذا هاتفي، ومع ذلك فالهاتف كان يعمل ! ،جعلني تصرفه ذلك أشك في الأمر قليلاً  ،كيف لا يعرفني للمرة الثانية؟؟،ولا يعرف، أيضاً، شكل موبايلي  ، ربما أخطأ ،  أعدت إليه الموبايل ،فتصرف بهدوء. كأن المسألة عادية  .ثم أمسك موبايلي  الذي وجده أمامه بسهولة ، وضع الشاحن ثم أخرجه ثم وضعه مرة ثانية ،فلم يقم، فحاول مرة جديدة فلم يستجب ،ثم وضعه أمامه قائلا بثقة   :  اتركه حتي الغد ،البورده بحاجه للضبط .شعرت بحرج  شديد ..خرجت وأنا أفكر فيما حدث ؟كنت أحس بأن ثمة شئ، أو ثمة شيئان، لا أعرف .! لكنني لم أفقد. الأمل بعد .عدت إلي المنزل لزوجتي التي كانت تنتظرني وهي تحلم  !  ، قابلتني عند الباب ،شعرت بأملها تنطفئ جذوته رويداً رويداً ،ينسحب ،تدريجياً،  جارا أذيال خيبة الأمل والرجاء اليائس!.عدنا بسرعة لحياتنا الطبيعية ،عشنا تفاصيلها بمودة وإخلاص ،ودون أن نفقد الأمل حتي وجدنا أنفسنا في نهار جديد ، أمل جديد في التغيير !، فتحت الباب، وأنا ألقي نظرة متسائلة:هل سأعود ومعي الموبايل ، هذة المرة، وقد تم إصلاحه، أم ما تنبأ به  غريزتي الملمهة صحيح، والذي  أحاول عبثاً الهروب منه. وصلت كما في الأحلام، ولا أدري، ولا أتذكر ما حدث ،متي ركبت الميكروباص؟ ،ومتي وصلت ؟

وجدتني بالداخل مواجها وجهه المبتسم مع قليل من الغرور الملحوظ،قال ببرود  : قلت لك ليلا يا أستاذ!

لم أصدقه هذه المرة، وعدت متضايقا منه ،ومن نفسي .في المساء ،وجدت المركز مغلقا، ووجدت نفرا  من الناس في إنتظار إعادة فتحه  ، سألت شابا عن سبب الغلق ،فقال لي:   صلاة المغرب  !

جاءت سيدة ترتدي جلبابا أسود وفوق رأسها طرحة سوداء  ،ووقفت معنا أمام المركز فأصبحنا أربعة أفراد، كانت قلقة جداً  ،طلبت السيدة أن يستعجله  أحدنا تليفونيا ،ففعلت عن طيب خاطر،لكنه لم يرد .جاء أخيراً المساعد  ثم فتح معتذرا .كنت أول الداخلين ،قال لي : أنت صاحب الموبايل الذي وقع في البحر,  أليس كذلك ؟ ! قلت :نعم ! ، قال لي أنه تم اصلاح البورده لكن هناك أمر صغير سيشرحه لي  الباشمهندس!, . أفسحنا الطريق للباشمهندس  الذي دخل دون أن ينظر إلينا مثل أحد الأشخاص المهمين  ،ثم وقف أمام الصندوق الزجاجي، كأنه يتأمل شيئاً ! ثم عاد للحركة مرة أخرى!  . كنت أول المتحدثين  ،فقال الفني موجها كلامه لي ،وهو ممسك بالعدة : أنا اشتغلت فيها وقد تم الإصلاح… ، ثم وضع الشاحن  الذي أضاء بدوره ، وكنت أري هذا طبيعي جدا .فلم يستجب ثم أردف قائلا: لكن الشاشة لا تعمل ، أصلحت البورده ، عليك فقط تغيير الشاشة ، ثم بدأ في إعادة تركيب العدة ، سألته مضطرباً  :لماذا لم  تخبرني منذ البداية بحقيقة العطل ؟!

فتدخل شاب  كان يقف خلفي ساخراً  : ها ها ها ها ..كيف ؟!

قلت له وأنا اكظم غيظي :يا بشمهندس ماذا افعل بالموبايل الآن  ،الموبايل  لا يعمل .كانت ملامحه تعكس غضبا جاهد في كبحه  ثم قال : ماذا تعمل به ؟! هنا علا صوت المساعد :يا أستاذ في كده مائة جنية نظير الإصلاح.  قلت له مرة أخرى :لكنه لا يعمل …علي العموم  عندي إقتراح.. خد التليفون  فأنا ، الآن ،لا أريده… نظير ما طلبت .هنا تحرج  الفني ولملم، بشكل عصبي ، العدة  بعد أن كان يحدثني وهو يغلقها  ،بهدوء ،ثم أعطاها لي مفككة  قائلا  : أنا لا أريده….شكلك كده فهمك  بطيء!

 قلت لك : لا داعي للغلط ..خذه تسطيع أنت إستخدامه !, …. أنا لا أريده!

كانت السيدة بجانبي

تتابعنا بشغف، وهي تبتسم   إبتسامة ماكرة ،فيما توقف الشاب خلفي عن مساندته .استدرت للخروج ،حينها  قال مغتاظا  :حسبي الله ونعم الوكيل!,

قلت له :لا داعي لهذا الكلام..قلت لك :خد الموبايل  ! .

عندما عدت للمنزل ، كنت كمن إستيقظ فجأة، فوجد.نفسه في بيته  !.  كنت أعجب لوصولي السريع ،حاولت تذكر متي  ركبت وكيف عدت ؟! هل رأيت أحداً ؟ هل لمحت شيئاً غير عادي ؟! إلا أنني لم استطع !.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى