تجاعيد الماء ( 21 ) رسائل سيدة (2) زمن آخر

سوسن صالحة أحمد | شاعرة وكاتبة سورية تقيم في كندا

لقد عشتها، عشرين عاما سيدة من الطراز الأول، أعطت كل حياتها ووقتها لزوجها وبيتها وأولادها، وكل مايتبعهم.

تخلت عن عملها من أجلهم، دفنت كل طموحاتها تحت أقدامهم من أجل أن تكون زوجة وفية وأما صالحة وسيدة في مجتمع قُدِّرَ أن يكون مجتمعها بحكم ولادتها في نصفه وزواجها من نصفه الآخر، يُشار فيه إلى إخلاصها وحسن معشرها وتربيتها واستقبالها وقبلها جميعا حسن تبعلها، يحترمها الكل كبارا وصغارا، يحبونها ويقدرونها، وانتهى العالم لديها هنا بسعادته وشقائه وباتجاهاته الأربع، وهو كل ما تعلمته من الاتجاهات، غير منتبهة لجمعها في اتجاه خامس لا يشير إليه إلا وعاه.

بالأمس كان وقتي ممتلئاً بهم، العمل بهم ومعهم، والأن كبروا تماما بقدر ما كبر الفراغ والشكوى من طول الوقت والملل والإحساس بعدم صنع شيء، فجأة انتبهت إلى نفسي التي نسيتها، نسيت أني أنا أنا، موجودة في هذا الكون، أنفاس ما زالت تصعد وتنزل، يدان تتحركان، رجلان تمشيان، رأس يرى ويسمع ويفكر، إرادة كنت قد نسيتها أيضا، بل حياة بأكملها.

تحركت من الملل ووقفت على نافذة تطل على بعض من وجود، نسيت أنه موجود، ويجب أن أعيشه وأتنفسه وأتعامل معه، آخذ وأعطي منه وله، أضحك وأبكي معه، تفاجأت مني لما علمت أني اقتصرتُ على عالمي الصغير الذي لم يقتصر عليه العالم، يتجاوز فعلي اللا إرادي في الاقتصار عليه ويمضي دوني، انتبهت أني قد حققت لأولادي تربية جيدة، وزرعت فيهم الطموح والحب والأمل والسعي للنجاح والإنجاز ومعايشة العالم ونسيت ذلك فيَّ، ولطالما ساعدتُ الآخرين في قرارات تتعلق بأمورهم خاصة وعامة، كان شأني أن أنتبه لها وآخذ كمثلها، لكني لم أنتبه أن أفعل، حتى أصدقاء أولادي لطالما تفاعلت معهم وأهديتهم خلاصة ماعندي.

وفي فراغي وانتباهتي دار خمر السؤال في رأسي، ماذا حققتُ لها؟ ، هل يكفي بيت و أولاد جيدين؟ ، هل يكفي هذا المجتمع الصغير الذي أنا فيه وهل هو كل الحياة؟ ، إذا من أنا؟ ، لم؟ ، كيف وإلى أين؟ ، أين ذاتي؟ ، هل تلاشت في ذواتهم؟ .

طبح، كنس، مسح غسيل كي مؤونة منزل رعاية أولاد مجاملات و واجبات عائلية واجبات زوجية، هذا كل ماأفعله، وظننت أن السعادة والشقاء إنما انحصرت داخل الجدران الحاوية لكل ذلك، ماخطر عالم الخارج لي، الذي ربما يكون فيه سعادة أكثر أو شقاء أكثر ولايهم، المهم أن أتعرف إلى جديد يترجم مسير الحياة بصورة أشمل وأكمل وأجمع لموجوداته، شعرت بفراغي أصبع وجود يشير لامتلاء آخر، إلى الفراغ باللا فراغ.

نعم أتابع الأخبار وبعض برامج ثقافية و فنية، أقرأ ما يتيسر لي من وقت، أعلم من خلال ما لدي من أدوات إعلامية كثيرا من مجريات الحياة، لكن حين بدأت بالخروج والتواصل انتبهت، أن العلم بالشئ شيء، والتفاعل معه شيئا آخر مختلف.

قررت الاستمرار في هذا التواصل، لن أيأس ولن أتراجع، فقد وجدت في هذا نفسي، في الناس، في الطرقات والشوارع، الحارات الضيقة والمعابر، الحافلات الكنائس المساجد، في الكبار والصغار، وجدت من سعى للسعادة ووجدها، من يحمل في قلبه الشقاء و مازال يبحث في الحياة ويسعى إليها، وجدت الخير والشر، وجدت صورة الحياة دون أطر ولا حدود.

وقفت على شرفة أيامي الماضية والآتية، نظرت نحو أفق الكون اللامتناهي، أشرقت في نفسي شمس جديدة، حياة جديدة، بدايات لكثير من الأشياء قررتها، سفر علي اللحاق به، احتضنتها بين أنفاسي وثوانيَّ، عزمت على رعايتها حتى الزمن الأخير دون النظر إلى الوراء، نزلت إلى محطة الحياة، قطعت تذكرة على متن قطار عابر للكون، في ذهاب بلا إياب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى