الحكمة الإلهيّة في قصة العذراء الحُبلى

مصطفى واجد آغا أوغلو | باحث في الفلسفة الإسلامية | تركيا – العراق

 

يتميزُ الإنسان عن سائر الأحياء والموجودات بعقله؛ فهو نعمة عظيمة مُهداة من الخالق جلَّ شأنه إلى الإنسان دون غيره، ولما لا؛ فهو (الإنسان) الذي خُلِق في أحسن تقويم وكُرّم بأفضل وجه وسُخّر له الكون وما فيه.

ومن عظيم النعم أيضاً هو نُزول القرآن الكريم للإنسان ولأجله، فقد جُعل الإنسان الموضوع الرئيس في القرآن المجيد؛ حيث خُوطب مباشرة وأُكّد على ضرورة التعقل في كثير من المواضع (لعلكم تعقلون). فعليهِ لم يُخلق الإنسان عبثاً؛ وأنه عبدٌ مُكلّفٌ بعد حمله الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال حملهن. ومن منطلق وعي الخطاب القرآني وفهم الكينونةالإنسانيةيستوجب علينا التعقل والتأمل،ولعل أبرز ما يتطلب الوقوف عليه والتأمل به هو القرآن المبجّل؛ حيث أن هذا الكتاب غنيٌ بالأسرار والحِكَم الإلهية للإنسان؛ وهذا ما يشهدُ به العلماء المسلمين وغير المسلمين. فللمثال وليس الحصر شهد كلٌ من الفيلسوف الفرنسي ألكس لوازون والمستشرق الألماني شومبس والمفكر الياباني توشيهيكو إيزوتسو والطبيب الفرنسي موريس بوكاي لعظمة وحقائق علمية للقرآن.

وكما أسلفنا بأن الحِكَم الإلهية كثيرة في القرآن؛ ونحن هنا في هذا المقال الوجيز بصدد الوقوف والتأمل في واحدةٍ من تلك العطايا المزدهرة، ألا وهي قصة سيدتنا الصدّيقة مريم بنت عمران (عليهما السلام)؛ وبالتحديد قصة ولادتها لسيدنا المسيح عيسى (عليه السلام) وذلك في ثلاث آياتٍ مجيداتٍ من سورة مريم.

فقد قال جل جلاله:

{فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)}.

وقبل التفكر والتأمل في حِكَمِ هذه الآيات؛ علينا أن نتذكر أولاً بأن السيدة مريم العذراء كان يأتيها الرزق من الله في كل وقتٍ وحين؛ حيث قال تعالى:(كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران/37]، بل وأكثر من ذلك كانت تأتيها فواكه الشتاء في الصيف وفواكه الصيف في الشتاء. فأيُّ نعمة وتكريم أعظم من هذا؟

فالتي يأتيها الرزق في كلِ وقتٍ وزمانٍ وفي الأيام الطبيعية وهي في أتم صحتها؛ أليس من الأجدر أن تُرزقَمباشرة في وقت ضعفها وهي حُبلى؟ بل وكيف تستطيع هذه المرأة الضعيفة التي جاءها ألم الحمل والولادةبهزِّجذع النخلة الذي يُصعب حتى على الرجال هزه؟

ربما هكذا يفكر الإنسان أو يتساءل في قراءته الأولى وهو محقٌ؛ ولكن لو تمعنا وتأملنا في أسرار هذه الآيات المبجّلة سنجدُ فيها درساً إلهياً عظيماً بمثابة مِقْوَد الإنسان في الحياة العامة؛ ألا وهو: السعي.

نعم.. السعي وراء الهدف هو سر النجاح.فلا شك أن الله قادرٌ على أن يرزق أُمنا العذراء في ساعةٍ هي أحوج إلى المساعدة واللطف؛ والله إذا أراد شيئاً أن يكون فيقول له كن فيكون، فهو خالق السماوات والأرض ومدبر الكون؛ فحاشاه أن لا يقدر أن ينزّل الرزق إلى العذراء الحُبلى دون حركة منها؛ ولكنه جلّ جلاله أراد أن نتأملَ ونعيَ من خلال الصدّيقة مريم بنت عمران أن لا نجاح ولا وصول لهدفٍ دون السعي. والنقطة المهمة المستخرجة من هذا الدرس أيضاً هي يجب أن لا نفهم السعي في طلب الرزق فقط؛ بل علاوةً إلى جانب السعي نحو الرزق ندرك من الدرس السعيَ في كل مقاصد ومناحي الحياة؛ فالتلميذ يسعى لنجاحه وتفوقه والشاب يسعى لتكوين أسرة فاضلة والأم تسعى لتربية ذرية طيبة وأولي الأمر يسعى لحسن التدبير والتنظيم وهَلُمّ جَرّا. فالإنسان لم يُخلق عبثاً كما أدركنا من الخطاب القرآني؛ والذي لم يُخلق عبثاً يكن له أهداف؛ والطريق الوحيد للوصول نحو الهدف هو السعي الجادّ والتوكل على الله القادر الجبار.

ولا ننسى مُثابرة أُمنا هاجر (عليها السلام) التي سعت بين الصفا والمروة بحثاً عن الماء؛ فقصتها هي الأخرىتشبه كثيراً لموضوع مقالنا هذا؛ سواء من ناحية المحتوى أو من ناحية الهدف والمقصد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى