ابن الحارة الذي أصبح مخرجاً سينمائياً في هوليوود
شوقيه عروق منصور | فلسطين
هاني أبو أسعد أبن أم هاني .. الجارة الهادئة ذات الصوت الرفيع الوقور .. ابن العائلة الكبيرة التي كانت تطوي بيوتها على أطفال، وتلف تواجدها بالالتصاق بين بعضهم البعض، وبيوتهم تدل على مشاعرهم المتماسكة وحاضرهم الجالس فوق عتبات الغد.
هاني أبو أسعد ابن حي الميدان أو حارة الشاعر مطلق عبد الخالق – الشاعر الذي ما زال ينتظر لافتة تحمل اسمه، تدل على روحه الهائمة التي تطوف في الحي، حيث هناك إهمال متعاقب من قبل بلدية الناصرة للحي القديم .
وحين تغلي الذكريات فوق نار الزمن، يطل الصبي هاني الذي يحاول خلق لعبة يشترك فيها مع صبيان الحارة، تكون اللمة والأصوات والصراخ المنشور على حبال البراءة والضجيج الذي يسحب الهدوء، عندها تطل الجارة أم سليمان ملوحة بظلال عصاة كانت يوماً غصناً نضراً في شجرة رمان، يهرب الأولاد ولكنهم سرعان ما يعودون إلى الساحة، فيطل الجار” أبو سمير ” من النافذة وهو في حالة نعاس وتذمر يوحي بانكسار بلور نومه – نومة الظهيرة طقس من طقوسه اليومية الروتينية – ويبدأ بلعن الأولاد وعائلاتهم ويهددهم بالضرب وسلخ الجلد .. وينفرط عقد الأولاد هاربين من غضبه .. ثم بعد ساعات يرجعون إلى الساحة والحذر يتصاعد من همهماتهم وخطواتهم ويطمئنون عندما يرون ” أبو سمير ” يرتشف القهوة على شرفة منزله .. فقد زال الخطر فلن ينفذ تهديده ووعيده ، ويعود الضجيج مختبئاً في لعبة الغميضة أو في لعبة كرة القدم او من خلال شجار بين بعضهم البعض حول سرقة البنانير ومن فاز ومن قام بالغش .
وميض يضيء الذاكرة العميقة ودورة السنوات تدخن لفافة تبغ على مفترق العمر الضيق، ووجه الصبي هاني غرق في نهر الغياب والبعد ولم يعد لخيال الطفولة سوى صدى يحصي الايام وبعض آثار في الحارة نجت من بين اصابع البناء والهدم ، وبقي جزء من الساحة التي كانوا يلعبون فوقها حتى اليوم ، حيث يلعب اولادهم الآن على الجزء المتبقي من الساحة .
تفرق أبناء الحارة وترسبت طبقات الوجوه، كل واحد حمل قنديله وسار في دربه، ولم أتوقع أن يحمل هاني قنديل الإخراج السينمائي، أو المهنة غير المتوقعة، ولكن دائماً الصغار يفاجئوننا .. يمنحوننا عبق الدهشة التي تتوضأ بابتسامة الغرابة ولا نصدق ان هؤلاء الاطفال اصبحوا كباراً يحركون خارطة الوجود .
أضاءت الرحلة الفسفورية الإخراجية لهاني أبو أسعد السينما الفلسطينية ، فكانت أفلام (عرس رنا 2002 ) و ( يا طير الطاير 2015) و (عمر 2013) ويبقى فيلم (الجنة الآن 2005) رقماً صعباً في أهمية رسالة الشاشة السينمائية، حين عالج من خلال القضية الفلسطينية ظاهرة الاستشهاد ، ففي فلم ( الجنة الآن ) حلق المخرج هاني أبو أسعد بأجنحته وتأمل جسداً وذاكرة وموقفاً فلسطينياً ، ونصب فخاً لمرحلة هامة سقطت في ابجدية التساؤل وما زالت تفجر عذوبة ودماً ، حيث كان الواقع الفلسطيني يتململ وانقسم الشعب الفلسطيني بين مؤيد ومعارض للعمليات الاستشهادية.
من خلال قصة شابين فلسطينيين يستعدان لأن يتحولا الى قنبلتين بشريتين كانت الأحداث تتوالى وتركز على حالة اليأس التي أصابت جيل الشباب ، ومن هنا كان المخرج من خلال الاحداث يفجر السؤال المحير الذي يخلع الانسانية من جذورها ، كيف يتحول شاب مليء بالحيوية الى قنبلة موقوتة ؟ الدوافع والأسباب ؟
مهما اختلفت العناوين تبقى النتيجة واحدة شباب يذهبون بإرادتهما إلى الموت، يحملان المتفجرات ، وفي اللحظة الحاسمة يكون القرار النهائي التردد والتراجع .
لقد وضع المخرج هاني أبو أسعد أصبعه من خلال كتابة واخراج قصة فيلم (الجنة الآن) على الجرح النازف وعلى التساؤل المر والصعب ، وصور حالة اللحظة الحاسمة المعلقة بين الحياة والموت وحين يسألان الشابين ماذا سيحدث بعد العملية التفجيرية تكون الاجابة ( سيأتي اثنان من الملائكة ويأخذونكما الى الجنة ) !!
ولا ننسى أن هاني أبو أسعد فتح ملف العمليات الاستشهادية الفلسطينية بجرأة وأكد أن القضية الفلسطينية حاضرة بوجدانه ومنحها حقلاً خاصاً وقيمة انسانية عليا ومرر رسالته التي تقول (الذي لا يخشى ظلمة القبر لا يخاف شيئاً) حسب قول احد الفلاسفة.
المفاجأة كانت اقتحام هاني أبو اسعد هوليوود معقل الفن وقلعة صناعة السينما فكان أول عربي يخرج فلماً أمريكيا من انتاج شركة ” فوكس للقرن العشرين ” أكبر شركات الإنتاج والتوزيع في العالم ، بعنوان ( الجبل بيننا ) من بطولة البريطانيين “كيت وينسلت ” بطلة فلم تيتانك و ” ادريس البا ” الذي نال جائزة أحسن ممثل عن دوره في فلم “مانديلا ” حيث جسد شخصية الزعيم الافريقي نلسون مانديلا .
نجاح المخرج هاني أبو أسعد في الوصول الى هوليوود واخراجه فلماً يصنف في خانة الصعوبة، فقد تم تصويره بين الثلوج، لأن قصة الفيلم تحكي عن طائرة تسقط فوق منطقة جبلية مغطاة بالثلوج ، يموت الجميع وتبقى البطلة كيت والبطل ادريس على قيد الحياة حيث يتجلى الصراع مع الطبيعة القاسية وشهوة الانسان للحياة ورفض الموت .
أفلام هاني أبو أسعد جميعها تدور حول القضية الفلسطينية ومعاناة المواطن الفلسطيني البسيط، وقد نجح في رؤيته السينمائية وحصل على جائزة ” جولدن غلوب ” الكرة الذهبية عن فلم ” الجنة الآن ” ورشح فلم ” عمر ” لأوسكار أحسن فيلم أجنبي، وبصماته واضحة على مسيرة السينما الفلسطينية ، لكن الآن في هوليوود سيبتعد عن قضيته ويسجل نجاحه في مجال الهم الإنساني الأكبر .
الوصول الى هوليوود يكسب الوجه الفلسطيني جسراً الى العالم، فعندما يقف هاني أبو أسعد ملوحاً بالجوائز والعبق الفلسطيني خارجاً من شخصيته، نلوح نحن بأعلامنا الفلسطينية ونوقع بأصواتنا ان هذا المبدع منا والينا ، وسأضيف أنا انه أبن حارتنا ونشأ وتربى في حي الميدان في الناصرة ، ووجه الطفولي ما زال على مرايا الذاكرة وجدران الحارة .