العقل العربي بين مصائد التحييد ومشاريع الاستعادة

بقلم: عماد خالد رحمة|برلين
لم يكن العقل العربي، عبر التاريخ، مجرّد أداة تفكير محايدة، بل كان منارة حضارات ومَعينًا للفكر الإنساني في أرقى تجلّياته. غير أنّ هذا الكيان المعرفي الذي أضاء الدروب يومًا بات، في عصرنا، ميدانًا مفتوحًا لاستراتيجيات معقّدة، تستهدف تحييده، واستلاب حقّه في صناعة النهضة، وإقصائه عن دوره في صياغة المصير. فصناعة العقول ليست وليدة الصدفة، وإنما ثمرة مخططات ممنهجة ترمي إلى إضعاف البنية الداخلية للأمة، وإبقاء جسدها في حالة هشاشة فكرية ووجودية.
وإن تحليل هذا الواقع الأليم يقتضي مراجعة جذرية، ونقدًا فلسفيًا عميقًا، ينبع من تربتنا الثقافية، ويستمد من ذاكرتنا الحضارية، لا من قوالب مستوردة أو مقولات تغريبية غريبة عن طموحاتنا ورؤيتنا للعالم.
– أولاً: تفكيك الثوابت وتلويث الجذور
تبدأ أخطر الهجمات الفكرية من محاولة ضرب ركائز الهوية: الدين، واللغة، والانتماء القومي، والقضايا المصيرية الجامعة، وعلى رأسها قضية فلسطين ومقدساتها. يُقدَّم كلّ ذلك، في خطاب الخصوم، على أنه ميراث عتيق، عاجز عن ملاقاة الحداثة، فيتحوّل التراث إلى متّهم، والهوية إلى عبء.
– ثانياً: تحييد العقل عن قضاياه الكبرى
يُستنزف الرأسمال البشري العربي عبر هجرت الكفاءات، أو دفعها إلى العيش في بيئة تقتل الإبداع وتُحاصر الحرية الفكرية تحت أنظمة سلطوية. وفي هذا المناخ يُفرَّغ العقل من قدرته على المبادرة، ويُختزل في ردود فعل مُقيّدة.
– ثالثاً: تجزئة العقل وتجميده
الهويات الفرعية، الطائفية والمذهبية والقبلية، تُطرح كسلاح لتفتيت العقل الجمعي، وتحويله من عقل جامع إلى عقول متناحرة. يضاف إلى ذلك إغراق المجتمعات في اجترار صراعات تاريخية عقيمة، ما يستهلك طاقتها الذهنية في هوامش لا تبني مستقبلًا. ولا سبيل للخروج من هذا التيه إلا بمنظومات تعليمية تُنتج المعرفة بدل تلقينها، وتغرس ملكة التفكير النقدي بدل التقليد الأعمى، وتحتضن الإبداع بدل مصادرته.
– رابعاً: الغياب الفلسفي الموجِّه
الأمة العربية، في لحظتها الراهنة، تفتقر إلى فلسفة نابعة من بيئتها التاريخية والثقافية. غياب هذا “البوصلة الفلسفية” جعل العقل العربي معرّضًا لهيمنة الفلسفات الغربية، ليس بوصفها مجالًا للحوار والنقد، بل كقوالب جاهزة تُترجَم وتُتّبع دون مساءلة، حتى باتت بعض العقول تتعامل معها كمسلمات لا يجوز تجاوزها.
– خامساً: التزييف الإعلامي وإعادة تشكيل الوعي
الإعلام، أداة العصر الأكثر نفاذًا، يُستثمر في صناعة وعي مُشوّه، عبر تغييب الحقائق، وتزييف الروايات، وتأجيج الصراعات الداخلية. أحداث “الربيع العربي” كانت مسرحًا حيًا لهذا التلاعب، وما تزال الماكينات الإعلامية الكبرى تُسخّر أكاذيبها لتجميل الجرائم، كما في الحالة الفلسطينية، حيث تُقلب الحقائق لتبرير المجازر.
_ خاتمة: مشروع الاستعادة.
إن إعادة الوعي للعقل العربي ليست مهمة فكرية بحتة، بل مشروع حضاري شامل، يوازن بين الأصالة والتجديد، ويستمد قوته من الثوابت لكنه لا يخشى الإبداع. إنه عمل يتطلب إحياء الهوية الفكرية، وصياغة خطاب فلسفي عربي المصدر، وتحرير الإعلام من التبعية، ووضع خرائط طريق تُعيد للعقل العربي مكانته بين صانعي الحضارة، لا متلقيها.
فالعقل العربي قادر على النهوض من جديد، إذا تحرر من مصائد التحييد، وامتلك الجرأة على أن يكون فاعلًا لا مفعولًا به، وصانعًا للتاريخ لا مُساقًا في هوامشه.
