الفساد الحضري (الديستوبيا) وتراجيديا القبح
دراسة ذرائعية مستقطعة في رواية رجل المرايا المهشمة للكاتبة السورية لبنى ياسين
بقلم: د. عبير خالد يحيي
- إغناء:
الديستوبيا Dystopia: شكل أدبي يتحدّث دائمًا عن مجتمعات فاسدة في أسوء صورة متاحة، وإذا وسّعنا دائرة التعريف تعرّف أنها نوع من الأدب الخيالي الذي يصوّر مجتمع غير فاضل تسوده الفوضى، عالم وهمي ليس للخير فيه مكان، يحكمه الشر المطلق، من أبرز ملامحه الخراب والانحطاط الحضاري المتمثّل بالقتل والقمع والفقر والمرض بنوعيه الجسدي والنفسي، عالم يتجرّد الإنسان فيه من إنسانيته، ويتحوّل فيه الناس إلى مسوخ متناحرة، وهو أدب يكتبه الكاتب بغرض تسليط ضوء نقدي ورفض بشري طبيعي للخضوع للسلطات الأعلى، سلطات السياسة والدين والفلسفة والمجتمع والاقتصاد المتحكّم بتفاصيل حياة البشر وتحويلهم إلى أنماط متشابهة..ويهمّنا في هذه الدراسة التعريف الأول، لأن الروايةتتحدّث عن فساد جذر المجتمع، أو الوحدة المعيارية للمجتمع، ألا وهو الفرد، الإنسان، الذي يبدأ منه وينتهي إليه كلًّا من التطوّر أو الانحدار الحضاري للمجتمع. فالعمل هو من جنس الرواية الديستوبية النفسية،من نوع أدب القبح والتراجيديا السوداء.
- العتبات البصرية:
العنوان: رجل المرايا المهشمة، ويحيل هذا العنوان سيمانتيكيًا إلى:
المسند إليه: رجل: إنسان عاقل
الإسناد: شيء، مرايا: يفترض أنها أسطح لامعة تملك خاصية انعكاسية.
الحالة: مهشمة.
- تقنية الرمز التقني:
وهذا العنوان، كظاهرة سيميائية، تحيل إلى مرايا مهشمة يحملها رجل! هل هذا ما قصدته الكاتبة؟! مؤكّد لا. إن المرآة هي رمز تقني معروف لدى الجميع، رمز المرآة يعني شخصية الإنسان الثانية المقابلة(الذات المتوارية)، وهذا تماثل نفسي، وهذا المعنىيخصّ عالم الإنسان دون سائر المخلوقات، فالمتعارف عليه أن عالم الحيوانات يفتقر إلى المرايا، ليس بسبب عدم وجود أسطح لامعة في عالمها، وإنما لأنها، أي الحيوانات، مع بعض الاستثناءات عند القطط مثلًا، لا تملك القدرة على إدراك صورتها المنعكسة، فهي لا ترى صورتها المنعكسة، لأنها لا تعي أن لها ذوات، ولا تعنيها أسئلة الهوية الوجودية (من أنا، من أكون، ما معنى وجودي؟)، فهل الإنسان بحاجة إلى المرايا؟ وما هي دواعي هذه الحاجة؟، وهل المرايا نافذة تطلّ على الحقيقة؟ أم أنها محاكاة خادعة ليس إلّا؟ إن الاشتقاقات اللغوية للكلمة الانكليزية “mirror” والمشتقة من الجذر اللاتيني “mirare” كثيرة جدًّا، وكلّها تشير إلى علاقتنا المعقدة معها، عبر مفاهيم الانبهار والخضوع والشك والحذر. وإذا أردنا الوقوف على بعض معانيها نجد : النظر إلى، التفكّر في شيء ما، التقدير، العاكس، أو زجاج النظر، كما تعني أيضَا نسخة أو تقليد،أيضًا نجد كلمة الفحص، والتشكّك، الازدراء، بارز، كما نجد كلمة التجسس على، أو التحقّق من، وكذلك التفكير التأملي التخميني… كل هذه المعاني تخدم فكرة أن المرايا تمنح الإنسان التفكير التأمّلي، وهذا ما ينسجم مع طبيعته التأملية الفطرية، على عكس الحيوان ذي التفكير الغريزي، لذلك نجد الحيوان مأسورًا بالطبيعة، بينما الإنسان، بتفكيره التأملي يتحرّر من الطبيعة، يتمكّن من صنع عالم فكري مكتفٍ بذاته، منفصلًا عن عالم الماديات الحسية، أي مستغنيًا عن عالم الحواس التجريبي، وقائمًا على العلاقة المنطقية بين المفاهيم. وبذلك يكون رجل المرايا المهشمة هو الرجل الفاسد..والسؤال الذي يصعد بإلحاح، هل انعكاس المرآة مشابه لواقع التفكير التأملي؟ هذا ما سنبحث فيه مطوّلًا في المستوى الديناميكي، سيّما وأننا مضطرون لدراسة هذه الظاهرة في حالة المرايا المهشمة.
الإهداء:
إلى مخلوقات الله التي تسبّبنا نحن البشر- بقصد، أو بغيره- بتشويهها، ولم نكلف أنفسنا عناء الاعتذار، أهدي إحدى تلك الحكايات..إهداء يحمل اللوم والتقريع لجنس البشر المستعلي على مخلوقات الله، وتشويق محمول على سياق السؤال، من هي تلك المخلوقات التي قام البشر بأذيتها وتشويهها؟!
التصدير: الأذى لا يأتيك إلّا من ذاتك، الأشياء بريئة وخاملة ومحايدة، ليست الأشياء ما يربكك بل فكرتك عنها.(ماركوس أوريليوس)
قول بحمولة فلسفية، أتت به الكاتبة لتدعم المعنى الإيحائي للعنوان، عبر ذكر الذات والفكرة للمرة الأولى، والعلاقة بينهما بمفهوم الأذى، وتحييد الأشياء، فما هي إلا عامل خامل يلزم للمعادلة، لكن لا يؤثّر على النتائج.
الغلاف الأمامي:
المتن:
على مساحة 233 صفحة من القياس المألوف للرواية، فرشت الكاتبة متن العمل، وقسمته إلى 25 فصلًا، عنونت كل فصل بالحدث الرئيس أو بالحالة أو الثيمة المميزة فيه، باستخدام جيد لأدوات الترقيم، وتنسيق مطبعي جيد أيضًا.
- البؤرة الفكرية:
إن الفكرة الأساسية التي طرحتها الكاتبة تركّز على أسّ القبح الإنساني، وتطرح سؤالًا جوهريًّا، عن ماهيّة القبح،وهل هو صفة متأصّلة في جينات بعض البشر، أم أنها صفة مكتسبة تتمظهر كردّ فعل على المثيرات الخارجية الضاغطة؟! تتبّعتُ الكاتبة في طرحها لهذه القضية، وجدتها تتخذ في سبيل ذلك مسارَين متوازيين، يشكّلان معًا استراتيجيتها في الكتابة، هذان المساران هما:
- المسار النفسي:
عبر صراعات داخلية معقدة خلقتها، ليس فقط في ذات البطل، وإنما في ذوات الشخصيات الأخرى المساندة والمعارضة، وهذا تتبّع مدهش وشاق، أن تقوم بتحليل سيكولوجي للشخصيات ذات السويات الثقافية المختلفة وبلغة أدبية، وليس بلغة تقريرية مألوفة ومُعتمدة في التحليل النفسي، تاركة للمتلقّي الوقوف على نتائج التحليلات بنفسه.
- المسار الاجتماعي الدرامي:
عبر تقنية الحبكة الدرامية التي سنأتي عليها بالتفصيل في المستوى الديناميكي. والتي انبثقت عنها الكثير من الثيمات الفرعية الصاحبة والنتيجة.
- المعيار الأخلاقي :
تدين الكاتبة في هذه الرواية كل مظاهر الفساد الأخلاقي الإنساني، بعد أن تعرّيها وتكشف أقبح سوءاتها، كما أدانت أبشع جريمة يمكن أن يرتكبها كائن، لم يسبقه إليها حتى الحيوان، وهي انتهاك حرمة الموتى بالاعتداء والاغتصاب، وأراها ملتزمة بمنظومة الأخلاق العالمية التي لا تدع لمجرم فرصة للتفلّت من حكم قضائي بالتجريم ملزم، لكنها لم تعطنا أي بصيص أمل بالإصلاح، كنت أتمنّى أن تحمّل إحدى الشخصيات مهمّة الاستمرارية بالمعالجة الناجعة، لتكون النهاية مفتوحة على هذا الأمل.
- المستوى الديناميكي:
سأدرس فيه التقنيات السردية والتقنيات الأسلوبية التي استخدمتها الكاتبة في بناء الهيكل السردي الفني والهيكل الأسلوبي الجمالي، وسأبدأ بالتقنيات السردية في البناء الفني:
العنوان: دلاليًّا
- تقنية الدلالة المضمرة : Connotation و الدلالة الصريحة (Denotation)
الدلالة الصريحة (Denotation) هي عندما يقصد ما يقوله حرفيًّا، أما الدلالةالمضمرة (Connotation), يتم إنشاءها عندما يقصد بالقول شيئًا مخبوءًا أو مضمرًا، شيئًا قد يكون مخفيًا في البداية، ويعتمد على المعنى الضمني للكلمة، أي على التضمين، أو الارتباط العاطفي المشترك بكلمة، وهي حالة دلالية إيحائية. ولقد قمت بتتبّع الدلالات المضمرة لكلمة ( المرايا) كرمز تقني في كل العمل، وحصلت على النتائج التالية: إن أول مرآة ظهرت في متن العمل هي مرآة دياب، زوج دلال أم صطوف بطل الرواية، ومعها ظهرت أولى المعاني الإيحائية لرمزية المرآة كرمز تقني معروف، وهي أن فكرة الذات, أي، إدراك كون المرء شخصًا، تظهر إلى الوجود بمقابلة شخص آخر…
دياب إنسان مهمش ويكاد يكون غير مرئي من قبل الناس، خلا أمّه، الوحيدة التي كانت تشعره بأنه إنسان استثنائي، بينما الحقيقة هي أنه إنسان محدود القدرات على كل المستويات، لا طموح لديه، عاجز عن فعل أي شيء، منبوذ من الجميع حتى من زوجته، وحدها أمه كانت الكائن الذي قبله بكل ذلك الفرح والتقدير، وهاهي وقد ماتت، فقد علم في قرارة نفسه أنه: منذ تلك اللحظة تحوّل إلى كائن غير مرئي، ولن يكون في وسعه رؤية ملامحه حتى في المرآة.. وسيشتاق لنفسه كثيرًا، ولملامحه التي لم تعد هنا.. بل سيشتاق حتى لصوت أمه وهي تريه جوانبلم يسبق له اكتشافها في نفسه، وتخبره عن مدى نبله وطيبته ونباهته….. ص 25
وهنا أعود إلى الأسئلة التي طرحتها عن المرايا في المستوى البصري، هل انعكاس المرآة مشابه لواقع التفكير التأملي؟ وهل انعكاس المرآة أكثر من مجرد صور منسوخة لأجزاء مادية؟ هل هي أكثر من مجرد التقاطات لحظية آنية ثابتة للعالم المادي والأجساد؟ أم أنها تمتلك قدرة على الانفتاح على عالم روحي أعمق للذات؟ في حال قادنا التفكير التأملي إلى جوهر وجودنا العقلاني، فهل تستطيع أن تقودنا إلى جوهر وجودنا الروحي؟ وهل تمنحنا كلٌّ من المرايا وعيون الآخر إمكانية النظر إلى أنفسنا مباشرة في الوجه متجنبين الالتفاتة الجانبية؟ وهل وهل ….
يجيبنا الاقتباس السابق عن هذه الأسئلة، فالإنسان يحتاج وبشدّة للنظر في المرايا بغاية البحث عن عالم شاسع، أوسع وأعمق من العالم الذي يمكنه رؤيته ولمسه لمسًا مباشرًا، وليست المرايا أدوات لانعكاس المنسوخات المادية ولا الالتقاطات اللحظية فقط، هي أعمق بكثير من سطحية المحسوس المادي وآنية اللحظة، وهي أعمق فعلًا من انبهار نرسيس بوجوده وتمظهره الشكلي الخارجي، وهي بالنتيجة أدوات تتأتّى قيمتها من نظرة الفرد إليها، لا تسحق التقريع ولا التمجيد إن فشلت أو نجحت في عكس حقيقة أعمق، لأنها لا تصبح أدوات تأملية إلا حين يلاحظها المرء القادر على التأمّل، أي أن قيمتها الأدائية كأداة تأملية تعتمد على براعة من يستعملها، وقد كان دياب من أؤلئك المستخدمين البارعين الذين قادهم التفكير التأملي إلى إدراك وجوده العقلاني، فهو يقرّ بمحدودية قدراته، ولكنه بقي يبحث في عيون أمّه وصوتها عن جوهر وجوده الروحي، وقد رحلت أمه، ورحلت معها ذاته.
الذكر الثاني للمرآة جاء حين وقع صطوففي حبّمها، صطوف في مرحلة الشباب، قبيح الوجه، مشوّه، أحبّ مها بنت أخت زوجة أبيه، صبية جميلة دأبت على زيارة خالتها مع أمها كل يوم ثلاثاء، فعادت الأحلام تزور صطفوف، بالأحرى هو حلم واحد يتكرّر، مها بثوب الزفاف الأبيض, وعيناها العسليتان الممتلئتان فرحًا، ويدها الممدودة لتمسك بيده، وقسمات وجهها الواضحة وضوح الشمس، بينما وجهه هو لا يتبين ملامحه! وكأنه لا يريد أن يرى لنفسه وجهًا!. … وكما يتملص من المرور أمام مرآة فضلًا عن الوقوف أمامها، متجنّبًا رؤية تفاصيل وجهه القبيح, حتى أنه حين يقوم بنقلغرفة نوم من الورشة كان يتعمّد إمساك المرآة من الخلف لئلا يصافح نفسه، كذلك كان في لاوعيه يتجنّب رؤية التفاصيل البشعة لرجل من طين وخيبة….. ص 92
وهذا الاقتباس يأخذنا نحو معنى آخر من المعاني الإيحائية للمرآة كرمز تقني، إن التفتيش عن انعكاسنا في المرآة ليس إلا رجاءً أن تفصح الذات عن قصتها الحقيقية، كما أن المرايا تمنحنا انعكاسات لحظية أو هيكلية لما هو خارج منظورنا، وذلك نظرًا لتركيبة أجسادنا، فإذا كانت الأجساد خارجة عن مألوفها الهيكلي، فإن المرء يتجنّب النظر في المرايا، وينظر إلى نفسه بدون مرايا ليحقّق السلام والتصالح مع جوهر ذاته العقلية والروحية، و”نظر المرء إلى نفسه بدون مرايا أشبه ما تكون بمحاولة النظر إلى الوراء، والنظر إلى الوراء يعني النظر باتجاه شيء موجود سلفًا، بمعنى أن النظر إلى الوراء يعني النظر إلى توقّعات المرء الجاهزة عن نفسه، حيث يسقط – إسقاطًا منقوصًا- ما يريد المرء أن يراه، وينفتح – انفتاحًا منقوصًا- على إمكانية أن يُفاجأ، ويمنّي النفس بتوكيد ما يحوزه مسبّقًا”[1].
والأسئلة المطروحة ضمن هذا النطاق من المعاني: هل يمكن للمريا أن تُظهر لنا ما لسنا مؤهّبين لرؤيته؟ أم يمكنها فقط أن تظهر لنا إسقاط توقعاتنا؟ وهل يمكن للمرايا أن تظهر لنا شيئًا لم نسقطه عليها؟ أسئلة تحتمل إجابات متناقضة بتناقض الأشخاص ومواقفهم من المرايا، أما صطوف فله إجاباته وقناعاته الخاصة عن نفسه التي تمكّن من ترويضها وإخضاعها لما يراه مناسبًا لاستمرار حياته وتأمين سلامه، فكان الاستغناء عنها سيد الأحكام: … تعلّم كيف يعيش على هامش الحياة كائنًا حياديًّا تجاه كل شيء.. حتى نفسه، وعلّم نفسه ألا يقدّم دقات قلبه ونبض شرايينه إلى أي إنسان، ليس لأن الآخرين لا يستحقونها، بل لأنه هو نفسه ليس مؤهلًا له.. يشهد على ذلك تشوّه يحتل كامل خدّه علّمه منذ سنوات الطفولة أن ينسى أمر المرآة تمامًا حتى تلك المختبئة داخل نفسه، تعلّم أن المرايا لا تصادق أشخاصًا مثله، ولا تلقي عليهم تحية الصباح إن صدف والتقت بهن وجهًا لوجه.. فلماذا يقترب إذن؟… ص 103-104
ثم يأتي ذكر المرايا الهشمة في حديث صطوف مع قطّه، الذي يدعوه برفيقه الفرائي، في دمج كامل بين المرايا والذوات، وبمعنى إيحائي جديد أيضًا، وهو أن العيون مرايا الروح، وأن معرفة روح شخص ما لا تحتاج أكثر من النظر في عيونه، وهكذا قد يستغني المرء عن النظر في المرايا ويتحوّل إلى النظر في عيون الغير ليرى صورته في عيونهم: أنا مجروح حتى العظم، روحي تتبخر، قلبي تحوّل إلى شظايا صغيرة مدبّبة….. فأجابه الأخير: ذلك قدرنا يا عزيزي، نحن كائنات خلقت دون مرآة في دواخلها، لذلك نحن لا نرى أنفسنا إلا عندما يرانا الآخرون، وعيون الآخرين يا صديقي- تلك التي تنعكس صورتنا عليها– ما هي إلا مرايا متكسرة بقدر بشاعتنا تمنحنا صورًا مشوهة تخيفنا….. نحن نفقد ذواتنا، وهذا يجعلنا كائنات مكرّسة لغيرها عليها أن تقوم بخدمات مقابل أن تحظى بصاحب…. ص 109- 110
وإلى ذات المعنى ذهبت الكاتبة في الصفحة 160، مؤكدة قصور المرايا المهشمة عن نقل الصور الكاملة، في الحوار الداخلي الذي توجّه به صطوف إلى زوجته سحر :…. مثلي أنتِ تمامًا.. مشوّهة.. تفقدين مرآة داخلية تعكس صورتك، ولأنكِ لا تملكين تلك المرآة، فقد اكتفيتِ برؤية انعكاس صورتكِ في عيون غادرة.. في مرايا مهشمة لا تعكس إلا صورًا ناقصة لما تراه.
ثم تنقلنا الكاتبة إلى معنى آخر لرمز المرآة, إلى خاصية الانعكاس، لكنها تستبدل المرايا بالوجوه، فتصبح وجوه الغير بكاملها مرايا يرى فيها من فقدوا مرآتهم الداخلية ملامحهم، فتغدوا وجوههم هم أيضًا مرايا لغيرهم:
- غريب أن أواجه وجهي الآخر فيكِ! أن أواجه ذاتي بملامح امرأة …. 161
- كنت أنظر إلى وجهكِ، وأنت تتحدثين عن أوجاعكِ فأرى ملامحي ترتسم فوقه.. أرى التشوّه على وجعي وقد ارتسم على وجهك كما لو صرتِ مرآتي، وأصبحت أنا مرآتك، نحن أرواح يعتريها خوف فاسق فتضيق بنا الأمكنة ونتوارى خلف قسماتنا…. ص 162
وفي فصل النهاية أخذتنا الكاتبة باتجاه معنى الصورة الخادعة أو الوهم، وتطرح أسئلة جوهرية : هل تستطيع المرايا أن تظهر ماهية ما وراء الأقنعة التي نضعها على وجوهنا بغض النظر عن الأسباب؟ وهل تستطيع أن تظهر لنا تلك النفس المستترة وراء القناعات الكاذبة التي يتبناها المرء لغيره؟ وهل تستطيع المرايا أن تحرّرنا من أقنعتنا الاجتماعية ومن أمراضنا النفسية وتأخذ بيدنا ثم ترجعنا إلى أنفسنا؟
….. استيقظ صطوف في سرير أمه، وإلى جوار جثتها الباردة…… كان يدرك تمامًا بأنه لن يستطيع أن يرى نفسه وجهًا طبيعيًّا خاليًا من التشوّه ما لم تره هي كذلك، …. 233
معنى يرينا “أننا لسنا شيئًا واحدًا مع أنفسنا، أي أننا قد نجهل أنفسنا، وقد نسير بالتوازي معها، دون التقاء، وإن النظر في المرآة يشبه محاولة النظر في عينَي المرء نفسه وكأنه ينظر في عينَي إنسان غيره – شخص مجهول – نظرة غير متحيّزة بالكامل”[2].
- تقنية الموضوع أو ثيمة النص:
إن الثيمة الرئيسة في هذا العمل هي ثيمة القبح الجسدي والنفسي والأخلاقي، وكل الثيمات الثانوية الناتجة عنها أو المسببة لها مثل: التهميش الاجتماعي، والأذى النفسي، والظلم والقهر والإذلال الذي يطال المستضعفين على يد من يُفترض أنهم أولياءهم الذين تُناط بهم أمور رعايتهم والاهتمام بهم، الفقد العاطفي الذي لن ينتج عنه إلا التعويض المريض لذات مهشمة تبعثرت أجزاؤها في أرجاء يستحيل لملمتها، فانفصلت عن هيكل إنسانها المادي وتركته تائهًا غريبًا في عالمه الواقعي، لا هو قادر على احتواء روحه، ولا على الاتصال بعالمه، فيخاف من نفسه وشكله، فلا يجرؤ على النظر في مرآة، فربما رأى شيئًا أكثر قبحًا مما يتوقّع… هي رواية ترصد القبح في أنبل علاقة الإنسانية من المفروض ألا يشوبها شائبة، علاقة الأمومة والأبوة، حبّ الأم لطفلها مهما كان ماء نسبه، ومهما كان قبح خلقته، وعلاقة الأب بابنته التي يقف عندها كل خلق سيء من الممكن أن يوجد في شخص إنسان،لذا، أصرُّ على أن الرواية من نوع الأدب الديستوبي الإنساني الفردي، ومن الظلم تعميمه على المجتمع.
طرحت الرواية العديد من القضايا الفلسفية من وجهة نظر الشخصية البطلة، وهي التي شكّلت بنيته السيكولوجية والسلوكية غير السوية: فلسفة الغياب والحضور عند شخص منبوذ خائف ( صطوف) من امرأة (أمّه) كانت من المفترض أن يكون حضورها سلام لنفسه، وسكن لروحه: …. تعتريه جميع أنواع الاضطراب في حضرتها، ولا يعود إلى طبيعته وتستكين مشاعره إلا في حضرة غيابها، … كان الغياب أمنًا لا حدود لسكينته، أما الحضور، فقد كان لعنة تقع على كيانه….. ص 65. وهذه طبعًا فلسفة مقلوبة بفوضوية الواقع وقبحه، وهذا ما انعكس أيضًا على رؤيته للمرأة، فغدت كل امرأة من منظوره الفلسفي أصل الخوف والقلق والتوتّر:….. عندها فقط أصبح الخوف امرأة، والقلق امرأة….. ص 65
انعكس ذلك أيضًا على سلوكه لدى رؤية أي امرأة :…. اقتراب أي امرأة منه يجعله يتكوّم بجانب أقرب جدار أو ….، أي شيء ثابت في مكانه يلتمس منه الشعور بالسكون، ليتقوقع داخل نفسه، ويراوح بما فوق خصره إلى الأمام والخلف، كأنه بالتصاقه يعلن اطمئنانه للجمادات أكثر مما يطمئن لامرأة لم تنتبه إليه… ص 66، أما الرجل، في نظره فقد كان كائنًا حياديًّا، لم يلتصق به، لكنه قد يقترب منه ويحدّثه دون أن يؤذيه، لذا كان بإمكانه التعامل معه نوعًا ما..أما الرجل عند سحر فقد كان …
فلسفة الموت عند صطوف كانت مختلفة عن مألوفها:
فللموت قدرات خاصة تستطيع إخفاء تلك النظرات الباردة التي كانت أمه تقتله بها كلّما اقترب منها، الموت هو من سمح له بالاقتراب من أمّه والنوم في حضنها، … الموت بالنسبة إليه راحة من كل شر، ألم تنته أوجاع أمه، وأوجاعه من إبعادها الدائم له بالموت؟ لذلك لم يكن يخشى الموت ولا هو يكرهه…. ص 125
فلسفة الهوامش: كيف ومتى وأي الإنسان يقبل أن يعيش على هامش الحياة؟ لا شك أنه صطوف، بكل ما مورس عليه من ظلم وإهمال ونبذ، طالما أن حياته لا طعم لها ولا لون، فالزوايا هي المأمن: كان قد أدرك أن الهوامش أمكنة أكثر أمنًا، فللهوامش ظلال تستطيع إخفاء ضعفه عندما تدور به الدنيا وتميد به الأرض، أما الوقوف في وجه الحياة .. فهو أكثر الأمور خطرًا لمن يحمل ملامحًا كملامحه ينبغي إخفاءها ما استطاع……. ص 89.. طرحت الرواية أيضًا موضوع واللجوء إلى الدجل والشعوذة للشفاء من أمراض النفس والجسد على حد سواء، كما عرضت لبعض المتلازمات النفسية.
- تقنية الزمكانية :Setting
اختارت الكاتبة استهلالًا زمكانيًا، بسطت فيه البيئة الجغرافية والبيئة الاجتماعية والديموغرافية التي ستكون الفضاء الأول الذي ستبدأ فيه الأحداث، فهي تجذّر لأصل كل حدث فني من أحداث روايتها، ولذلك عنونت فصل الاستهلال ب ( تلك البذرة الملعونة)، تقول: في حارة فرعية من حواري دمشق الشعبية، حيث تساند البيوت العشوائية بعضها بعضًا، وتقف كتفًا إلى كتف فيمواجهة الفقر الذي يتربّص بكل بيت من بيوت تلك الحارة، وفي ليلة شتوية ضلّت فيها السحب الحبلى بالمطر طريقها إلى هناك….. ص 8
- تقنية الحبكة Plot:
استخدمت الكاتبة طريقة التقليدية في سرد الأحداث: بداية – عرض – نهاية، أي السرد المتسلسل الذي يعتمد على مبدأ السببية، مخطط التشابك السردي المؤلف من مثلّثَي الصراع (الاشتباك والانفراج) المتقابلان والمتطابقان بزاوية الرأس.
النص يسرد عن شخصيتين تعرضتا لظلم شديد من أقرب الأقربين، صطوف الذي كان ثمرة اغتصاب، دلال، الشابة التي كانت حدّت قساوة الحياة من طموحاتها في إكمال تعليمها، مات والدها فزوّجتها أمها لأول خاطب طرق بابهم كما فعلت مع أخواتها، وغدت أمًّا لطفلين، اغتصبها (أبو نعيم) معلم النجارة الذي يعمل عنده زوجها (دياب) كأجير في ليلة غاب عنها دياب ليزور أمه المريضة، كتمت موضوع الحمل عن زوجها وحينما ولدت صطوف ولدته مشوّه الوجه، كتلة حمراء بنتوءات على خذه الأيمن، مارست عليه دلال كل أنواع الظلم واتهميش، فنشأ منبوذًا وحيدًا مهمّشًا في ركن مهمل من بيتهم الفقير، يحضن قطّه الأعور، يحلم بلمس أمه والحظوة بمحبتها، والارتماء بحضنها، ولم يتحقّق له هذا الأمر إلا ليلة موتها، حيث احتضنها كل الليل، دون أن تقصيه عنها، ليكتشف زوجها ( دياب) في الصباح أنها ميتة. يتزوج ديبو بعد فترة، وتحرمه زوجة الأب من إتمام تعليمه، يقع في حب ابنة أخت زوجة أبيه، لكنها تتزوّج أخاه الأوسط (سالم)، يعاني صطوف من ازدراء وخجل أخيه الكبير (ناجي) به، يقوم بتثقيف نفسه عبر قراءة الكتب والروايات، إلى جانب عمله بالنجارة في ورشة أبي نعيم( والده الحقيقي) الذي مات وحيده ( نعيم) مخنوقًا بين قضبان السرير في نفس الليلة التي تنفّس فيها صطوف الحياة، يحاول صطوف أن يتصالح مع نفسه، ويحاول إرضاء من حوله، وتُتاح له فرصًا عديدة ليحيا بطريقة أفضل،ولكنها تنقطع بسبب خوفه الشديد وقلّة ثقته بنفسه، ما يجعله غير قادر على التواصل مع الناس الذين يستغربون سلوكياته في إخفاء وجهه والحركات الرتيبة المتواترة التي يهتز بها جسده، فهو مأسور بأوهامه وخيالاته المريضة، يوفّر له أخوه سالم فرصة للعمل في برّاد مشرحة للموتى في إحدى المستشفيات، وينتقل للعيش في غرفة قريبة من مكان عمله الجديد، تلقيه الحياة في درب (سحر) التي يدّبر والدها،وهو جاره في السكن الجديد، أمر تزويجها منه، (سحر) هي الشخصية الثانية التي وقع عليها الظلم بأبشع صوره، كان أبوها يعتدي عليها جنسيًا (سفاح قربى)، وقام بتدبير زواجها من صطوف ليستمر بالاعتداء عليها تحت غطاء اجتماعي مقبول، وعندما أسرّت لصطوف بذلك، أراد أن يوقفه عن غيّه لكنه عجز عن مواجهته، كما فشل في إقامة حياة زوجية معها، وعندما قرّر أن ينتقم لها من أبيها، وعزم على ذلك، وجدها وقد هربت من البيت، خذلها، فهربت. أتاح له القدر فرصة ثالثة، للارتباط بزميلة معه بالعمل، لا تحلم إلا بأمومة تلحّ عليها بشدّة، فأبدت اهتمامًا كبيرًا به، وحاول أن يرتبط بها لكنه جبن في اللحظات الأخيرة، ليجدها قد ضاعت منه هي الأخرى.
- تقنية العقدة في الروي:Climax
وهي شيء ما يحدث فجأة بشكل خاطئ أوبشكل رهيب ينهي الصراع الدرامي ويشكل “ذروة الدراما” للقصة. وجود صطوف في المشرحة، التي تتوافد عليها جثث لرجال تنتظر التشريح لنفي أو إثبات شبهة جريمة، مع الغضب المكبوت في ذاته الهائمة بخيالاتها المريضة اتجاه الظلم والتهميش الذي لقيه من الناس، حوّله إلى كائن يعتدي على جثث الرجال بالضرب المبرح، وعندما ينتهي يعود إلى حالته الهادئة، يكمل قراءة كتاب أو رواية، يتطوّر الأمر معه، بل يتحوّل تحولًّا رهيبًا حين تصل إلى المشرحة عروس بثوب عرسها ماتت بنوبة ارتفاع سكر يوم عرسها، يتعرّض لصراع نفسي فظيع أشبه ما يكون بنوبة فصام، ينتهي به باغتصابها! ليتحوّل من شخص يعاني من القهر والظلم، إلى شخص سيكوباتي شديد الأذى منحط أخلاقيًّا ينتهك حرمة الأموات، منساقًا لأحلامه المريضة في حبّه ل ( مها ) وخيالاته بعلاقة حميمية دافئة معها، بمعنى أنه كان خارج الوعي والإدراك.
- تقنية النهاية:
لم تشأ الكاتبة أن تجعل النهاية نهاية سردية واقعية، رغم أنها ذكرت تلك النهاية، و لكنها لم تولّها الاهتمام، وتجاوزتها إلى النهاية النفسية، التي حسمت فيها، وأنهت الصراع النفسي المشتعل كالحرائق في نفس صطوف، الذي اكتشف أنه عاش بوهم أنه مسخ مشوّه الوجه منع أمّه والناس من محبته، صورته بالجريدة كشفت له هذا الأمر، كما اكتشف أن صديقه الكائن الفرائي ( القط الأعور) مات منذ زمن طويل، منذ كان طفلًا، وأنه لم يقضِ معه سوى ليلة واحدة فقط، كان مريضًا ومات في اليوم التالي، وأن الكائن الفرائي الذي عاش معه أكثر من ثلاثين عامًا لم يكن إلّا في خياله، وما هو إلا رمز تقني لذاته أو ضميره وإدراكه، قام صطوف بتحطيم وجهه على قضبان باب السجن، ونام بعدها، استدعى أمّه، وهي على سريرها جثة باردة: أدار وجهها إليه مرّات ومرّات مواجهًا عينين باردتين، محاولًا ألا ينظر إليهما مباشرة، وألا يعيرهما انتباهًا… ريثما تستطيع أن تنظر إليه جيدًا، وتمعن في ملامحه لتكتشف أنه ليس مشوّهًا كما كانت تعتقد.. فتختفي تلك النظرة الباردة من عينيها إلى الأبد…. ص 233
- تقنية التنبؤأو الإنذار المسبق Foreshadowing :
هي تقنية سردية يتمّ فيها إسقاط أو غرس الاقتراحات أو التحذيرات حول الأحداث القادمة..وعندما يظهر جزء من الإنذار في وقت مبكر من السرد، فإنه يلمّح أو يشير إلى شيء سيحدث لاحقًا في الحبكة عادةً، ليس بالتخلّي عن ما سيحدث بالضبط، ولكن بإسقاط تلميح أو عمل إشارة إلى شيء سيحدث في المستقبل، إذا جاز التعبير..وقد وجدنا الكاتبة تسقط ذلك التلميح أو تلقي بتلك الإشارة في زمن مبكر من السرد، في الصفحة 15، وقبل بدء الأحداث فعليًّا, بهدف توليد التشويق، أو التوتر في السرد، أو كلاهما معًا، لزيادة التوقعات والتوق إلى معرفة ما سيحدث. ” كان هاجس الفقد – حتى بعد ولادة الصغيرين – يخنقها، يشعرها بالقلق، وبأن هناك خطرًا ما سوف يلمّ بالرحم الفتي ولن يظلّ ولودًا،…” ص 15
أعادت الكاتبة استخدام هذه التقنية أكثر من مرة، منها عبر تقنية الحلم الذي رأى فيه صطوف أمه وقد تحوّلت إلى حمامة، وطارت بعيدًا عن المنزل: …. كان يشعر في قرارة نفسه أن هذا اليوم يحمل حدثًا غير عادي في طيات ساعاته الممتدة إلى ليل ما زال بعيدًا… ص 57 وعندما جاء المساء بعتمته، ازداد الغم في قلبه الصغير وغدا متأكدًا أن شيئًا بشعًا سوف يحدث قريبًا جدًّا، وأن هذا الشيء يتعلّق بأمّه فقط، ولا أحد غيرها،…. ص 58 ثم بعدها، وفي الصفحة 56 يحدث ذلك الحدث الفني: …. كان صطوف يتقلّب بين اليقظة والنوم عندما سمع نحيب أبيه دون أن يعي مصدر ذلك الصوت، أو ماهيته، ولم ينتبه لوجود ابنه في قضاء غرفة تنعي جدرانها رحيل صاحبتها، فجسده الضئيل كان ملتصقًا تمامًا بجسد أمه،…. أكمل صطوف نومه غارقًا في أحلام تعشش فيها حمامات وعصافير …., دون أن ينتبهإلى أن الصوت الذي سمعه ما هو إلا نحيب أبيه وهو يودع زوجته…. ص 59
- تقنية وجهة النظر السردية Point-of-view:
وجه نظر السارد العليم – الراوي كلي العلم. أفاض بالحديث عن دلال أولًا، ثم استفاض بالكلام عن صطوف، أما باقي الشخصيات فتحدّث عنها بمقدار تقاطعها مع صطوف.
التقنيات الأسلوبية:
- تقنية اللغة المجازية Figurative language:
المتن متخم بهذه التقنية، واللغة المجازية أو التصويرية أو الجمالية : هي استخدام للغة، يختلف المعنى المقصود فيه عن المعنى الحقيقي الحر الموجود في الكلمات المستعملة في اللغة نفسها، وهناك العديد من التقنيات التي يمكن تسميتها بحق اللغة التصويرية، بما في ذلك الاستعارة والتشبيه، والمبالغة، والتجسيد والتشخيص، والمحاكاة الصوتية، والمفارقة اللفظية والتناقض اللفظي. وسأختار دليلي على معظم ما تقدّم، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، من الوصف الذي جاء في فصل الاستهلال، لنقف على هذه الصور الاستعارية والكناية البديعة للضوء والصوت، والألفاظ الباردوكسية ( البرد والدفء- الصفير والسكون):
كانت الأضواء تتسللهاربة من نوافذ البيوت التي لازمها أصحابها هربًا من البرد المتسكّعيدًا بيد مع الهواء الذي يطارد السكون بصفيره الموحش في الطرقات الخاوية إلا من بعض الأنفاس الباردة التي ما زالت في طريقها إلى مساكنها تلتمس فيها الدفء…. ص 8
- تقنية المبالغة Hyperbole:
وهي من أنواع اللغة المجازية، في وصفها للبعدين النفسي والاجتماعي لشخصية … لجأت الكاتبة إلى إنشاء المبالغة للتأكيد على نقطة، وهي إلى أي مدى كانت تلك الشخصية منعزلة ومنطوية على نفسها:….. هادئ حدّ الموت، بالكاديتكلّم، لم يكن لديه أصدقاء، ولا حتى أعداء، ما تعوّد أن يزور أحدًا أو يزوره أحد، ص 9 أيضًا استخدمت المبالغة لإضافة العمق واللون إلى البيان: فهو يحمل وجهًا بلا تعابير، بارد خال من الحس، صامت كالجليد، بعينين ميتتين: … يستيقظ صباحًا إلى العمل بوجه بارد لا يعلوه أي شبح لأدنى شعور، كأنه وطّن نفسه على ألا يحس بشيء، وأن يغلّف وجهه بجليد الصمت، ويغطي عينيه بصقيع بارد للموت. … ص10
- تقنية الطباق: مستخدمة أيضًا بكثرة: ….. كانت الحياة بينهما كتلة جليدية من الرتابة القاتلة، لا جديد فيها ولا حتى قديم.
- تقنية التصوير اللغوي: ::Imagery
الصور الأدبية: هي اللغة التي تصف شيئًا ما بالتفصيل، باستخدام الكلمات لتحلّ محلّ الفرشاة بالرسم, والعدسة بالتصوير وذلك من خلال التحفيز الحسي، بما في ذلك الصور المرئية والصور الصوتية، وهذا مانسميه الرسم بالكلمات، وقد استخدمت الكاتبة هذه التقنية في وصف الجسدية والنفسية والاجتماعية لأم صطوف، أوّل شخصية ظهرت على مسرح الأحداث: أما هي فتحمل وجهًا رقيقًا تتوّجه ملامح ناعمة بشكل ملفت، ينسدل شعرها الأسود على كتفيها مقاطعًا جبينًا أبيض، وعينين واسعتين محملتين بالحزن والجمال، فيزيدها الشعر المنسدل برقّة حسنًا إلى حسن، متوسطة الطول، تملك عودًا غضًّا يتمايل بغنج غير مقصود، لم تستطع الخيبة أن تطفئ بربرية غنجه، لها صوت ناعم، وإن شابته القسوة في بعض الأحيان..ص 10
لاحظوا كيف أنها تستخدم أيضًا:
- تقنية المفارقة الأدبية Paradox:
المفارقة هي بيان يبدو متناقضًا للوهلة الأولى، ولكن عند التفكير فيه يصبح منطقيًّا, وتستخدم هذه التقنية الأدبية بشكل شائع لإشراك القارئ لاكتشاف المنطق الأساسي في عبارة تبدو متناقضة مع ذاتها، ونتيجة لذلك، تسمح المفارقة للقرّاء بفهم المفاهيم من خلال وجهي التعبير(معرفة الشيء من خلال نقيضه)، بطريقة مختلفة وحتى غير تقليدية، في وصفها للبعد النفسي لأم صطوف تقول الكاتبة: بركان ثائر هي، تعلوه طبقات من الثلج، في دواخلها تشتعل الحرائق فيقتحم دخان الخيبة أحاسيسها المختبئة خلف جدران اللامبالاة،……..غالبًا ما يبدو عليها سلام غير مبال بأي شيء حولها، ملتبسٌ مع استسلام خفي لأنامل الزمن والظروف، تحب الناس والزحمة…. ص 10
- تقنية التشخيص Anthropomorphism/Personification:
تقوم على تحويل الشيء غير المحسوس إلى محسوس، والمعنوي إلى مادي، وغير العاقل إلى العاقل،بإسناد الخصائص البشرية إلى الأشياء،حيث يؤثّر استخدام شخصنتها في الطريقة التي يتخيّل بها القرّاء الأشياء، ويثير اهتمامًا بالموضوع أكثر، أي لزيادة التشويق في القراءة،وهي حالة لغوية بلاغية جمالية, استخدمتها الكاتبة بكثرة في معظم الفقرات الوصفية، على سبيل المثال: كان الخوفيضغط على رئتيها فتختنق الأنفاس في صدرها, تتقاذفها الأفكار كما زجاجة فارغة تضربها أمواج بحر شديد الهياج في يوم ماطر، فتبكي بحرقة، ثم تغط في صمت عميق، تسرقها فيه الكوابيس لدقائق…ص22 يتبع لهذه التقنية، تقنية الأنسنة: حيث أجرت الكاتبة حوار الضمير والحكمة على لسان غير عاقل ( الكائن الفرائي أو القط): ويمكننا العودة إلى الصفحات 85 و 99 للإطلاع .
- تقنية الحوار الداخلي:
نجده في حديث صطوف مع زوجته سحر وقد انطلق لسانه بحديث طويل جدًّا امتد من الصفحة 160 إلى الصفحة 167 وهو يظن أنها نائمة لا تسمعه، حديث أطلق فيه العنان لذاته على سجيتها. يمكن العودة للرواية للاطلاع عليه.
- المستوى النفسي:
من خلال المدخل السلوك نجد الكاتبة تطرح الكثير من الأسئلة الوجودية الحائرة على سبيل المثال : هل كان عليها أن تموت حتى يُسمح له بالاقتراب منها … ص 63 وهناك تساؤلات يمكن العودة إليها في الصفحات ص 86-108-110 تناصت الكاتبة مع رواية (أحدب نوتردام)لفيكتور هيجو، وقد أتت على ذكر ذلك في ص 80، باعتمادها الشخصية الرئيسة المشوّهة جسديًّا، والمنبوذة عاطفيًّا والمهمشة اجتماعيًّا، كما تناصت مع رواية ( العطر) لباتريك زوسكيند في ديستوبية وكابوسية الطرح..والرواية هي رواية نفسية بالدرجة الأولى، اشتغلت عليها الكاتبة باستراتيجية التحليل النفسي والمعالجة الدرامية.
[1]-لأي غرض وُجدت المرايا؟: أيرينا سيمونز, ترجمة أروى الغامدي، منصة معنى الثقافية، 11 مايو 2021
[2]– المصدر السابق