تاريخ

علي عزت بيغوفيتش داعية الحب والفكر الحر

علي جبار عطية | رئيس تحرير جريدة أوروك – العراق
مرت قبل مدة الذكرى العشرون لرحيل المفكر والسياسي البوسني علي عزت بيغوفيتش (١٩٢٥ ـ ٢٠٠٣) صاحب المقولة الشهيرة : (القلوب الأنانية لا تستطيع أن تحب، لهذا يختار الحب أصحاب القلوب النبيلة ليسكن بها )، وهو ليس محباً كبيراً فحسب بل هو داعية للحب في جميع محطات حياته حراً كان أم سجيناً أم حاكماً.
مرَّ خلال حياته بتحديات وصراعات وتجارب قاسية إلا أنّه لم يغير فلسفته ونهجه الداعي إلى التعايش، والتسامح وقبول الآخر .
كتب عن نفسه يقول : (لا كراهية لديَّ، وإنَّما لديَّ مرارة) ، (لا أتذكر أنَّي احتقرت أحداً) .
شخصيته تجمع بين الالتزام والفكر الحر والاعتدال، والواقعية، وهذا متأتٍ من الظروف التي عاشها، فقد نشأ في أسرة عريقة، وتعلم في مدارس مدينة سراييفو إذ كانت البوسنة والهرسك جزءاً من يوغسلافيا، وأمضى حياته فيها بعد انتقاله من مسقط رأسه بوسانا كروبا البوسنية، وفيها أكمل تعليمه الثانوي عام ١٩٤٣، ثمَّ التحق بجامعة سراييفو، وحصل على الشهادة العليا في القانون عام ١٩٥٠، ثم نال شهادة الدكتوراه عام ١٩٦٢، ونال شهادة عليا في الاقتصاد عام ١٩٦٤.
تميّز علي عزت بيغوفيتش بثقافته العالية فهو يقرأ ويتحدث ويكتب بعدة لغات منها الألمانية، والفرنسية، والإنجليزية، والعربية، وتميز بانفتاحه على الأفكار والفلسفة الأوربية خاصة كتابات جورج فيلهلم، وفريدريش هيغل، وباروخ سبينوزا، وإيمانويل كانط.
لكنَّه يقول: (لم يغنِّ الشعب للذكاء، وإنّما غنى للشجاعة… لأنَّها الأكثر ندرة).
حماسته للحق ودفاعه عن الإسلام جعله في مواجهة السلطة التعسفية فحكم عليه عام ١٩٤٦ بالسجن ثلاث سنوات بعد انضمامه إلى منظمة (الشبان المسلمين) التي أسست في سراييفو على غرار جماعة الإخوان المسلمين بمصر، وحوكم سنة ١٩٨٣ بسبب أفكاره ومعارضته للرئيس اليوغسلافي تيتو، فحكم عليه بالسجن ١٤ سنة قضى منها خمس سنوات وثمانية أشهر ليخرج بعدها بعفو.
يقول عن هذه التجربة: (السجن يقدم معرفة يمكن أن يقال عنها إنَّها مؤلمة للغاية.. يعاني الإنسان في السجن من نقص في المكان، وفائض في الزمان)، ويضيف: (لم أستطع الكلام، لكني استطعت التفكير. وقررت استغلال هذه الإمكانية حتى النهاية).. حكمته لا تنفك عن صراحته وصدقه ، يقول في ذلك :(عندما تكون في السجن تكون لك أمنية واحدة : الحرية، وعندما تمرض في السجن لا تفكر بالحرية، وإنّما بالصحة. الصحة إذنْ تسبق الحرية).. طُلب منه، وهو في السجن أن يقدم استرحاماً ليخفف عنه الحكم فرفض فمكث سنتين بعد ذلك.
يقول: (اليوم هو ٢٧/شباط/ ١٩٨٧، وهو يوم قليل الإثارة. طلبوني في الصباح لإدارة السجن واضطربت، لأنَّه لم يكن وقت زيارة. وفي غرفة اللقاءات وجدت ليلى وسابينا (ابنتيه) بوجوه مرحة. أرادتا فوراً، وربما على المدخل أن تقولا أن لا شيء مكروهاً قد حصل. ثم تحدثتا لي كيف أنَّ نيكولا ستويانوفيتش رئيس لجنة الاسترحام في رئاسة جمهورية البوسنة اقترح استدعاء للاسترحام، وسيتم الإفراج عني. وكان الوسيط زدرافكو جوريتشش سكرتير اللجنة آنذاك هو زميل ليلى في الدراسة، الذي كتب الاستدعاء. وقرأت النص، ولم أوقع، واستمر السجن).
يقول عالم الاجتماع المصري الدكتور عبد الوهاب المسيري (١٩٣٨ ـ ٢٠٠٨) وهو يتحدث عن كتاب علي عزت بيغوفيتش (هروبي إلى الحرية): (لا زلتُ أضع كتابه «هروبي إلى الحرية» بجانب وسادتي منذ سنين، فمع كل انتكاسة دنيوية تصيبني، أفتح الكتاب، وأبدأ بالتقليب فيه وكأنَّني أراه لأول مرة، وأتمنى في يوم ما أن ألقى ما لقيه هذا الرجل !)
يتناول علي عزت بيغوفيتش في كتابه (هروبي إلى الحرية) ما دونه في سجن فوتشا بين سنوات (١٩٨٣ – ١٩٨٨)، وما تعرض له من معاناة ، كما عبر عن طموحاته وآماله، وأفكاره وتأملاته واعتقاداته، كذلك تحدث عن الحياة والناس، والدين والأخلاق، والسياسة ، وأشار إلى نظرية سماها (الطريق الثالث) ، وقد رأى الدارسون لأفكاره أنَّه قدم الإسلام بصفته طريق الوسطية بين المادية العمياء التي تغلف الأفق الإنساني وتحجب رؤيته، والروحانية العرجاء التي تؤصل الانهزامية والانسحاب من معركة الحياة.
فالإسلام ـ كما يرى علي عزت بيغوفيتش ـ هو (الطريق الثالث)، الطريق الذي لا يشطر الذات الإنسانية شطرين، بل يصوغها صياغة متزنة، تجعلها قادرة على التوفيق بين واقعها المتناهي وأفقها اللامتناهي. فالروحانية الواقعية هي أهم سمات الإسلام، والإنسان الكامل في الإسلام -كما يراه علي عزت بيغوفيتش – ليس القديس، بل المؤمن الواقعي القوي، الملتزم برسالته الاجتماعية ودوره في الحياة. ولو فهمنا الإسلام حق الفهم، فسنجد أنَّ الإنسان الواقعي الملتزم أعظم من القديس، وأنَّ ذلك هو السر وراء أمر الملائكة المعصومين بالسجود لآدم.
لم يكن توصله إلى هذه النظرة سهلاً فقد واجهته في مطلع شبابه عاصفة من الأفكار، وبقي عدة أشهر في حالة من التردّد الروحي الفلسفي، تبع ذلك إيمان عميق ،وفهم واسع للوجود.
يقول في ذلك: (الكون من دون الله بدا بالنسبة لي محض عبث).
وعن فهمه لطبيعة البشر يقول: (الاختلافات الحقيقية بين الناس والمجتمعات والأنظمة السياسية ليست في الغايات،وإنَّما في الوسائل. ولذلك لاتسألوا كثيراً عن الغايات،لأنَّ الغايات المعلنة ستكون دوماً رفيعة وحسنة،اسألوا عن الوسائل،أو تأملوا بها ، فهذا لا يخدع أبداً).
ويضيف: (قلة من الناس هي التي تعمل وفقاً لقانون الفضيلة، ولكن هذه القلة هي فخر الجنس البشري وفخر كل إنسان، وقليل هي تلك اللحظات التي نرتفع فيها فوق أنفسنا فلا نعبأ بالمصالح والمنافع العاجلة ، هذه اللحظات هي الآثار الباقية التي لا تبلى في حياتنا).
أفكاره النيرة كاشفة عن سعة أفقه نجدها في كتبه:(الإسلام بين الشرق والغرب)و(هروبي نحو الحرية)، و(البيان الإسلامي)، (عوائق النهضة الإسلامية).
يقول عنه الدكتور عبد الوهاب المسيري:(هو مفكر ورئيس دولة، يحلل الحضارة الغربية، ويبين النموذج المعرفي المادي العدمي الكامن في علومها وفي نموذجها المهيمن، ثم يتصدى لها ويقاوم محاولتها إبادة شعبه، ولكنه في ذات الوقت يستفيد من اجتهادات المفكرين الغربيين المدافعين عن الإنسان، ولعلَّ إيمانه بالإنسان الذي ينبع من إيمانه بالله وإدراكه لثنائية الطبيعة البشرية، هو الذي شد من أزره إلى أن كتب الله له ولشعبه النجاة، وهو الذي مكنه من أن يلعب هذا الدور المزدوج.. دور المجاهد والمجتهد، ودور الفارس والراهب).
في الجانب المهني عمل مستشاراً قانونياً لربع قرن، ثمَّ اعتزل وتفرغ للبحث والكتابة. وفي العمل السياسي أسهم في تأسيس حزب العمل الديمقراطي،واختير رئيساً لجمهورية البوسنة والهرسك بعد استقلالها عام ١٩٩٢، ثمَّ كان أول رئيس للمجلس الرئاسي في البلاد عام ١٩٩٥.
الحديث عنه يطول، ولعليّ أفتح بهذا المقال شهية القارىء لاقتناء مؤلفاته التي نجد صداها في الواقع، ونتعلم منها صدق مقولته حين يقول:(المصلحة حيوانية، أما التضحية فهي إنسانية) !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى