شهداء لا يُنْسَوْن: محمد الدرة، فارس عودة، إيمان حجو
فراس حج محمد| فلسطين
لكل واحد من هؤلاء الثلاثة قصة مختلفة، إلا أن ما يجمعهم أشياء كثيرة، فهم من قطاع غزة المحاصر، أطفال، شهداء، استشهدوا خلال انتفاضة الأقصى، في أقل من عام، وشكل استشهادهم انتباهة قوية للعالم على هذا الاحتلال الشرس، قاتل الأطفال. انتباهة توثيق، لا انتباهة محاسبة للقتلة والمجرمين.
لا شك في أنّ الاحتلال يعي أنهم أطفال، وصغار، ويعلم ما تقوله الاتفاقيات التي تصمت وتتجمد عندما تمس الشعب الفلسطيني وأطفال هذا الشعب. ولعلكم تعلمون السبب، فهو أوضح مما يقال، ويعاد سرده.
استشهد الدرة في 30/9/2000 بعد يومين من اندلاع الانتفاضة الثانية، وصار علماً على هذه الانتفاضة. لم يكن حدثا عادياً، قُتل بإصرار عجيب أمام الكاميرات، لم ترحمه البندقية البلهاء وهو يحتمي خلف جسد والده جمال. لم يكن ليشكل الدرة ولا أبوه خطرا من أي نوع إلا أن يكون الدرة الطفل، إشارة للمستقبل، فبقتله يقتلون المستقبل ويغتالونه.
الدرة أصبح أيقونة شعرية وأدبية أيضا، ودخل إلى بطون الكتب، ليكتب عنه عشرات الكتاب، وجمع بعض ما كتب فيه من شعر في مجلدين حملا عنوان “ديوان الشهيد محمد الدرة” تجاوز عدد صفحاته الألف صفحة، كما تناوله الشاعر محمود درويش في واحدة من أعداد مجلة الكرمل بقصيدة بعنوان “القربان” (عدد66، شتاء، 2001) وتحدثتْ عنه روائيا الروائية المصرية رضوى عاشور في روايتها “قطعة من أوروبا”. وآخرون كثيرون تحدثوا عن الدرة في المقالات والاستعادات السنوية، عدا قصائد الذكرى والحنين التي أبدعها الشعراء.
وبعد (38) يوما تقريباً، وبتاريخ: 8/11/2000، استشهد الطفل فارس عودة، هذا الطفل الذي غدا علامة علىالشجاعة، في مواجهته دبابة الميركافا بحجر. من حق هذا الطفل ألا يظل على قيد الحياة. هذا هو منطق البندقية الحمقاء التي اغتالته. يجب أن يموت هذا الفتى، لأنه تجرأ على أقوى قوة في المنطقة وواجهها بحجر، يا للمفارقة الكبيرة، دبابة وحجر. لقد كان منهم “الفولاذ والنار، ومنا لحمنا، ومنهم دبابة أخرى، ومنا حجر”.
هذا الفتى الغزيّ الذي خاطب ظله، حضر في الأغاني والشعر والرواية، وظلّ علامة أخرى مختلفة عن الدرة، في كونه مواجها، مرعبا في مواجهته، صارخا متحديا، لا يعرف بناء المعادلات المنطقية، ليقول كيف لي أن أدافع عن الأرض والجسد والروح بحجر أمام الميركافا التي لا تدمرها إلا الأسلحة الفتاكة. حطّم المعادلات المنطقية، ليبني من موته مستحيل الفتى الذي لا يهزم وإن ارتقى شهيداً، فكانت له منطقيته التي لا يفهمها إلا القليل من الساعين إلى الحياة بشرف وعزة وكبرياء روح.
لا أبالغ، وليس من قبيل الكلام الإنشائي الرومانسي الحالم، أن فارس عودة يمثل روح الشعب الفلسطيني التي لم تهزم، وإن كان يقف وحيدا أعزلَ في مواجهة أعتى الأسلحة، يجابه بجسده العاري وبصلابته الروحية. هذا هو فارس عودة، وهذا هو الشعب نفسه، والعمليات البطولية للمقاومين بعد هذا الفارس وقبله تقول هذه الرسالة الساطعة في دلالتها الوطنية والمنطقية.
شهيدان، شكل كل واحد منهما اعتباريته الخاصة، على نحو خاص، في ظرف خاص، لكن لم تنته المسألة على هذا النحو، تحضر الطفلة إيمان حجو لتكون العلامة الثالثة. إيمان لم تقاوم بحجر، ولم تختبئ من الجنود وراء أمها أو أبيها. إيمان يأتيها الموت وهي في أكثر الأماكن أمانا على وجه الكرة الأرضية، يأتيها الموت وهي في حضن أمها، بتاريخ: 7/5/2001.
استشهد الدرة وفارس عودة بالرصاص، لكنّ إيمان ترتقي بالقذيفة،رضيعة ذات أربعة أشهر، لا يصلح لها أن تقتل برصاصة، لا بد لهذه الطفلة أن تموت بالقذيفة، لتصنع المفارقة الكبرى حالتها الأخرى الأدل على هذه الحالة من طرفي المفارقة، الطفل الرضيع يقتل بالقذيفة. بشاعة إنسانية صارخة، لا يمكن لهذه الميتة أن تقول إلا البشاعة.
وماذا- إذاً- وراء هذه البشاعة؟ بعيدا عن لعلّ وربما. إن هذه الحالة من القتل تقول: إنه لا أمان من الاحتلال، فمن يقتل وهو في حضن أمه هائنا مطمئنا فليس هناك أمان لأي أحد بعد ذلك، فأين الملجأ؟ وإلى أين نذهب؟ إنها رسالة تهديد مباشرة وعنيفة، يدعو فيها الاحتلال الشعب إلى الاستكانة والرضا بالاحتلال والعبودية، لكنني أظن أن الاحتلال لا يعلم أن الشعبَ، كل الشعب، يمتلك روح فارس عودة وصلابته، لن ترهبه آلات الدمار والعتاد والسلاح، وموج الخوذات المحشوة بالوحشية التي لا تعرف إلا الموت والنار والدم، تبذلها لغيرها، فلن يتلقاها غيرها إلا بمثل ما دفعت، والنار بالنار تفلح. هذه رسالة لا يريد الاحتلال الاعتراف بها، ولذلك سيواصل الغرق في بحر الوحشية والدم.
حضرت إيمان حجو- كما حضر الدرة وفارس عودة في الشعر والأغاني. إبراهيم نصر الله كتب سيرتها شعراً في ديوان “مرايا الملائكة”، ومما جاء في هذا الديوان قوله في (حديث الوحدة): “يعبر الموت من تحت شبّاكها كل ليلٍ ويصمتُ/ للعشب يكبر في غرفة النوم/ لا غرفة غيرها/ يسمع الكركراتِ/ المناغاةَ/ رقّة راحتها وهي تمسك كفّ أبيها”. يكتب “سيرة الجسد الطريّ” وإن لم يعد العالم يفهم لغة الشعر والأدب. إننا بحاجة لشيء آخر مع لغة الشعر هذه وتلك، شيء يشفي “صدور قوم مؤمنين” ويخلصهم من أوجاع الموت.
هؤلاء الشهداء الثلاثة لن يُنسَوْا أبداً، لأن كل واحد منهم شكّل حالة تدل علينا نحن القابعين تحت رحمة البندقية والقذيفة والدبابة، نواجه الموت صغاراً وكباراً، كما واجهه هؤلاء الأطفال الشهداء. فكل واحد منا- نحن الواقفين على الدور- ننتظر رصاصة أو قذيفة أو دبابة لنكون اسما بجانب هؤلاء الشهداء.
هؤلاء الشهداء لن يُنسوْا، ليس لأنهم خالدون في الشعر والروايات وأغاني المنشدين، بل لأنهم يذكروننا بالعجز الأممي القانوني، والعجز الإنساني، والعجز القومي، فكل الأطفال الذين لحقوا بركبهم، ذاقوا ما ذاقه الثلاثة من عذاب اختراق الرصاص، وانسلال الروح من البدن، ذاق أهلهم ما ذاق أهل هؤلاء الأطفال من قهر، وفقدان، وحسرة، وحقد، ورغبة في الانتقام. نعم الرغبة في الانتقام، لا الرغبة في التمجيد والتصوير وتعليق النياشين، ولا الرغبة في إنشاد الشعر، ولا حتى الرغبة في نيل الشهادة! تلك التي تأتيهم وهم لاهون، في وقت هم لا يريدونها فيه. إن لهم أحلامهم التي تنتظرهم في غدٍ من حقهم أن يكون غدا حيّاَ راقصاً مفعماً بالفرح.
هؤلاء الشهداء لن يُنسوا، لأنهم علامة على كل شهيد طفل، ارتقى بعدهم، ويرتقي كل يوم، تاركين الحياة رغماً عنهم، تاركين مقاعد الدراسة، والزملاء، ومشاكسة المعلمين والمعلمات، والمزاحمة في الطابور على المقصف المدرسي ليشتري أحدهم شطيرةً، معدة على عجل من عامل يصارع الحياة أيضا لكي يعيش بكرامة. إنهم حالات خالدة رغماً عن الموت ذاته الذي لا يكفّ يذكرنا بهم يوميّاً.
هؤلاء الشهداء لا يمكن أن يُنسوْا بسهولة، لأنهم يفضحون العقل الباطن للاحتلال المجرم، الساعي إلى اغتيال المستقبل، فكل طفل يقتله الاحتلال، فإنه يقتل مربعا كاملا من الحياة والحيوية والمقاومة. فأسهل السيطرة قلع الغرسة قبل أن يشتدّ عودها، هذا هو الإجرام الصهيوني الذي تجده في أعداد الشهداء من الأطفال التي تزداد يومياً، وعدد الأطفال الأسرى، مع أنهم يحبون القتل أكثر!
هؤلاء الثلاثة لم يُنسوْا، ولن يُنسوْا لأنهم ثلاثة، كأي ثلاثة اجتمعوا ليشكلوا الحالة، ثلاثة قبلهم “تسابقوا على الموت: محمد جمجوم، وفؤاد حجازي، وعطا الزير”، وكالثلاثة الذين اجتمعوا ليشكلوا العلامة في الرواية الفلسطينية (كنفاني وجبرا وحبيبي) وقبلهم الثلاثة المذكورون في القرآن الكريم الذين رضي الله عنهم، وغفر لهم، وجعل فيهم قرآناً يتلى، كما سخّر لهؤلاء الشهداء الثلاثة شعراء كبار ينشد القراء أشعارهم آناء الليل وأطراف النهار أيضاً.
وأخيراً: لم تقف المسألة عند الثلاثة والعشرين عاماً هذه الممتدة من مقتل الدرة وحتى اليوم، بل إن المسألة عمرها ممتد منذ أكثر من سبعين عاماً، وستظل موجودة وتصنع حالاتها وتتوالد ما دام من يوجّه الآلة عقل محشو بالموت، وحشيّ، يرى أنه كلما قتل فلسطينيا فإنه سيفسح مجالا لمستوطن ليكون البديل في الأرض وفي المستقبل، لكن هيهات، فالأرض ولّادة، والأمّ ولّادة، والسواعد دائما على أهبة الاستعداد، ولتطحن الحَبَّ الرحى، ونحن والأعداء والزمن طويل، فهذه الأرض لم تهزمْ أصحابَها يوماً، ولن تهزمهم أبداً.