أدب

لبنى الصغيرة (1)

موزة المعمري| سلطنة عمان

تبدأ أحداث الرواية بوقوف لبنى مستندة على جدار منزلهم تنظر للفتاتين اللتين تلعبان أمامها, هي لا تلعب معهن بل تكتفي بالنظر لهن بغبطة وحسد, فالفتاتين لهن “غرة” بسيطة على جبينهن تتطاير كلما قفزن أو جاءت نسمة هواء لتُطاير لهن شعرهن, أما هي فلا تمتلك ما يمتلكنه لأن شعرها عبارة عن جديلتين تنسدلين على كتفيها, قررت الذهاب إلى والدتها ومحادثتها بشأن الغرة.

تمشي بخطواتها إلى أن تصل للمطبخ فوالدتها هناك تعد طبق حلوى, لم تشدها لبنى رائحة الحلوى كأي طفلة لا بل كان يشدها معرفة جواب والدتها على سؤالها هي لها, وقفت على باب المطبخ وسألت والدتها

لبنى : أمي, أريد أن أقص غرة كباقي الفتيات

الأم بغضب : ماذا؟ هل جننتِ؟ أخبرتكِ مسبقا بأن هذا الأمر ممنوع

لبنى : لكن ..

الأم : ممنوووووع, والآن اغربي عن وجهي فأنا مشغولة جدا 

تركت لبنى والدتها المشغولة بقالب الحلوى وجرت على عتبات الدرج إلى أن وصلت غرفتها وأقفلت باب الغرفة عليها, ثم وقفت أمام المرآة تنظر نفسها والغضب باد في عينيها الجميلتين, فتحت الدرج وأخذت المقص ثم قصت شعرها, قصت لها “غرة” كباقي الفتيات, لم يكن القص متساويا لكنها بدت مرتاحة تماما من فعلها, فهي فعلت ما كانت ترغب به

أتى الليل وبدأ الوالدين يتناولان عشاءهما دونما أي مبالاة بوجود لبنى معهم على المائدة أم لا

موسى : أين لبنى؟

الأم : بغرفتها علها نائمة, لو كانت جائعة لأتت للعشاء هي تعرف موعدة 

أكملا تناولهما لعشائهما دونما مبالاة منهما بلبنى

انقضى الليل وها قد أطل الصباح لتصحو لبنى على صوت شهقة والدتها لرؤية شعرها المقصوص والمنثور على الأرض

الأم : لماذا؟ لماذا قصصتِ شعركِ؟ أيتها اللعينة!

أخذت الأم بضرب لبنى بينما والدها كان واقفا على باب الغرفة ينظر لضربها دونما أي تدخل منه, الأم من وجهة نظرها كانت تربي لبنى, الأب من وجهة نظرة كانت زوجته تفعل الصواب مع ابنته.

زاد عقاب الوالدة لابنتها فجعلتها تغسل الأطباق في المطبخ, وبينما لبنى تغسل الأطباق والدتها تقف بجانبها تزمجر وتصرخ في أذنيها, صوتها مزعج جدا للبنى الصغيرة, هي لا تطيق صوت والدتها المرتفع مطلقا.

الأم : لن تأكلي اليوم ولن تنامي أيضا, ستعاقبين عقابا مريرا 

وبين لحظة غضب شديدة من لبنى أخذت الأطباق جميعها ورمتها ع الأرض ليتطاير شظايا الزجاج على أرضية المطبخ, بينما هي أسرعت بالهرب من المطبخ وصعدت الدرج ودخلت غرفتها وأغلقت الباب بالمفتاح في خوف شديد.

الوالدة تطرق على الباب بشدة وتطلب من لبنى أن تفتح لها باب الغرفة لا لشيء ولكن فقط لتعاقبها أكثر وأكثر, لبنى تتراجع بخطواتها للوراء وهي تنظر باب الغرفة في خوف, تلتصق بالجدار ثم تجلس على أرضية الغرفة الباردة في صمت تام.

مر اليوم ولبنى باتت نائمة على الأرضية, الزوجان أكلا طعام العشاء دونما أن يباليان بطفلتهما الصغيرة ثم خلدا للنوم, أمر غريب أليست لبنى طفلتهما الوحيدة؟ إذا لماذا لا يعاملانها بلطف ورقة وحنان؟ لماذا هما غير مباليان بها؟ ولماذا هما قاسيان جدا هكذا على لبنى؟

في صباح اليوم التالي خرج موسى لعملة بعد أن تناول طعام الفطور وخرجت لبنى من غرفتها حتى تتناول الفطور أيضا, نسيت غضب والدتها ونسيت خوفها, الجوع هو من قادها للخروج متناسية لكل شيء قد سبق, انتهزت الوالدة فرصت خروج لبنى من غرفتها واقتربت منها فأمسكت بيدها التي تحمل كأس الماء الذي كان على مائدة الإفطار 

الأم : حان موعد عقابك

أخذت ابنتها تجرها من يدها وربطتها بالحبل في جذع النخلة تاركة إياها تحت أشعة الشمس الحارقة دون رحمة منها.

مرت الساعات ومر الوقت ولم تعد تشعر لبنى بأي شيء سوى بيدين أشعرتاها بدفء الحنان حين حملتاها, أنقذتاها من كل ما تعاني منه ساعتها.

استيقظت عينا لبنى في غرفة بالمستشفى على صوت والديها الهامس 

موسى : ما الذي فعلته بابنتك؟

الأم : كنت أربيها, أربيها فقط كأي أم 

موسى : لو لم تتدخل واسطة رفيقي بالموضوع لكنا نحن الاثنان في السجن الآن, اللعنة عليكِ! 

أغمضت لبنى عينيها مرة أخرى في إعياء تام وعادت لعالم التيه 

لم يتغير شيء, لازال الأبوان غير مباليان بابنتهما الوحيدة, لكن هناك عدة تساؤلات تجول في ذهن لبنى 

“لماذا والداها غير مباليان بها برغم أنها وحيدتهما؟”

“لماذا هي وحيدتهما ولم ينجبا غيرها؟”

“لماذا والديها لا يحبان بعضهما؟”

“لماذا هما في شجار دائم لا ينتهي؟”

عدة تساؤلات وتساؤلات لا تنتهي في عقل لبنى الصغيرة

قررت لبنى أن تتحدث مع والدها وهو يشاهد التلفاز في الصالون, الوالد يرتشف بضع قطرات من كوب الشاي, هو لا يشاهد التلفاز بالفعل بل يقرأ الجريدة التي بين يده أما لبنى فتقرأ ملامح وجهة لتقرر كيف تبوح له عن مكنونات صدرها, ثم بعد بُرهة تشجعت ونطقت لتقول لوالدها

لبنى : أبي

موسى بغير مبالاة : ماذا؟

لبنى : لماذا لا تحبني؟

موسى ينظرها بغضب : لأنكِ تشبهين والدتكِ, أنتِ حية مثلها

لبنى : ولكني ابنتك

موسى : وابنتها هي أيضا, وتشبهينها وستشبهينها بكل شيء عندما تكبرين

ترك الوالد ابنته وغادرها وهو يجر غضبه خلفه, بينما هي تزيد تساؤلاتها, هو قال بأنه لا يحبها لأنها حية كوالدتها! إذا لماذا يرغب بالحية تلك في سريرة ليلا؟! في النهار يضربها, يصرخ في وجهها ويعاملها بقسوة, أما في الليل فيلاطفها وينعم بأحضانها.

لبنى وهي تصعد عتبات الدرج تتساءل “كيف لوالدتها أن تتقبل لمسات والدها الليلية بعد ذوقها للمساته النهارية الجارحة؟! هل والدتها مجنونة؟!

ذات يوم كان موسى عائدا من عملة غاضبا, وجد لبنى قد بعثرت كتبها وأقلامها وألوانها وهندستها حولها, فهي كانت تكتب واجباتها المملية عليها من قبل معلماتها, اقترب منها كالثور الهائج أخذ حقيبتها المدرسية وبعثر ما كان فيها من كتب في أرجاء المكان, بعثر الأقلام كذلك وكل ما تحتويه الحقيبة ثم قال لها 

موسى : لا أعلم ما الذي ستفعلينه بكل هذه الكتب والأقلام, هل ستصبحين عبقرية مثلا؟! اللعنة عليكِ وعلى والدتكِ!

كانت لبنى تنظر له وحسب, لم تنطق بأي كلمة, ولم تفعل أي شيء سوى النظر والسمع, صعد الوالد الغاضب الدرج للوصول لغرفته وأوصد الباب بقوة الثور الهائج, أما عن لبنى فأخذت تلملم ما بعثره والدها, لملمت الكتب, الدفاتر, الأقلام, الهندسة, لكنها أخذت بالبحث عن المسطرة والمبراة والممحاة, فهذه الأشياء لم تجدهم, أخذت بالبحث تحت الكراسي والطاولات, وجدت المسطرة والمبراة, ولكن الممحاة لازالت ضائعة, أخذت بالبحث أكثر في زوايا المنزل وبين الأشياء فلم تجدها.

 استندت على ذاك الحائط البارد وجلست على أرضية المنزل تعبة من البحث ويائسة جدا, لكن لماذا هي تريد وبشدة أن تجد الممحاة؟ لماذا الممحاة بالذات؟ وبين لحظة يأس وأخرى رأت لبنى الصغيرة ممحاتها الضائعة تحت تلك الأدراج الصغيرة, اقتربت لبنى وأخذت الممحاة من تحت خزانة الأدراج الصغيرة, نظرت للممحاة وهي تقول “ليتنى أستطيع أن أمحي بكِ كل حياتي هذه التي أحياها مع والدي, أو أمحو والدي وأبقى يتيمة الأب, أو أمحو أمي وأبقى يتيمة الأم, أو لا … أمحاهما هما الاثنان معا من حياتي وأبقى وحيدة وسعيدة”

تمر الأشهر ليُطل شهر رمضان على لبنى, تشدها المأكولات الرمضانية التي تصنعها والدتها بإتقان, تختلف المأكولات الرمضانية عن مأكولات باقي الأشهر, لبنى تحب شهر رمضان وما يحمل من روحانيات لكنها لا تحب تجمع العائلة الكبيرة في منزلهم في هذا الشهر, هي تمقت اجتماعاتهم العائلية لأنها تبدأ بخير 

ومحبة مصطنعة ثم تنتهي بزمجرة وصراخ وعلو أصوات وشجار ما بين الإخوة والأخوات, لبنى تكره ذلك.

يمر شهر رمضان ويأتي بعده عيد الفطر, وتتجمع العائلة الكبيرة مرة أخرى في منزل موسى لتأتي الغوغاء التي تمقتها لبنى, لبنى تحب عمتيها مريم وخديجة وكذلك تحب أعمامها يوسف وحيدر ولكنها تكره عمها حسين فهو شرير, ولا يختلف كثيرا عن والدها القاسي موسى, تقترب لبنى من أعمامها وعماتها لتأخذ “العيدية” التي لطالما تعودت على أخذها في فرح تام شأنها شأن أي طفلة, مريم وخديجة تغدقن على لبنى بالعيدية وكذلك زوج خديجة وعميها يوسف وحيدر بينما حسين لا يُعطي لبنى أي شيء فهو يعتبر ذلك تبذير.

تدخل لبنى في غرفتها في سرعة تامة لترمي بالعيدية في درج خزانتها ثم تخرج من الغرفة في سرعة أكبر لتنزل من على عتبات الدرج وتخرج من المنزل لأنها لا تود أن يفوتها شيء من منظر ذبح الذبيحة, يجتمع الأعمام مع الوالد ليذبحوا الثور الهائج في الحظيرة, لبنى تنظر لوالدها الذي يذبح الثور في حين أعمامها حسين ويوسف يمسكون بالثور أما حيدر يكون في مكان آخر من المزرعة جالسا لوحده هناك, تنظره لبنى من بعيد بعد أن أشبعت عينيها من النظر لذبح الثور ثم تقترب من عمها حيدر الذي يجلس على فرشة صغيرة وحيدا هناك

لبنى : عمي

حيدر : روح عمكِ أنتِ 

لبنى : قُص لي حكاية

حيدر : ليس الآن

لبنى : أرجوك, أرجوك

حيدر يضحك : حسنا فليكن

ويبدأ العم حيدر بقص الحكاية على مسامع لبنى, كانت تستمع له بسعادة فهي تحب سماع حكايات الأمراء والأميرات الذين يتزوجون بعضهم بالنهاية في حب وانسجام.

يصمت كل شيء بعد رحيل العائلة الكبيرة في الليل, لبنى نائمة في سلام تام في سريرها ثم تسمع صوت صراخ عماتها وبكائهن في المنزل, تنزل من على سريرها وتخرج بخطواتها تقف لتنظر لعماتها من فوق, ما بالهن يبكين؟ ولماذا عدن؟ ثم تسمع خديجة 

خديجة : أخي, أخي, لا أصدق ذلك!

مريم : كانا لبرهة معنا والآن…

حسين : كفى بكاءا ونواحا, لقد استخارهما ربهما وانتهى الموضوع

يوسف : لبنى, لبنى ستظل وحيدة الآن

حيدر : كيف تركا ابنتهما الوحيدة في هذا الليل دون أن يأخذاها معهما!

حسين : أفضل شيء فعلاه أنهما لم يأخذاها معهما وإلا لكانت ..

يوسف : لا تقلها

حسين : يجب علينا الآن أن نحضّر لجنازتيهما

حيدر : أجل علينا ذلك, فإكرام الميت بدفنه 

فهمت لبنى من كل ذلك أن والديها قد ماتا, تركاها وحيدة لتزداد وحدتها أكثر وأكثر

أُقيم العزاء وقدم المعزون للتعزية بينما لبنى كانت تقبع بغرفتها جالسة على سريرها في هدوء تام وتلعب بدميتها, لم تكن تبكي ولم تفعل ولن تفعل, أما بعد انتهاء العزاء شد لبنى صوت جدال عائلتها حول من يكفلها, كانت لبنى تنظرهم وتستمع لهم وهي تقف فوق الدرج

خديجة : أنا سآخذها معي لمنزلي وسأعتني بها كابنة لي

حسين : لا, زوجكِ غريب عنا وعن العائلة

مريم : سآخذها أنا معي

حسين : لا, أنتِ أيضا لا

حيدر : أنا سأعتني بها

حسين : أنت أعمى ولن تستطيع الاعتناء بطفلة بعمرها, فلنفرض أنها خرجت من منزلك أو حدث معها شيء, كيف ستتعامل مع الموضوع؟ أنت لا

يوسف يود الحديث

حسين : لا تفكر بذلك يوسف, فأنت دائم السفر أنت وزوجتك 

خديجة : إذا ما الحل برأيك يا أخي؟

حسين :  أنا سآخذها معي لمنزلي وسأعتني بها, ثم أيضا سأطلب من الخادمة أن تعتني بها أكثر

وانتهى النقاش الأسري أخيرا بمن سيكفل لبنى, مريم وخديجة كانتا تتمنيان لبنى في منزلهن فهن يحبانها كثيرا, كذلك الأمر بالنسبة ليوسف وحيدر, أما حسين فلماذا هو متلهف لهذه الدرجة لضم لبنى لمنزلة؟

تُرى ماذا سيكون مصير هذه الطفلة بعد الآن؟ وكيف ستكون حياتها في منزل عمها الذي تكره؟ بات الآن كل شيء مجهولا بالنسبة لهذه الفتاة الصغيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى