نفس تملّكها الشيطان

أنا لا أعتذر

بقلم: خالد رمضان| كاتب مصري – صلالة
أنا لا أعتذر، فأنا لا أخطئ، بل أتحرى الصواب دائما، وأتجنب الخطأ ما دمت حيا.
أنا لا أعتذر، فالاعتذار ذلة ومهانة، وضعف واستكانة .
أنا لا أعتذر، فمن هذا الذي أعتذر له، وأقف بين يديه صاغرا ذليلا؟!
كلمات جوفاء لا تحمل معنى، ولا تروي عطشا، ولا تَشفي صدرا.
إنها كلمات خرجت من نفس تملّكها الشيطان، وسيطر عليها الكبر والعصيان، فامتلأت غرورا، وازدادت إعراضا ونفورا .
مَن منّا لا يخطئ؟
مَن منّا لا تزل قدمه بعد ثبوتها؟
لا عصمة إلا لنبي، ولا كرامة إلا لولي، فكل منا يخطئ ويصيب، وخير الخطائين التوابون بنص الحديث الشريف.
إن الاعتذار ليس ذلا ومهانة كما يزعم الزاعمون، بل هو بريد المحبة، ورسول الوئام، فبه تزول الأحقاد، وتُمحى الضغينة، وتصفو النفوس، وتتقارب المسافات بينك وبين الٱخرين، فلا يترك في النفس ألما، ولا يدع فيها تعبًا ولا نصبا، فتبيتَ وأنت هانئ النفس، مرتاح البال، تبيت ولا تحمل حقدا لأحد، فتكون تلك التي قد بلغت بك .
إن هذه المشاحنات والصراعات والخلافات والاختلافات، والمحادثات الحادة، والكلمات المتراشَقة، والنظرات المتعمَّدة – ولا شك – تترك في النفس أثرا مضنيا، وشررا حارقا، بل وتفتح الباب على مصراعيه أمام الشيطان ليدخل من خلالها، وينفث فيها سمومه الناقعات، فلا يرقأ لها جفن، ولا تغمض لها عين .
لكنك حين تمد يديك محملة بالصفح والمغفرة، مخضبة بالحب والوئام والسلام، مصحوبة بابتسامة هادئة، ونظرة قريرة معبرة،تهدأ النفوس، وترتاح القلوب، وتزول الأحقاد، وتذوب على عتبات المحبة كل ثلوج البغض والضغينة والكراهية، وتشتد حبال الود، وتتوثق عرى الأخوة والعرفان، ويخنس الشيطان فلا تسمع له همسا.
بل والأروع من ذلك وذاك أن تكمم أفواه الواشين والقتاتين والنمامين، فتنعقد ألسنتهم، وتخمد نيرانهم، بل وتتمزق شباكهم التي كانوا يصطادون بها في عكارة المياة .
إن هذا الصنف من الناس لا يريدون محبة بين الصالحين، ولا ودا بين الطيبين، فهم كما قال تعالى: ” ويبغونها عوجا ”
لا حياة لهم في الأجواء الصافية، ولا عيش لهم في الحياة الهادئة، فكيف يتصيدون الأخبار؟ وكيف يعرفون الأسرار ؟
وكيف يمسكون الزلات؟ وكيف يهدمون القامات، ويمحون التاريخ والثقافات ؟
هم لا يريدون صلاحا، ولا إصلاحا .
العرب قديما – رغم مبادئهم – كانوا يأنفون الاعتذار، ويعدونه منقصة ومهانة، لذلك قل غرض الاعتذار في أشعارهم، فلا تجده إلا قليلا .
إن الاعتذار ثقة في النفس، واعتراف بالذنب، ومرضاة للرب، ورفع للقدر، وعلو للشأن.
لذلك حث عليه ديننا الحنيف، ورغب فيه، ودعا إليه، فعمل على إزالة الأحقاد، ومحو حظ الشيطان من النفوس والأبدان .
وهذا أول المعتذرين منذ بدأ الخليقة، وهو ٱدم عليه السلام حيمنا اعتذر عن معصيته لله تعالى فقال : ” ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ”
وخلفه في ذلك ولده موسى، كليم الله حين قتل نفسا- عن غير قصد- بغير حق فقال : ” ذلك من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ”
وهذا سيد الخلق أجمعين عليه أفضل الصلاة والسلام حين رأى الناس يلقحون النخيل فقال لهم : اتركوه، ففعلوا، ولكن النخل لم يثمر، فقال لهم – صلى الله عليه وسلم – بعدها : أنتم أعلم بشؤون دنياكم ” أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
إن الاعتذار ليس منقصة للرجال، ولا دونية للنساء، بل هو قيمة وفضيلة يتحلى بها العظماء، ويتسم بها الشرفاء، ودليل قوي جلي على نقاء النفس، وسلامة السريرة، وعلو شأن صاحبه عند الناس، وعند خالقه .
هذا بلال بن رباح، وأبو ذر الغفاري يقدمان للبشرية جمعاء أنموذجا لن تجد له مثيلا، ويغرسون بذور العزة والكرامة لكل من جاء بعدهم، وذلك حينما عيّر أبو ذر الغفاري بلال الحبشي، وقال له : يابن السوداء، فشكاه بلال للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له المصطفى – صلى الله عليه وسلم – :يا أبا ذر، إنك امرؤ فيك جاهلية .
فما كان من أبي ذر إلا أن وضع خده على التراب، وقال : لن أرفعه حتى يطئه بلال بقدمه.
تخيل هذا الاعتذار، وعمن صدر ؟
إنهم خير خلق الله تعالى على الإطلاق بعد الرسل والأنبياء.
أما نحن فيملؤنا الكبر من أخمص قدمينا وحتى أم رأسنا، ويستعبدنا الغرور، فنحتقر الناس، ونقول : من هذا حتى أعتذر له ؟
وكأنك سليل المرسلين، أو نبي الله سليمان الذي أوتي ما لم يؤته أحد من العالمين.
وأخيرا أقول لنفسي قبل الٱخرين :
كن أنت الأخير والأفضل، فالخيرية والأفضلية للمبتدئ الذي يبدأ بالسلام، بنص حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ” وخيرهما الذي يبدأ بالسلام “

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى