المزار
فريال قاصم|سوريا
كلما حاولت أن أستيقظ قبل جدتي فشلت، حتى خيل إلي أن مهمة إيقاظ الكون قد أوكلت إليها، يدغدغ أنفي خليط عبق، مزيج مما ينبعث من التراب المبتل، مقروناً بدخان الموقد، مع رائحة الحليب الطازج، فأعلم أني قد فشلت في محاولتي مرة أخرى.
أنهض مسرعةً إلى فناء الدار، أجدها قد رشت رذاذ الماء بعد أن كنسته، وحلبت البقرة، وأوقدت النار لتغلي الحليب.
في ركن تحت الدالية جدي يلف نفسه بعباءته، يتحد أمامه دخان تبغه ببخار الشاي الساخن.
ملامح جدتي صارمة، تتحرك بنشاط، رغم ميلان في مشيتها أصبح واضحا أكثر، سألتها مرة عنه:
– إنه الزمن؛ والعمرله حقه.
ها هي تجلس قرب جدي، تنظرنحوي، تفتح ذراعيها:
– حبيبة جدتها
أعجب كيف تبدلت ملامحها، أصبحت لينة، طيبة القسمات، حنونة النبرة.
أرتمي بين ذراعيها، أتأمل ذلك الوشم البهي على ذقنها، والجمال المشع من عينيها الخضراوين.
– أنت جميلةٌ يا جدتي.
يضحك جدي:
– لو لم تكن أجمل بنات القرية لما تزوجتها
تضمني إليها بحب، ضاحكةً
– هذه الفتاة ذكيةٌ مثلي.
ترمي جدي بنظرة مراوغة، تخرج سكاكر وبعض حبات الجوز تقدمها لي مع قبلة.
لديها مخزن مكافآت لاينضب.
أقدم إحداها إلى جدي، يأخذها ممتنا ويغمز لجدتي.
– هذه الفتاة كريمةٌ مثلي.
بيت جدي جنتي التي أقضي بها العطلة الصيفية، بيتٌ ترابيٌّ واسع، له رائحة لا تشبهها أخرى، أستنشقها بذاكرتي لا بأنفي، يتسلل منه نور خافت يشبه انبعاث الذكريات، بارد في الصيف، دافئ في الشتاء.
تحت شجرة الجوز تدلت أرجوحتي، أجلس فيها، بدفعني جدي النحيل بيديه الواهنتين حتى تعانق ضحكاتي السماء، فأعجب من القوة التي يدفعني بها.
بمر النهار سريعاً، بحلول المساء يحل الزوار، الأعمام والعمات، يعلو الصخب، ينعقد دخان التبغ ممزوجا برائحة الهيل والقرفة.
نتحلق حول الجدة، نستمتع بالحكايات، أرتجف لبعض تفاصيلها، أزعم أنه البرد وأصر أني لا أخاف، ألتصق بها، أمسك طرف ثوبها.
لم يحدث أني سمعت نهاية أي حكابة، كنت أكتشف ذلك صباح اليوم التالي وأنا أحاول تذكر النهاية.
هذا الصباح ظننت أني نجحت بالاستيقاظ قبلها، فلا روائح تعبق بالمكان، ولا سعال جدي أو تمتمة أدعيتها الصباحية.
أسرعت إلى فناء الدار، عمي وعمتي يجلسان واجمين.
أسرعت إلى مطبخ جدتي، ذلك المكان المحظور على الأحفاد الاقتراب منه، تحت طائلة العقوبة، هو ركنها الخاص، مخصص لكل شيء إلا الطهو، البكاء، الدعاء، العبادة.
استرقت النظر، تبكي بحرقة،لم تبد صارمة، خرجت متثاقلة، تحمل ببديها طبقا أوقدت فيه البخور، وأخذت تطوف بالمكان، متجلدة، مرددة:
– يارب أعده سالماً، يارب خذ من عمري وأعطه.
علمت أن جدي مرض و هرع به إلى المستشفى ليلا.
في الشتاء الذي يليه، انتقلت جدتي، للعيش معنا، في منزلنا في المدينة.
لم تعد تهتم بإيقاظ الكون، ولم تعد ملامحها صارمة، حتى حكاياتها لم تعد مخيفة، كلها تدور في منزل ترابي في قرية بعيدة، كان يسكنه رجلٌ طيب.
أقف عند الباب، أقبل الجدار، أدخل برجلي اليمنى.
ابنتي تمسك طرف ثوبي، تقلدني ظنا منها أنه مكان مقدس، هو كذلك بالنسبة لي .
أولسنا من نمنح الأماكن والأشخاص قدسية؟
انتصب مكان البيت الترابي واحد اسمنتي، لم يبق إلا مطبخ جدتي، وشجرة الجوز، مزارا لي.