في تأويل (هذا ربي ؟!!)

أ.د. محروس بريك | أكاديمي مصري بجامعة قطر

يتأوّل بعض الناس قول إبراهيم عليه السلام (هذا ربي) بأنه إخبارٌ منه بربوبية الكوكب ثم القمر ثم الشمس على سبيل الظنّ، فهي رحلة من الشك إلى اليقين – في زعمهم – وهذا تأوُّلٌ غريب في ظني؛ ذلك أن إبراهيم عليه السلام ينفي عن نفسه الشرك قائلاً (وما أنا من المشركين)الأنعام:79، فانظر كيف عبّر القرآن في نفيه الشرك على لسان إبراهيم باستعمال الجملة الاسمية الخالية من عنصر الزمن، ليستغرق النفي جميع الأزمنة، ثم انظر كيف نفى الله تعالى عن إبراهيم الشرك بصيغة الكون المنفي في قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} في خمسة مواضع من القرآن الكريم (البقرة:135، وآل عمران:67، وآل عمران:95، والأنعام:161، والنحل:123)، والكون المنفي الماضي يستغرق جميع الزمن، ومنه قوله تعالى: (وما كان ربُّك نَسِيًّا) مريم: 64، ثم انظر ثالثًا في سياق الآيات الذي يومئ إلى ذلك؛ إذ الآية السابقة هي قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) الأنعام:75، فالله عز وجل أرى إبراهيمَ تلك الآياتِ حُجّةً على قومه، وذلك قوله تعالى بعدها: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ )الأنعام:83 ، يقول البقاعي: “ثم انظر كيف وجّه إبراهيم خطابه إلى قومه بعد أن أفلت الشمس: (قال يا قوم إني بريء مما تشركون)الأنعام:78، فصرح بأن الكلام لهم أجمعين ، ونادى على رؤوس الأشهاد. ولما كانت القلوب قد فرغت بما ألقي من هذا الكلام المعجب للحجة ، وتهيأت لقبول الحق ، ختم الآية بقوله : (إني بريء مما تشركون) أي من هذا وغيره من باب الأولى ، فصرح بالمقصود لأنه لم يبق في المحسوس من العالم العلوي كوكب أكبر من الشمس ولا أنور، فلما أبطل بذلك جميع مذهبهم أظهر التوجه إلى الإله الحق ، وأنه قد انكشف له الصواب بهذا النظر ، والمراد هم ، ولكن سوقه على هذا الوجه أدعى لقبولهم إياه، فقال مستنتجاً عما دل عليه الدليل العقلي في الملكوت: (إني وجهت وجهي) أي أخلصت قصدي غير معرج على شيء أصلاً، فعبر بذلك عن الانقياد التام، لأن من انقاد لشيء أقبل عليه بوجهه ، ودل على كماله وتفرده بالكمال مُبدَعاتُه”. انتهى كلام البقاعي. فالسياق دالٌّ على أن إبراهيم عليه السلام قال ذلك موقنًا مناظِرًا ومحاجًّا لهم، ومنكرًا لاتخاذهم غير الله إلهًا؛ ودليله في كل ذلك أن الله لا يغيب، وتلك الآلهة يعتريها الأفول والغياب، وهذا الأفول أفولٌ قديمٌ معهودٌ مستمرٌّ، وليس أفولا ًحادثًا صادفَه إبراهيم فجأة فتحول من حال إلى حال.

كل أولئك يؤكد أن قول إبراهيم: (هَذَا رَبِّي) في المواطن الثلاثة إنما هو على تقدير حذف أداة الاستفهام الإنكاري، لا على جهة الإخبار.

وهذا كله استدلال من إبراهيم عليه السلام على بطلان عبادتهم للأصنام، ببيان أن الله تعالى لا يغيب أما ما في الأرض والسماء سِواه فيعتريه الأفول؛ فتلكم أصنامكم اعتراها الغياب والأفول بتكسيرها، وقد أقررتم بذلك ثم استكبرتم وعدتم إلى ما أنتم عليه من غي وضلال، وكذا كل معبود غير الله باطلٌ صنمًا كان في الأرض أو كوكبًا ونجمًا في السماء!

إن بيان بطلان اعتقاد هؤلاء القوم بالنظر في السماء والاحتجاج بما فيها على وجود الله- كان ديدنَ إبراهيم عليه السلام، ومن قبلُ حاجّ النمروذَ بأن ينظر في السماء فيأتي بالشمس من المغرب؛ ذلك أن قومه كانوا مُنجّمين فناسبهم في المُحاجّة الإتيانُ بحُجّة من جِنس ما برعوا فيه.

إن كل ما في السماوات والأرض يعتريه الأفول، فهو خلْقٌ ممن خلق الله الواحد الخالق، لذلك كله كان دعاء إبراهيم عليه السلام: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين).

والله تعالى أعلى وأعلم وأحكم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى