عصارة التجارب
أ.د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري
مات أبوه وهو طفل، فعاش مع أمه في فقر شديد، وعندما كبر عمل موظفاً في الحكومة، ثم اعتزل العمل الحكومي، ليمضي بعدها ستة عشر عاماً من عمره يعظ الناس متنقلاً من مدينة إلى مدينة، وقد التف حوله عدد كبير من الناس، ولما بلغ الخمسين عاد إلى العمل في الحكومة، ولكن بعض الحاقدين كادوا له حتى طُرد من الحكومة، فترك لهم البلاد كلها، وأمضى بعد ذلك ثلاثة عشر عاماً مبشراً متجولاً، ثم عاد ليقيم في بلدته خمس سنوات هي ما بقيت له من العمر.
وصف كونفوشيوس بأنه أحد مؤسسي الديانات الكبرى، ولكنه تعبير غير دقيق؛ فمذهبه لم يكن ديناً بالمعنى المعروف، وإنما كان مذهبه طريقة للحياة الخاصة والسلوك الاجتماعي والسياسي، كما أن مذهبه يقوم على الحب؛ حب الناس وحُسن معاملتهم والرقة في الحديث والأدب في الخطاب ونظافة اليد واللسان. كما يقوم مذهبه على احترام الأكبر سناً والأكبر مقاماً وتقديس الأسرة، وطاعة الصغير للكبير وطاعة المرأة لزوجها، وفي الوقت نفسه يكره الظلم والاستبداد. ومن الحكم الشائعة التي اتخذها كونفوشيوس قاعدة لسلوكه؛ تلك الحكمة القديمة الحديثة التي تقول: “أحب لأخيك ما تحبه لنفسك”.
وكان كونفوشيوس محافظاً في نظرته إلى الحياة؛ فهو يرى أن العصر الذهبي للإنسانية يكمن في النظر إلى الماضي، ولذا فقد كان يدعو الناس إلى الحياة فيه، ومن هنا لاقى مذهبه بعض المعارضة التي بلغت حد حرق كتبه وتحريم تعاليمه؛ فقد رأوا فيها نكسة ورِدة إلى الوراء في حين أن الشعوب ينبغي أن تنظر أمامها. ولكن ما لبثت تعاليم كونفوشيوس أن عادت أقوى مما كانت عليه، وانتشر تلاميذه وكهنته في كل مكان، واستمرت فلسفته تتحكم في الحياة الصينية قرابة عشرين قرناً.
وإيمان أهل الصين بفلسفة كونفوشيوس يعود إلى سببين؛ الأول أنه كان صادقاً مخلصاً، وثانياً أنه شخص معقول ومعتدل وعملي، وهذا يتفق مع المزاج الصيني، وهو السبب الأهم في انتشار فلسفته في الصين. فقد كان قريباً منهم، ولم يطلب أن يغيروا حياتهم، فوجدوا أنفسهم في تعاليمه، ولذلك ظلت تعاليمه صينية، ومن ثمّ بلغت اليابان وكوريا. إنها الفلسفة التي حققت سلاماً وأمناً داخلياً لأكثر من عشرين قرناً.
إن جذور الحكمة التي غرسها كونفوشيوس تجاوزت تربة آداب الشعب الصيني، لتمتد إلى الأمم جميعاً، فقد كان لها حضور في وجدان الناس وذاكرتهم الحية، يلجأون إليها في مواقف الحياة وصروف الأيام فيستشهدون بها، ويستشيرونها فيما يواجههم من مواقف وما يعرض لهم من حوادث، بما تحوي من عصارة التجارب ومخزون الخبرات.