كوادر اليسار المتحولون
د. خضر محجز | فلسطين
قليل من الفلسفة، قليل من التأمل، قليل من درس عوامل التحولات: يسأل صديق : لماذا بعد انهيار الشيوعية، ألقى أغلب كوادر اليسار بأنفسهم في أحضان من كانوا أعداءهم؟ والملاحظةُ في سؤال السائل واقعيةٌ، تثبت صدقَها النماذجُ الكثيرة، التي انتقلت من الأحزاب الشيوعية إلى جماعات الـ(N. G. O,s) أو إلى السلطة التي يسميها اليسار «سلطة أوسلو»، بل إن بعض هؤلاء الكوادر اشتغل جاسوساً معلناً، لحساب قوى الاستعمار الغربي، التي كان يحاربها شعارُه من قبل. ولقد قُيِّض لي ـ ذات سفرة يتيمة ـ أن أذهل من رؤيتي لحجم حضور هؤلاء، في دولة تمهر جوازات داخليها بسمات دخول (فيزا) هي شهادة براءة معتمدة لدى إسرائيل. والجواب على السؤال في نظري هو: لقد كان هؤلاء الكوادر اليساريون قادةً مثقفين في تنظيماتهم، يشرحون النظريات المادية، فأمكنهم البروز في تنظيمات صغيرة، أفضل تكويناً وثقافة وأقل عدداً، من تنظيم مفتوح للجميع.
ولو كانوا في تنظيم واسع شعبي، لما اهتم التنظيم لمواهبهم، ولما قدمهم إلى المواقع الأولى: ففي الأحزاب الشعبية الواسعة، يتصارع الأعضاء بالأسنان، على المواقع المتقدمة، وتكون الثقافة والمواهب آخر ما يصلح أداةً في ذلك، اللهم إلا موهبة الغدر. مع مرور الزمن، وتَرَقِّي الكوادر الشيوعية في مناصب الحزب المادي الصغير، الذي يحترم المواهب؛ يزداد إيمانُ الكوادر ـ التي ارتفعت ـ بجدوى ثقافتها، بل يزداد إيمانهم بجوهرهم وذكائهم، وينمو معه داخلهم احتقارٌ للمحيط من حولهم، ممن يستمعون إليهم دون تفكير. هكذا يبدأون بالشعور بالاغتراب في تنظيماتهم، وكذلك يزداد اغترابهم عن المجتمع، ويَتَعَزَّز لديهم الشعور بأنهم «جواهر لا يعرف قيمتها الوطن».
فلما انهارت النظرية الشيوعية في بلاد التطبيق، وعلم الكوادر أن سقوط التطبيق هو سقوط النظرية ـ فالماركسية تجعل التطبيق جزءاً من الدرس النظري ـ فقدوا اتزانهم، وصاروا معلقين في الفضاء، يرون فلسطين من فوق، وقد صارت أجمل، باسمها الجديد «إسرائيل».
وإنما جعلها كذلك قوى الواقع المادي، التي هي إلٰهٌ صامتٌ لا يعلن للناس أنه كذلك. وقبل أن نرصد قفزتهم الكبرى نحو الطرف الآخر، دعونا نتذكر أن الماركسية المادية تؤمن بالواقع، وتراه الأقدر على الشهود لنظريةٍ ما باستحقاق الحياة. وهذه براغماتية مُغَلَّفٌة بورق لامع من الثورية المزيفة. وإلا فالثورية الحقيقية هي تحطيم الواقع لبناء النموذج. انهارت النظرية، فشهد ضدها الواقع، فبدأ الكوادر بالبحث عما شهد له الواقع بالصحة والجدارة.
ولم يكن بحث الكوادر المادية هذا مستقلاً عن عوامل علاقات الإنتاج الدنيوية، لكنهم قد عرفوا ذلك فأنكروه في أعماقهم، لقوة إيمانهم بما يمتلكون من قوة عقلية، يرونها قادرة على فعل المستحيل، أو هكذا يرون عقولهم التي لم يعودوا يؤمنون بشيء سواها. إنهم شُطَّارٌ شطاطيرُ لا يرون غير شطارتهم، بدليل أنهم كانوا كوادرَ في أحزابٍ لم يحبوا أن يلاحظوا أنها صغيرة. ولقد شهد لهم الحزب «العظيم» بأنهم عظماء، حين قدمهم إلى الصفوف الأولى. لكن الحزب لم يعد موجوداً في الواقع الدنيوي، وبقيت موهبتهم التي لم تعد تجد من يشكرها. لقد انهار كل شيء ـ هكذا فكروا بمرارة مدمرة ـ وعليهم الآن أن يبحثوا في سبب الانهيار، فيؤمنوا به: باعتباره الفاعل الأقوى فلسفياً. فلما جاءهم مشترو موهبتهم، من جماعات الـ(N. G. O,s) وقالوا لهم: إنهم سيستعينون بخبرتهم ـ التي يشعرون أن مجتمعاتهم زاهدة فيها ـ قالوا: نعم. قالوا: نعم. وعلموا أنهم فقدوا شرفهم، لكنهم أقنعوا شرفهم ـ الواقف بالباب قبل أن يغادر ـ أنهم سيخدمون وطنهم في المواقع الجيدة.
والحق أنهم حاولوا في البداية أن يخدموا وطنهم، في قلاع أعداء الوطن؛ لكنهم سرعان ما لاحظوا أن الصغار الذين كانوا تحت إمرتهم، سيتفوقون عليهم؛ فبادروا بالرضا عما طُلب منهم، وصاروا يكتبون التقارير، ويرشون ضمائرهم بأن ما لا يظهر في الواقع فليس موجوداً. ونحن لا تظهر تقاريرنا للواقع فهي غير موجودة. لقد بلغ من شطارتهم، أن استطاعوا إقناع أنفسهم، بقدرتهم على خداع مؤسسات التمويل الاستخبارية الكبرى، للدول التي كانت عدوة للوطن، إلى أن صارت الخيانة مقبولة بحكم العشرة، وأقنع القوم ضمائرهم بأنهم «طبقة مثقفة» تبيع بضاعتها لمن يشتري، ولا عيب إلا فيمن لا يستطيع الدفع.
أما انتقالهم إلى «سلطة أوسلو» فكان أسهل، إذ أقنعوا أنفسهم أنهم كانوا في السابق ظالمين لليمين الذي أثبت الواقع أنه الحق. بقي الذين اشتغلوا جواسيس معلنين لدول الغرب، فهؤلاء كانوا أكثر ذكاءً، إذ رأوا أن كلا فريقي جماعات الـ(N. G. O,s) وسلطة أوسلو؛ يقدمون التقارير للعدو. فقالوا لأنفسهم: فلم لا نقدمها نحن بأنفسنا، فننال من بركاتها ما يناله الآخرون؟ وأخيراً، هؤلاء الذين انتقلوا إلى تأييد الإسلام السياسي، أراهم الأكثر توازناً من الباقين ـ أو الأقل ضياعاً ـ لكنهم ضلوا الطريق، فما كان الإسلام السياسي يوماً جزءاً من الحل الوطني. لكن مؤسسة السلطة في رام الله، هي التي قذفتهم في أتون الجحيم، وهي المَلُوْمَةُ وحدها على هذا المصير، منذ قطعت مخصصاتهم المشروعة، ودفعتهم إلى البحث عن بدائل توفر الحياة.