الشخصية وأدوارها في الحياة

أ.د. / رأفت عبد الباسط محمد قابيل | أستاذ علم النفس الاكلينيكي بكلية الآداب بجامعة سوهاج – مصر 

 بداية أود أن أقول إنه لا يوجد إنسان دون أن يكون له شخصية تميزه عن غيره، وهذه حقيقة لا يجب أن تغيب عن الأذهان، وعلى الرغم من هذا كثيراً ما نسمع أو نردد في موقف من المواقف أن هذا الإنسان ليس له شخصية-ولعلنا نقصد من هذا التشبيه أنَ شخصيته ضعيفة.   

فماذا نقصد بالشخصية الضعيفة؟ وما هي الشخصية القوية؟

الشخصية الضعيفة: هي الشخصية غير المؤثرة، وغير الفعالة، هي شخصية سلبية، غير واثقة من نفسها، مترددة، غير قادرة على اتخاذ القرارات، هي شخصية جبانة يملأ الخوف كل كيانها، تتجنب المشكلات، غير قادرة على مواجهاتها، وغير قادرة على تحمل المسؤولية، هي شخصية عاجزة ليس لها أهداف تسعى لتحقيقها، هي مجرد مفعول بها فهي تكتفي فقط بالاستجابة أو رد الفعل، ليست صاحبة مبادرات أو إبداعات، هي تابعه، معتمدة على أن هناك أخر ينوب عنها، ويقوم بدورها.

أما الشخصية القوية: فهي الشخصية التي لا يرتبط حضورها وقوتها بقوة وضخامة البدن وارتفاعه وجمال الهيئة والمظهر بقدر ارتباطها بالفاعلية، والإيجابية، والقدرة على التأثير في الأخرين; فالشخصية القوية هي الشخصية الفعالة، الإيجابية، المؤثرة، صاحبة المبادرات، الواثقة من نفسها، غير المترددة، القادرة على اتخاذ القرارات السريعة والصحيحة، والتعلم من الخبرات السابقة، هي شخصية مقاتلة، لا تتجنب المشكلات، قادرة على مواجهاتها، قادرة على تحمل المسؤولية، هي شخصية طموحة لها أهداف تسعى لتحقيقها.

 

والسؤال الثاني الذي أود أن أطرحه هو: هل الإنسان يمتلك شخصية واحدة أم أنه يمتلك أكثر من شخصية؟

  لو نظرنا إلى الشخصية بوصفها الدور الذي يؤديه الإنسان على خشبة الحياة نستطيع أن ندعي ونقول إن الإنسان يمتلك أكثر من شخصية لكونه يؤدي أكثر من دور في حياته، حيث تشتق كلمة “الشخصية” من كلمة يونانية تسمى برسونا Persona أي القناع الذي كان يرتديه الممثل في العصر اليوناني عندما كان يعتلي خشبة المسرح لكي يؤدي دوراً ما أمام النظارة (الجمهور).

   فالإنسان إذن يمتلك أكثر من شخصية لكونه يؤدى أكثر من دور على خشبة الحياة أمام الأخرين تماماً مثل الممثل اليوناني الذي كان يرتدي أقنعة مختلفةً للقيام بأدوار مختلفة على خشبة المسرح، وامام الجمهور، وقد يكون هذا الدور هو دور المحب العاشق، وقد يكون دور السفاح القاتل، وقد يكون دور الإمام التقي، أو يكون دور البيه البواب، أو السياسي والراقصة، أو دور الأخوة الأعداء … وإلخ، هي أدوار متعددة ومختلفة يمكن للإنسان أن يمارسها ويتناوبها في حياته، وفي اليوم الواحد إلا أننا نجده ينزع ويرغب في اختيار أحد الأدوار التي يرى أنها تحقق إشباعاته وأهدافه سواءً على مستوى الشعور (الوعي) أو على مستوى اللاشعور (اللاوعي) وذلك على النحو الذي سوف نوضحه:

  فهناك من الأشخاص قد نصادفهم في حياتنا يكرسون حياتهم للعب دور “الطيب – المحب “ لجذب اهتمام الأخرين بشكل ايجابي، في محاولات جادة للحصول على الاعتراف، ونيل الرضا، وسماع كلمات الاستحسان، والتقدير والإعجاب من الأخرين، وهذا النوع من البشر نوع هش، وضعيف، واعتمادي، يستمد تقديره لنفسه من الخارج، من الأخرين وليس من نفسه، فسعادته ورضاه مشروطةً برضا الأخرين عليه، فهو تابع  يعيش في جلباب الأخر، لا يتصور حياته بدون هذا الأخر الذي تعلق به سواء كان هذا الأخر: أبوه، أو أمه، أو خوه، أو أخته، أو زوج أو زوجته، أو صديقه، أو رئيسه في العمل… فهو لا يتصور حياته بدون هذا الأخر ولسان حاله يقول ويردد ” أنا من غيرك ولا حاجة “، إنه في حالة أقرب إلى حالة الإدمان أو الاعتمادية، هي حالة من الذوبان والعشق والتعلق، واللامسافات بين الأنا والأخر أو الشريك.

الأمر الذي يجعلنا نسأل أنفسنا ما هو حال أو مصير هذا الإنسان الولهان العاشق المحب بهذه الكيفية لو فقد هذا الأخر الذي تعلق به، والذي لا يتصور حياته بدونه، والذي يستمد إحساسه بنفسه، وقيمة وجوده في الحياة من هذا الأخر واعترافه به؟

   لا شك سيكون مصيره “الوقوع في دائرة الاكتئاب” الذي قد يكون سبباً في فقد حياته، ومن هنا جاء القول ” ومن الحب ما قتل ” إنه في الحقيقة ليس حب وإنما هو تعلق، فالحب الحقيقي لا يصاحبه إطلاقاً ألم، ولا يسبب في وجود ألم، وإنما التعلق هو الذي يسبب الألم والتعاسة والحزن، ويعد شكل من الأشكال المرضية في العلاقات الاجتماعية بين الأنا والأخر، فالمتعلق الولهان يجهل أن قوته تكمن في داخله، في ثقته بنفسه، وتقديره لذاته، ومن ثم فإنه – إنقاذاً لنفسه -يجب عليه أن يدرك سريعاُ قبل فوات الأوان، وقبل الوقوع في المرض” أنه في حد ذاته حاجة، ومع الأخر، وبالأخر حاجتين”، رجاء ألا تنسى أيها العاشق الولهان- حفاظاً على بقاءك واستمراريتك في الحياة- أنك حاجة، وكينونة مستقلة لها احترامها وتقديرها حتى لا تفقد أعز ما تملك وهى ذاتك.

   وهناك صنف أخر نجده في حالة فشله في الحصول على اعتراف من الأخرين، يلجأ إلى لعب دوراً أخر معاكس للدور السابق الذي تحدثنا عنه، وهو دور “الشرير-الضحية” المثير للمشاكل، والاضطرابات، والتوترات، والمشاحنات، ويعد هذا الدور أيضاً محاولة لجذب اهتمام الأخرين ولكن بشكل سلبي، ونجد هذا الدور يمارسه بعض الأطفال بهدف جذب انتباه امهاتهم المشغولين عنهم بأداء أعمال قد تكون ذات قيمة، أو لا تكون ذات أهمية مما يجعل هؤلاء الأطفال يلجاءون إلى لعب هذا الدور المرضى لإجبار الأخر بالاعتراف بوجودهم، والاهتمام بهم، وكأنها رسالة منهم للآباء والأمهات ” أنا أهم من تلك الأعمال التي تشغلكم عنَي ” .

   وجدير بالذكر إن استمرار الوالدين في تعاملهم مع أبنائهم بهذه الكيفية من عدم الاهتمام قد يكون سببا في نشوء شخصيات هستيرية مضطربة يكون أكبر همها، ومبلغ علمها هو جذب انتباه الأخرين، وإغوائهم بشكل مرضي، إنه الإغواء بدون إشباع بهدف الانتقام منهم، ويحدث هذا على مستوى اللاوعي بسبب إهمال الوالدين وعدم اهتمامهم بأطفالهم في الوقت الذي كانوا في أشد الاحتياج لهذا الاهتمام، وتلك الرعاية، إنها المسؤولية يا سادة، انتبهوا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ ومَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، -قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ- وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ”.

   ولا شك أن هذا النمط الشرير- الضحية، وهذا الدور السلبي المثير للمشاكل والتوترات لا يصدر فقط من الأطفال تجاه أباءهم أو أمهاتهم، بل نجده أيضاً لدى الأكبر سناً وعمراً المهمشين أو المولعون بالشهرة وتسليط الضوء عليهم، والمتوقع أن يصدر منهم سلوك انهزامي يجلب الخسارة لأنفسهم وللأخرين، فقد يُقدم أحدهم نفسه “ضحية” بأن يحاول الانتحار لعل تلك المحاولة تجذب انتباه الأخرين له لكي يستمعوا، وينصتوا له، فهذا الشخص على استعداد أن يضحي بحياته التي من المفترض أنها أغلى شيء عنده بسبب أن الأخرين لم يهتموا به، ولم ينل منهم الاعتراف، والاحترام الكافي، وإشباع احتياجاته، وتلبية مطالبه التي يرى أنها أبسط حقوقه، وكأنه يريد أن يبلغ رسالة للناس “بأني إنسان وليس نكرة، فأنا في حاجة إلى اهتمام، واشباع احتياجاتي” وليس في هذا استغراب أو دهشة، وإنما هي الحقيقة التي تشير إلى أن بذرة المرض النفسي هو “شعور الإنسان أنه غير مرغوب فيه” سواء في صغره أو عندما يكبر حيث نجده يشعر بالغربة والهم والحزن.

   وهناك أخرون يقومون بدور (المستقل – القادر) الإيجابي، الفاعل، المؤثر، صاحب المبادرات، الواثق من نفسه، غير المتردد، القادر على اتخاذ القرارات السريعة والصحيحة، والقادر على مواجهة المشكلات، وتحمل المسؤولية، وتحقيق الأهداف، وصاحب هذا الدور يستمد تقديره لذاته من داخله وليس من خارجه، يحب نفسه، وفي نفس الوقت يحب الأخر، لديه قناعة بأنه “لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ“، فشخصية هذا الدور شخصية ليست أنانية أو نرجسية تحب نفسها فقط، فهي تعلم قدر الأخر، وأنها لا تستطيع أن تعيش بدونه، بل يجب عليها أن تقيم علاقة معه ولكن بشرط أن تكون علاقة إيجابية ناضجة، علاقة تكاملية تبادلية، فيها أخذ وعطاء،  فيها أنس ومؤانسة، فهي إذن ليست علاقة من طرف واحد، ولا تسير في تجاه واحد، إنها علاقة تبادلية يتبادل كل طرف فيها العطاء، والاحترام، والرعاية، والاهتمام، وإشباع احتياجات الأخر، إنه الحب الحقيقي الناضج. يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ((سورة الحجرات، 13)

    فقد خلقنا الله لكي نتعارف ونتحاب في الله، لا أن نتناحر ونتصارع ونتقاتل، خلقنا لكي نعمر الأرض، لا أن نحرقها، خلقنا لكي ننشر السلام، لا أن ننشر الدمار، خلقنا وهو غني عنا فهو القائل في الحديث القدسيّ الذي رواه مسلم من حديث أبي ذر وفيه: (يا عبادي لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقي قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئا).

    هذا هو دورنا الحقيقي في الحياة الذي خلقنا من أجله هو أن نتحاب في الله، فالله هو المحبة، ومعياره في الحكم علينا هو الحب، وديننا هو الحب والكره في الله.

   والسؤال الأخير الذي أود أن أطرحه في هذا المقال هو: هل من الممكن أن أُغير أو اُعدل من عاداتي وصفاتي وخاصة لو أدركت أنها تعوق حركة تكيفي في الحياة، ولا تحقق لي السعادة، وحسن العلاقة بالأخر في ضوء أن شخصيتنا ما هي إلا مجموعة من العادات أو الصفات التي اكتسبناها في حياتنا أو ورثناها عبر الجينات من الوالدين أو الأجداد؟ 

   صحيح أننا مشروطين بيئتنا التي تربينا ونشأنا فيها، والتي أثرت فينا، وساهمت في تشكيل شخصيتنا، وأَكسَبتنا صفات وعادات سواءً كانت صحيحة أو خاطئة، حميدة أو سيئة، ولكن ليس معنى هذا أننا نقف عاجزين، أو مكتوفي الأيدي، وقليل الحيلة تجاه تلك الصفات والعادات السيئة التي اكتسبناها من بيئتنا، والتي ثبت لنا أنها تعوق حركة تكيفينا ونجاحنا في الحياة، وتبعد عنا الأصدقاء، وتسبب لنا المشاكل والاضطرابات والتوترات، وإنما علينا أن نسعى إلى تغييرها وتعديلها.  

وجدير بالذكر في هذا الصدد أن كل الصفات والعادات السيئة – مثل قضم الأظافر بالفم أو التدخين أو البخل أو التلفظ بألفاظ سيئة على سبيل المثال – التي اكتسبنها من بيئتنا من الممكن تغيرها وتعديلها باعتبار أن أي صفة أو عادة مادامت مكتسبة فمن الممكن تغيرها بنفس الكيفية التي اكتسبنا بها تلك الصفات والعادات، ولاشك أن هذا الكلام يسعدنا ويكسبنا الأمل في تغيير تلك الصفات والعادات السيئة، وغير التكيفية إلا أن الأمر يحتاج إلى توافر الرغبة مع القدرة على تغيير تلك الصفات والعادات الخاطئة، فالقدرة وحدها لا تكفي مادامت غير مصحوبة برغبة حقيقية للتغيير والتعديل، وأما الصفات الوراثية مثل اعوجاج الأنف، أو لون الشعر والعينين، أو الطول أو القصر، أو لون البشرة… وإلخ فلا يمكن تغيرها، ولا يجب أن نضيع وقت، أو نهدر مال لتغيرها، وإنما علينا أن نتقبلها حيث أن عدم تقبلها سوف يفقدنا السعادة والرضا عن الذات، ويسبب لنا اضطرابات نفسية نحن في غنى عنها.

   وفي الختام لا نقول على الإطلاق أن خير عادة ألا تكون لك عادة، وإنما نصحح ونقول خير عادة ألا تكون لك عادة سيئة تؤذي بها نفسك والأخرين والمجتمع الذي تعيش وتحيا فيه وتنتمي إليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى