المجاملة والمداراة مصيدة لقلوب الناس

د. عادل المراغي | القاهرة

مما لا يخفى على أحد أن الله تعالى خلق الخلق وجعلهم متفاوتين في الطبائع والرغبات، والعقول والقدرات ، وخلق الناس معادن : منهم الثمين النفيس، ومنهم الرخيص الخيس، منهم الصالح ومنهم الطالح .
والمداراة : خفض الجناح للناس، ولين الكلام وترك الإغلاظ لهم في القول ، وقيل هي الملاينة والملاطفة. وأصلها المخاتلة من ( دريت الصيد وأدريته ختلته )، ومنه الدراية وهو العلم في تكلف وحيلة.
ومن الناس من يظن أن مداراة الناس والرفق بهم ضعف في الدين وتمييع ، بينما يظن فريق آخر أن من الرفق بالناس إقرارهم على الباطل، والسكوت عن الأخطاء .
ومعنى مجاملة الناس أي حسن صحبتهم، واحتمال أذاهم، وعدم مجابهتهم بما يكرهون .
كما قال زهير:
ومن لا يصانع في أمور كثيرة
يُضرّس بأنياب ويوطأ بمنسم

والإنسان ذو عوارض نفسية متقلب بين الحب، والبغض، والرضا، والغضب، والاستحسان، والاستهجان ؛ فلو سار على أن يكاشف الناس بكل ما يعرض له من هذه الشؤون في كل وقت وعلى أي حال ؛ لاختل الاجتماع، ولم يحصل التعارف، وانقبضت الأيدي عن التعاون، والأنفس عن التآلف، وأثرت العزلة على الخلطة، فتعطلت المصالح، وبدت البغضاء، فكان من حكمة الله في خلقه أنه هيأ الإنسان لأدب يتحامى به ما يحدث تقاطعاّ، أو يدعو إلى تخاذل، ذلك الأدب هو المداراة والمجاملة.
وخلق المجاملة والمدارة مما يزرع المودة، ويثمر الألفة، ويجمع القلوب النافرة، والعقول الشاردة، والآراء المشتتة، فتتحقق بذا مصالح عامة وخاصة
وفي هذا المعنى يقول أَبوسليْمَان الْخَطَّابِي- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

مَا دُمْت حَيًّا فَدَارِ النَّاسَ كُلَّهُمْ
فَإِنَّمَا أَنْتَ فِي دَارِ الْمُدَارَاةِ
مَنْ يَدْرِدَارَى وَمَنْ لَمْ يَدْرِ سَوْفَ
يُرَى عَمَّا قَلِيلٍ نَدِيمًا لِلنَّدَامَاتِ

وكانت العرب قديما تقول: ” دارهم ما دمت في دارهم وأرضهم ما دمت في أرضهم ،وحيهم مادمت في حيهم ،وجارهم ما دمت جارهم “
وقد جسد هذا المعنى ابن شرف القيرواني في صورة بديعية من الجناس فقال :
إذا رماك الدهر في معشرٍ قد
أجمع الناسُ على بُغضِـــهم
فدارِهم ما دمت في دارِهم
وأرضِهم ما دمت في أرضِـهم

والمداراة ترجع إلى حسن اللقاء، ولين الكلام، وتجنب ما يشعر ببغض أو غضب أو استنكار .

وهناك فرق بين ( المداراة )وهي المجاملة لأمر الدنيا وبين ( المداهنة ) وهى المجاملة علي حساب الدين ، قال القرطبي في الفرق بينهما: ” أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا وهى مباحة وربما استحبت والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا ” .
وقال الغزالي : ” الفرق بين المداراة والمداهنة بالغرض الباعث على الإغضاء ؛ فإن أغضيت لسلامة دينك ولما ترى من إصلاح أخيك بالإغضاء فأنت مدار وإن أغضيت لحظ نفسك واجتلاب شهواتك وسلامة جاهك فأنت مداهن ” .

ومن صور المجاملة والمدارة حديث النبي – صلى الله عليه وسلم- : ” استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا ” .
قال ابن حجر : ” وفي الحديث الندب إلى المداراة لاستمالة النفوس وتألف القلوب وفيه سياسة النساء بأخذ العفو منهن والصبر على عوجهن وأن من رام تقويمهن فإنه الانتفاع بهن مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على معاشه فكأنه قال الاستمتاع بها لا يتم إلا بالصبر عليها ” .
و أبي الدرداء، قال: ” إنا لنكشر في وجوه أقوام ونضحك إليهم، وإن قلوبنا لتلعنهم ” .
وعنه أيضا -رضي الله عنه – قال لزوجته: ” إذا غضبت فرضيني، وإذا غضبت رضيتك فإذا لم نكن هكذا ما أسرع ما نفترق ” .
وقال معاوية -رضي الله عنه- : ” لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، قيل: وكيف؟ قال: لأنهم إن مدوها خليتها، وإن خلوا مددتها ” .
وقال الحسن البصري : ” كانوا يقولون: المداراة نصف العقل، وأنا أقول هي العقل كله ” .
وعنه أيضا: ” المؤمن يداري ولا يماري , ينشر حكمة الله , فإن قبلت حمد الله , وإن ردت حمد الله ” .
وقال ابن الحنفية – رحمه الله تعالى : ” ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بداّ حتى يأتيه الله منه بالفرج أو المخرج ” .
وقال بعضهم : ” ينبغي للعاقل أن يداري زمانه مداراة السابح في الماء الجاري ” .
وعن يحيى بن سعيد قال : قال لي نصر بن يحيى بن أبي كثير : ” من عاشر الناس داراهم ومن داراهم راياهم ” .
وعن يونس قال : بلغني عن ابن عباس، أنه كان يقول: ” النساء خلقن من ضعف، فداروا ضعفهن بالسكوت ” .
وقال أبو يوسف: “خمسة تجب على الناس مداراتهم الملك المسلط والقاضي المتأول والمريض والمرأة والعالم ليقتبس من علمه ” .
وعن وهيب بن الورد قال: ” قلت لوهب بن منبه: إني أريد أن أعتزل الناس، فقال لي: لا بد لك من الناس وللناس منك؛ لك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصما سميعا أعمى بصيرا سكوتا نطوقا ” .

ومما يدل على المجاملة والمداراة ، ماورد عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال صلى الله عليه وسلم : ” ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة. فلما دخل ألان له الكلام. فقلت له: يا رسول الله، قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول. فقال: أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه ” .
أي لأجل قبح فعله وقوله أو لأجل اتقاء فحشه أي مجاوزة الحد الشرعي قولا أو فعلا وهذا أصل في ندب المداراة إذا ترتب عليها دفع ضر أو جلب نفع بخلاف المداهنة فحرام مطلقا إذ هي بذل الدين لصلاح الدنيا ، والمداراة بذل الدنيا لصلاح دين أو دنيا بنحو رفق بجاهل في تعليم وبفاسق في نهي عن منكر وتركه إغلاظ وتألف ونحوها مطلوبة محبوبة إن ترتب عليها نفع فإن لم يترتب عليها نفع بأن لم يتق شره بها كما هو معروف في بعض الأنام فلا تشرع .

ثمرات المجاملة والمداراة

هناك ثمرات عديدة للمجاملة والمداراة منها أنها تزرع الألفة والمودة و تؤلف بين القلوب المتنافرة وتطفئ نيران العداوة بين الناس وهى من صفات المؤمن ، عكس المداهنة فإنها من صفات الخبيث المنافق وهى من مفاتيح قلوب الناس إما بهداية من تداريه أو بكفاية شره وفتح مجالات أوسع للتعامل ،و من ثمرات المجاملة تحقيق السعادة الزوجية و تحقيق السلامة والأمن والطمأنينة للنفس والعصمة من شر الأعداء
وفي هذا المعنى يقول ابن الجوزي: ” من البله أن تبادر عدوا أو حسودا بالمخاصمة؛ وإنما ينبغي إن عرفت حاله أن تظهر له ما يوجب السلامة بينكما، إن اعتذر قبلت، وإن أخذ في الخصومة صفحت، وأريته أن الأمر قريب، ثم تبطن الحذر منه، فلا تثق به في حال، وتتجافاه باطنا، مع إظهار المخالطة في الظاهر ” .
ولله در الشافعى – رحمه الله- حيث قال :
إني أحيي عدوي عند رؤيته
لأدفع الشر عني بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه
كأنه قد حشا قلبي محبات

إن المداراة والمجاملة طريق لإطفاء نيران العداوة, وقلبها إلى صداقة، وفي ذلك يقول الشافعي:-
لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ
أَرَحْتُ نَفْسِي مِنْ هَمِّ الْعَدَاوَاتِ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى