رؤية ابن خلدون الاقتصادية في المقدمة
د. إسلام إسماعيل أبوزيد | كاتب ومؤرخ | مصر
لاشك أن مقدمةَ ابن خلدون جمَعتْ أصناف العلوم والآداب، وطرَقت أغلبَ مجالات المعرفة الإنسانية منها المجال الاقتصادي , وتناول ابن خلدون في رؤيته الاقتصاديّة بالمقدمة تحليلاً منهجياً لآلية عمل الاقتصاد وأهميّة التكنولوجيا، والاختصاصية، والتجارة الخارجية في الفائض الاقتصادي، ودور الحكومة وسياساتها المستقرة في تحقيق زيادة الإنتاج والتوظيف، كما بيّن ابن خلدون مشكلة الضرائب المثلى، والخدمات الحكومية الدنيا، والإطار المؤسّسي للاقتصاد، والحوافز، والقانون، والنظام، والتوقّعات، والإنتاج، ونظرية القيمة، وأصبح ابن خلدون أول اقتصاديّ يقدّم تفسيراً بيولوجياً لتقدّم وتخلّف الأمم، باستخدام لغة الفائض الاقتصادي.
والمعاش عند ابن خلدون هو ابتغاء الرزق، ويكون بطرق عديدة؛ منها: الفلاحة، والصناعة، والتجارة، والجباية، والطرقُ الثلاثة الأُولى طبيعية، والأخيرة غير طبيعية، مثلها مثل الخدمة في أجهزة الدولة، وخدمة الأغنياء، وابتغاء الأموال من الدفائن والكنوز.
1- الفلاحة : هي أقدم وجوه المعاش؛ “لأنها بسيطة وطبيعية فطرية، لا تحتاج إلى نظر ولا علم”، وهي من اختصاص أهل البدو، وتنقسم إلى زراعة وتربية الحيوان الداجن، وهذا التقسيم للفلاحة ما زال قائمًا إلى اليوم، فالزراعة هي الشقُّ الأول والأهم في الفلاحة؛ لأنها سبب للشقِّ الثاني الذي قد يكون مكلِّفًا، خاصة بالنسبة لصغار الفلاحين.
2- الصناعة : هي من أساسيات العمران، ومن شروط تطوُّره وازدهاره.
أ- أقسام الصناعة: قسَّمها ابن خلدون إلى صنائعَ بسيطة تختص بالضروريات، وصنائع مركَّبة تختص بالكماليات، وقسمها من جهة أخرى حسب اختصاصها، فمنها ما يختص بالمعاش؛ كالحياكة والجزارة والنجارة والحدادة وأمثالها، ومنها ما يختص بالأفكار؛ كالوراقة والغناء والشعر وتعليم العلم، ومنها ما يختص بالسياسة؛ كالجندية وأمثالها.
ب- الصناعة والعمران: الصناعة تحتاج لازدهارها للعمران الحضري؛ فكلما اتسع العمران ظهرت الحاجة للصنائع، كما أن رسوخ الصناعة في البلدان مرتبطٌ بطول أمد الحضارة فيها، وبدرجة الطلب عليها، وكلما شارفت الدول على نهايتها انتقصت منها الصنائع.
ت- أمهات الصنائع: ميَّز فيها ابن خلدون بين الضرورية وبين الشريفة بالموضوع؛ فالأولى كالفلاحة والبناء والخياطة والنجارة والحياكة، والثانية كالتوليد والكتابة والوراقة والغناء والطب، وقد فصَّل القول قليلًا في كلِّ هذه الصنائع.
3- التجارة: هي الوجه الثالث للمعاش الطبيعي، وهي “محاولة الكسب بتنمية المال بشراء السلع بالرخص وبيعها بالغلاء”، وقد ذكر ابن خلدون مجموعة من المسائل المرتبطة بالتجارة، منها:
أ- التصدر للتجارة: التجارة بطبيعتها يكثر فيها الغش من البائع والمشتري، وعلى من يتصدَّر للتجارة أن يكون جريئًا صاحبَ منَعةٍ من جاه أو حكم، وإلا خسر تجارته.
ب- نقل السلع: ذكر ابن خلدون أن التاجر الحَذِق ينقل ما تعمُّ الحاجة إليه، ويكون من أوسط سلعته، ومن الأفضل أن يكون النقلُ بعيدًا ليزيد الربح؛ لقلة الناقلين، وكثرة الطالبين.
ت- احتكار السلع: تحدَّث ابن خلدون عن الاحتكار في عدة مواضع، وعمومًا احتكار الأقوات عنده مشؤوم يُنذر بالتلف والخسران، وهو من أشد الظلم وأكثر أسباب زوال الدول إن كان من السلطان وحاشيته.
ث- الأسواق: تتأثر الأسواق بالعمران واتساعه كثرةً وقلةً، نشاطًا وكسادًا؛ لأن مع اتساع العمران اتساع الحاجات، ومنه اتساع سائر وجوه المعاش، ومنها التجارة في الأسواق التي تضم الضروريات والحاجيات والكماليات من السلع.
ج- الأسعار: أسعار السلع مرتبط باتساع الدولة وانبساطها، فكلما اتسعت رخُصت الضروريات وغلَت الكماليات، ولا يُفسد هذه القاعدةَ إلا القحطُ والاحتكار، هذه النظرية هي عين ما يقوله الاقتصاد الحديث، أما أسعار اليد العاملة، فترتفع في الحواضر المعمورة؛ لارتفاع دخل السكان وأنفتهم من مزاولة العمل بأيديهم بذخًا وترفًا.
ح- تجارة السلطان: يرى ابن خلدون أن تجارة السلطان مضرة بالرعية، مفسدة لأموال الدولة؛ وذلك لأنه يضايق صغار التجار برأسماله الكثير، فيبيع ويشتري بما يشاء ويبخس سلع غيره، ثم إن السلطان قلَّما يدفع مكوسًا فتفرغ بذلك خزينة الدولة، وإن تجارة السلطان تنغِّص على الفلاحين والتجار، فيتركون فلاحتهم وتجارتهم، وهم أكثر من يدفع الجباية ويملأ خزائن الدولة، “فإذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة، وقعد التجار عن التجارة، ذهبت الجباية جملةً، أو دخلها النقص المتفاحش”.
4- الجباية: هي الضريبة بكل أشكالها، وهي من أهم مداخيل الدولة، وقد تحدَّث ابنُ خلدون عن مجموعة من المسائل المرتبطة بها وبالأموال عمومًا، ومنها:
أ- ديوان الأعمال والجبايات: يقوم على أعمال الجبايات وحفظ حقوق الدولة في الداخل والخارج، ويحصي الموظفين ويصرف رواتبهم، والديوان يطلق على الكِتاب الذي تسجَّل فيه المعلومات، كما يطلق على مجلس الموظفين، وأول من وضع الدواوين في الإسلام هو عمر الفاروق رضي الله عنه.
ب- السكة: “هي النظر في النقود المتعامَل بها بين الناس وحفظها مما يداخلها من الغش أو النقص”، وكانت النقود تُسك وتُختم بطابع من حديد تنقش فيه كلمات أو صور.
وصفوة القول إن الاقتصاد عند ابن خلدون يقوم على دراية واطلاع، وتتبُّع وتجربة طويلة، مع إدامة النظر والتفكير والتحليل، ومن أهم ملامح النظرية الاقتصادية عند ابن خلدون تقسيمه للمعاش (الاقتصاد) كما نقسِّمه اليوم إلى فلاحة وصناعة وتجارة وضرائب، وهذه الأخيرة وجه من وجوه اقتصاد الدولة، وقد ربط بين تطوُّر الدولة وزيادة الضرائب، وأكد أن تدخُّلَ الدولة في الاقتصاد يؤدي غالبًا إلى الظلم، وأشار إلى أن الانتقال من البداوة إلى الحضارة هو انتقال من الفلاحة إلى الصناعة، التي يرى ابن خلدون أنها أساس العمران؛ لأنها تدخل في باقي القطاعات: (الفلاحة والتجارة).