قراءة في رواية الأديبة بشرى أبو شرار( من هنا .. وهناك )

وليدة محمد عنتابي | سوريا

_ من أدماني فراقه … أبي

من قتلته كلماته …ماجد

من قتلته رسوماته … ناجي العلي 

بهذه الكلمات المدماة  سكبت (بشرى أبو شرار ) لوعتها الحارقة في صيغة إهداء تصدّر روايتها : من هنا  وهناك  .

في حبكة روائية غير نمطية سلسلت الساردة أحداث روايتها المقتطفة  من بستان الذاكرة , والتي شكل فيها عنوان الرواية تشظي الشعب الفلسطيني  بين وطنه السليب وبين مهجره  , حيث تتوزع الروح بين قطبي رحى مأساة كبرى أطبقت على الجسد المستلب  في تدوير ماحق لهويته  ماسخ  لكينونته .

من هنا وهناك سيرورة تداعيات لأحداث يأخذ فيها الحدث بيد الحدث   , لتتجلى تلك النفس الغارقة في شجون وشؤون أثقلت كاهلها وأطبقت على أنفاسها , فبات تحملها فوق قدرتها التي أنهكها التجوال  والشتات .

تتسربل الرواية  بالحلم الذي يلقي ظلالا من الأمل بأن يوما ما لابد أن يتحقق فيه الحق وتعود المياه إلى مجاريها صافية نقية وقد تطهرت من أدران وأحزان طال زمن ركودها حتى باتت كابوساً مميتاً .

يمثل الموت في هذه الرواية مصدر لوعة لا شفاء منها , ففي موت الأب كسر لعمودها الفقري , وتشظٍ لبقايا أمان أتتْ عليه الغربة في بلاد مهما تبدّت لها مفاتنها وطيب أهلها , يبقى الوطن الموئل الأهم والأكثر أمانا .

بينما يمثل لها موت أخيها ماجد الحدث المشتعل أسفاً وحزناً أعمق من كل أحزان الأرض  ذلك الحدث الفاجع , متمثلاً بذروة العمل الفدائي الذي

هو الوجه الحركي للقضية الفلسطينية في عمق المقاومة وأساسها .

أما موت ناجي العلي الباحث عن حنظلة بين ركام الدم والحجارة وأسن النفوس المتوحشة , فقد أخذ أهميته لدى الساردة من كونه تلك الريشة المصورة والكاشفة الفاضحة لكل ظلم وعدوان .

تتوقد رغبة جميلة بطلة الرواية في اقتناء أمهات الكتب والروايات الأدبية  وقراءتها, بشغف يوازي شغفها بكتابة الرواية التي هي امتداد لكينونتها وتأكيد لوجودها وتوثيق لمجريات حياتها وحياة شعب بأكمله .

في تعرفها على أدباء مصر وحضورها لملتقيات وندوات ثقافية وأدبية , تظهر لنا : بشرى أبو شرار من خلال شخصية جميلة الفتاة الصبية والأم الناضجة الأمومة والمرأة المثقفة المبدعة , أنها إلى جانب أخيها الرجل  وجه فلسطين الثقافي الإبداعي , رغم مآسي الشتات ولوعة الفقد وغياب الأمن في وطن بات محرماً على أبنائه .

بدموع من نمير القلب تذرفها على حافة حنينها وحزنها اللانهائي , تتوقد الكلمات جمراً من تنور الذاكرة لتطلق شررها في فضاء  الرواية :

_( من خلف المدى وبطول الغياب تحفظ جميلة كلمات ماجد من قصته ” حكاية الرحيل “

” كانت لي مدينة لها بحر تنام فيه الشمس كل مساء …. كانت لها أبنية متواضعة تأخذ مكانها تحت السماء الزرقاء , فلا تتطاول لتنطح السماء بحجارتها وأعمدتها …. حول مدينتي كانت مزارع , ومنذ الأزل كانت تلال رمل لها لون أشقر …. حول مدينتي كانت تتناثر بيارات برتقال , لثمارها مذاق منعش , ولأزهارها رائحة عطرة , كان لنا في مدينتي بيت يقوم عن آخر انحدار التل الرملي الأشقر الذي كان يحرس المدخل الشرقي لمدينتي ….. “

تسقط دمعة تلسع بياض العين وحكاية رحيل توجع قلب جميلة , حين ينهي ماجد حكايته قائلا :

” لا زلت أروي كل يوم حكاية الغرب …. وأغصان شجرة الجوافة لا زالت حطبا يتقصف في قلبي …. تلة الرمل الشقراء لا زالت تنهال على جسدي المحطم كل لحظة فتخنقني ” عطاف ” الميتة لم تزرع ما يؤكل …. وشمس مدينتي لا زالت نائمة في البحر …. “) .

تنهي الأديبة روايتها التي اتخذت أسلوباً كتابياً سلساً شفافاً بلغة رشيقة معاصرة , في سياق أدبي مشوق لمتابعتها وتقصّي أحداثها , والوصول إلى مراميها ومقاصدها . بتدوير عنوان الرواية : هنا وهناك , كما ابتدأت به روايتها , وكأني بها جعلت من روايتها بهذ الالتفاف المحبب دائرة عود على بدء , دون أن تشعر القارئ بشكل مباشر أن النهاية  هنا قد تكون البداية هناك  .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى