يا يحيى خذ الكتاب بقوة!

د. أحمد الطباخ
ما اعتنت أمة بالكتاب إلا قادت وسادت وبلغت ذرا المجد وتملكت وصارت مضرب الأمثال في القديم والحديث والكتاب هو منبع العلوم ومصدر المعارف وأساس العمران والرائد الذي لا يكذب والصاحب الذي لا يمل والصديق الوفي الذي تبثه لواعجك وأشواقك وهمومك وأشجانك فلا يخبر أحدا وإنما خير كاتم لكل سر وأفضل منصت لكل شاكي ومن يعينك على فهم الحياة وسرها الدفين ويعطيك دون ثمن ولا يضيع عليك وقتك في القيل والقال وإنما كلما تدبرت ما فيه نفحك من خيره وجواهره وقلائده ما يزيدك ثقافة وبلاغة وفصاحة .
الكتاب تلك الكلمة الساحرة والحروف النيرة والذي ورد في كتاب الله ومن قبله كتب الله كتابا وضعه فوق عرشه وسمى كتبه المقدسة التي أنزلها على أنبيائه ورسله وأمرهم أن يأخذوها بقوة لأنها تحتاج إلى أولي العزم من الرجال الذن يحملونها نورا وهداية للخلق فالكتاب قدس الأقداس ورح الأرواح وبلسم النفوس وراحة القلوب وسر الأسرار الذي أقسم به رب العالمين وقدسه وجعله مصونا محفوظا فذلك. الكتاب لا ريب فيه وأمر سيدنا يحيي أن يأخذ الكتاب بقوة وذلك لأنه أساس كل شيء وأصل كل علم ومحور كل محتوى فقد أقسم الله به في كتابه فقال تعالى :” والطور وكتاب مسطور في رق منثور “.
عرفته الأمم الغابرة والحضارات السابقة وقرأته البشرية الحائرة فدونت فيه أخبارها وسجلت فيه معارفها وخطت فيه كل ما عن لها من علم وفن فهو السفر الذي جمع فأوعى وقبل وسائل الاتصال كان الكتاب هو كل شيء وحلم كل طالب وزاد كل متعلم وقد علم رب العباد الناس كيف يكتبون ويقرأون ويفتتحون كتبهم بطريقة فريدة ومنهجية علمية أخذت بالجنان حيث افتتح الله كتابه بفاتحة الكتاب فصارت طريقة كل كاتب أن يبدأ بالحمد والمقدمة الضافية التي تجمع في عبارات مختصرة وألفاظ موجزة ما اشتمل عليه الكتاب من قضايا وهموم فالكتاب من عنوانه والكاتب من سطوره وأسلوبه .
وما قصرت أمة في الاهتمام بالكتاب إلا أصابها الخمول واشتملها الفشل ودب فيها الوهن والهزال وتأخرت في ذيل الأمم إذ هو زاد العقول الذي منه تغترف والورد الصافي الذي منه ترد والنهر الجاري الذي منه ترتوي وعنوان أمجادها وقمين سؤددها وأصل شجرتها الوارفة الظلال فلا كتاب بعد كتاب الله فهو الكتاب الذي مثالا في الكمال والجلال والٱية القاطعة في الفصاحة والبلاغة والبيان والنبع الفياض من العلوم والمعارف والتاريخ الذي دون الله فيه ٱثار السابقين وسير السالفين من الأمم الفانية في أطوارها ما قبل نوح في طوفانه وما بعده من طور جديد شاهدة وناطقة بالحق والصدق ليكون عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
يظن الجهال أنهم يستطيعون أن يجففوا المنابع عندما يمنعوا فيضيقوا على المؤلفين في التأليف والكتابة ويحولوا بين الكتاب وعشاقه حتى ينشروا الجهل ويؤسسوا للتغييب ويشغلوهم بلقمة العيش فلا يحرصوا على تشجيع العلماء أن ينشروا علمهم ويعلموا الناس الخير ويضيقوا عليهم حتى ينتشر الجهل ويعم فيحكمون سيطرتهم ويستغلون حالة الجهل المتفشية في أوساطهم بأنه لم يعد أمثال العقاد والمازني وشكري والمنفلوطي والرافعي وطه حسين وسليم البشري وغيرهم من هذا الجيل من الكتاب الذين صنعوا نهضة ثقافية واقدحوا زناد أفكار أسهمت في وعي حفظ الأوطان من حملات السم الزعاف الذي كان الغرب يحرص على تصديره إلى شبابنا لصياغة عقول ضالة لا تعرف عن حضارتها وأصالتها شيئا .
القوة الحقيقية ليست هي العسكرية ولا الجسدية وإنما هي قوة العقول ورزانة الفكرة وعمق الفلسفة الحياتية والعيش وفق رؤية ثقافية تسمو بالوجدان وتعلو بالمشاعر والغرائز وإلا تحولت تلك الإنسانية إلى وحوش كاسرة وٱلالات جامدة وكائنات لا تمت للإنسان بأي صلة همها غريزتها وهدفها شهواتها فلا تفكر او تخطط أو تسهم في البناء والتعمير وإنما تكون معوال هدم وحجؤ عثرة في طريق التقدم المنشود والوعي المأمول .