جيل العصا والفلقة

أحمد برقاوي | كاتب فلسطيني

كان المعلم يقتني دائماً عصا لمعاقبة التلاميذ الأطفال لأي تصرف يصدر عنهم ولا يستسيغه،وكان يقتني ما يسميه القرويون قضيب رمان،وهو غصن رفيع من شجر الرمان،وينهال على أكف المشاغبين، الذين كتب أسماءهم العريف في غياب المعلم عن الصف،أو على أكف من يعتبرهم كسالى.وإذا أراد أن يزيد الألم كثيرا فإنه يضرب التلميذ بالعصا على ظهر كفه.

مدرس في المرحلة الثانوية لمادة الفيزياء والكيمياء،كان يخرج التلميذ إلى أمام السبورة،ويطلب منه أن يكتب معادلة،أو أن يجيب عن السؤال.وإذا لم يعرف ينهال عليه باللطم على خديه،وحصل أن سال دم أحد التلاميذ من أذنه من شدة اللطمات. 

كان الوقت عصرًا،ومجموعة من أصحاب البيدر والجيران والأطفال يجلسون على كديس القمح،جاءت بصارة من الغجر تضرب بالودع،سألت الأب ما اسمك؟فأجابها باسم غير اسمه،ونطق ابنه بعفوية اسمه الحقيقي،وظل الأب يضرب الأبن حتى غاب عن الوعي،دون أن ينبري أحد من الجالسين على حمايته.

هددته أمه من النافذة المطلة على الشارع،أنها ستريه ماذا ستفعل به بعد أن يدخل البيت،انتهى من اللعب مع الأطفال،وهجم الليل ،وانتظر عند النافذة من الخارج،وحين أيقن بأن أمه قد نامت،تسلل إلى البيت،وكان الجوع قد نال منه،أشعل (البابور-البريموس).ووضع عليه إبريق الشاي،خالطاً السكر بالماء،وكان في عجلة من أمرة،خوفاً من أن تستيقظ أمه،لأن العقوبة التي تنتظره هي العض دون رحمة.

راح يدفع (الكاز)في البابور لتتقد ناره أكثر،لم يدر بأن الماء الممزوج في السكر قد راح يغلي،ودون أن ينتبه سقط إبريق الشاري على رجليه،احترقت إحدى الرجلين، وانسلخ الجلد عن اللحم،وظل شهرًا  لا يقوى على المشي.لم ينج أحد من عضات الأم التي تحب أولادها الذكور،وتكره ابنتها مشلولة اليد ،كرهاً يزيد من عقوبتها حد اللامعقول.

حصل أن ذهب مع أبيه إلى لبنان لزيارة الأقرباء في عين الحلوة،وفي طريق العودة توقف الأب في شتورا كي يشتري بعضاً من اللباس،اشترى عشرة قمصان،ومثلها من البناطيل ،والأحذية،ابنه الطفل ينتظر أن يشتري له الأب لباساً ما،لكنه لم يفعل،وحين رجاه أن يشتري له قميصاً،نهره بعنف لفظي،وأجابه لم يعد لدي مال.هو الآن ،على وشك أن يصبح جداً،ومازال يروي الحادثة كأنها حدثت للتو.

الصقيع يجتاح القرية في شتاء قاسٍ،لم تكن هناك وسائل تدفئة تقي التلاميذ شر البرد،ولم يتعرفوا بعد على لبس (الجرابات). لحماية الأقدام من الصقيع،وفي اجتماع الصباح لتحية العلم،أُخرج بعض التلاميذ الذين لا تتجاوز أعمارهم التاسعة من العمر،أو أقل وعوقبوا بالفلقة أمام حشد التلاميذ الذين ينفخون على أيديهم لتدفئة أصابعهم ببخار الفم.

هذه حالات من عقوبة الجسد التي كان تنالها أجيال وأجيال على امتداد زمن طويل،ومازال بعضها مستمراً حتى الآن. وأنا شاهد عيان عليها. ناهيك عن العنف المعنوي واللفظي.

لكن الفلقة كانت عقوبة مدرسية،يتعرض لها التلميذ الطفل  المشاغب والكسول.والكسول هو الذي جاء إلى الصف صباحاً دون أن يكتب ما يسمى الوظيفة.أو الذي طلب منه المعلم أن يستظهر القصيدة أو الآية ولَم  يستطع.أو من استدعاه المعلم إلى السبورة لحل مسألة حسابية وفشل ،وقس على ذلك.

الفلقة في المعجم،لمن لا يعلم، هي الخشبة.ثم صارت تعني في المدرسة عقوبة الضرب بالعصا على قفا القدمين.كانت العقوبات المدرسية في المرحلة الإبتدائية تتسلسل وفق درجة الجريمة وسادية المعلمة أو المعلم .فهناك الجزاء ،والجزاء لا يعني سوى كتابة درس القراءة أو النشيد من عشرة إلى عشرين مرة.وهذا جزاء خفيف لا ينال من كرامة التلميذ.تليه عقوبة الوقوف على رجلٍ واحدة ووجهك إلى الحائط لفترة من الزمن .ثم تأتي عقوبة الصفعة من قبل المعلم ، على الوجه وغالباً تتم دون توقع وأنت جالس في المقعد .والأقسى منها عقوبة الضرب على الأكف بعصا مصنوعة لهذا الهدف ،وإذا كان المعلم عنفياً جهز عطا رفيعة لإحداث ألم أشد ،ويتراوح عدد الضربات من معلم متخلف إلى آخر ،وتبعاً لدرجة غضب المعلم وذنب الطالب.

ثم تأتي الفلقة  .والفلقة هي أقسى العقوبات المدرسية في المرحلة الإبتدائية وغالباً ما تُماس هذه العقوبة بحق تلاميذ الإعدادية .وتٌلغى في المرحلة الثانوية،ولكن المدرس في المرحلتين الإعدادية والثانوية يحتفظ بالضرب على الوجه بالكف.

قبل أن أتوقف عند الفلقة ،أود أن أشير إلى أن المعلمين كانوا أشد قسوة من المعلمات في تنفيذ العقوبات. وتعود شهرة المعلمين في القرية لا إلى الكفاءة في التعليم و التربية،بل إلى القسوة والعنف اللتين يتمتع بهما.

وكان أهل القرية يحترمون المعلم القاسي على أبنائهم.بل ويطلبون من المدير مزيداً من القسوة على التلاميذ ،اعتقاداً منهم بأن القسوة تصنع من التلميذ رجلاً.ولهذا كانوا يأخذون على مدرسة نوى للبنات،وهي مدرسة مختلطة ،و التي كانت والدتي مديرتها ،بأنها مدرسة ليس فيها الحد الأقصى من العقوبات القاسية التي تصنع الرجال.مع ان القسوة كانت حاضرة في هذه المدرسة ،ولما كنا نحن أبناء المديرة وبناتها  فلم تمارس بحقنا أية عقوبة جسدية إطلاقاً.وكانت المعلمة تشكوني إلى والدتي التي لم تكترث غالباً بشكواها.والحق إن ظاهرة التمايز في الحق والأعراف والتقاليد بين أبناء المسؤولين وعامة الناس ذهنية متأصلة في عالم العرب.وهي التي تفسر فجور أبناء الحكام وبطانتهم وأقاربهم،وعلى الرغم بأنا لَم تحصل على اعتراف العامة غير أنها -أي العامة -تأخذها بعين الإعتبار في سلوكها مع أبناء مالكي السلطة.

أعود لعقوبة الفلقة لأفض ماهيتها.ماذا تعني الفلقة عقوبةً؟إن الفلقة ما كانت تتم إلا في مجتمع ذي ذهنية تجيز عقوبة الجسد.فلم يكن أهل القرية يعترضون على عقوبة أبنائم بهذه الطريقة أو بأي طريقة أخرى.

فالأهل أنفسهم كانوا يعاقبون جسد الأبناء بالضرب،والضرب المبرح أحياناً دون رأفة بالطفولة.فسلطة الأب والأم تقوم على حقهم في الضرب.فيكون الرادع للسلوك غير المرغوب لدى الأبناء الخوف من العقوبة الجسدية.

تتكون بنية الفلقة من العناصر المتشابكة التالية:الذهنية المؤسِسة،المعلم وعصاه،التلميذ المعاقَب،زملاء التلميذ الذين يساعدون المعلم في رفع رجلي زميلهم.

لا شك إن المعلم ،هنا في هذه البنية،ذو نزعة سادية ،فضرب جسد طفل وفِي أي مكان من جسده،لا تتم إلا إذا كان الضارب ذا نزعة سادية.فالمعلم هنا ليس في حالة غضب وثورة،وليس في حالة ثأر وانتقام،إنه في حالة المتعة والتلذذ بممارسة العنف وسماع صراخ الطفل وبكائه.إن العصا بيده تنهال على قدمي الطفل دون أن يعرف متى تنتهي مدة العقوبة.المعلم لم يكتف بممارسة سلطة المعرفة،بل ربما لم يعترف بها من حيث هي سلطة.فالسلطة الحقيقية هي ممارسة العنف الجسدي ضد الطفل.

التلميذ المعاقَب ينزل عن كرسي الفلقة  يبكي من شدة الألم ،يعود إلى مقعده شبه فاقد للوعي،مجروح الكرامة أمام زملائه،الذين غالباً لا يشاركونه شعوره بالألم والإهانة النفسية.إنه الآن يكره المدرسة ويكره المعلم ويحقد عليه،المعلم بالنسبة له سلطة عنف وليس سلطة معرفة.الطفل هذا أعزل تماماً،فسلطة الأب لا تكترث بسادية المعلم،فالأب يعترف بأن العنف وسيلة تربية،ولا يخطر على باله بأن العنف هو وسيلة ترويض وإخضاع وسلب الكرامة من الطفل.طفل الفلقة هذا تكون في طقوس العنف،ولَم يعد العنف أمراً غريباً عليه،طفل الفلقة سيرث من المعلم السادي صفتين:ممارسة العنف إذا توافرت له الشروط،وعدم الإكتراث بكرامة الآخر،إنه وقد فقد كرامته لم تعد كرامة الآخر تعني له شيئاً.

أما التلاميذ الذين حملهم المعلم السادي على رفع رجلي زميلهم فقد تصرفوا ،أيضاً وفق العنف الذي مورس عليهم،إنهم يلعبون مع زميلهم في الحارة ،أو في باحة المدرسة ،وقد يكون بعضهم جالس إلى جانبه ،وها هم يشاركون الأستاذ في ممارسة الإهانة الجسدية.لقد نيل من قيمة الوفاء والحب لصديقهم،ولم يشعروا بتأنيب ضمير،طالما أنهم تصرفوا وفق أمر المعلم.إن عدم شعورهم بالذنب مقدمة للإطاحة بالقيم المعشرية،والطفل المعاقَب في قرارة نفسه،ينتظر اللحظة التي يقوم بها بالمهمة التي  قاموا بها .

سيكبر جيل الفلقة،جيل من الغباء العاطفي،فالبنية اللاشعورية القارة في أعماقه هي بنية الفلقة.

جيل الفلقة هذه،وبخاصة من الأصول الريفية،حيث ممارسة هذا العنف أزيد منه في المدينة،سيدخل جزء منه إلى الكليات العسكرية،ضباط وصف ضباط وعساكر وهو يحتفظ بذهنية الفلقة وبنيتها.تحتفظ الكليات العسكرية ومدارسها بطقوس العنف الجسدي وذهنيته،من العقوبات الجسدية الجماعية في الكلية العسكرية إلى العقوبة الفردية،من عقوبة الضابط الأعلى رتبة على الأقل فالأقل،وممارسة ضرب الضباط للجنود لا رادع لها.

لكن هؤلاء لا يكتفون بممارسة العنف داخل مؤسساتهم العسكرية،بل لديهم فائض من السلطة وفضلات من القوة لممارسة العنف على المجتمع المدني ،الذي لا يمتلك أي قوة موازية ،وبخاصة في دولة تطيح بالقانون المدني.

وكانت الكارثة،بل كارثة الكوارث،أن وصل جيل الفلقة من العسكريين إلى السلطة الحاكمة.يقف على رأس السلطة الحاكمة المعلم السادي،ووراءه عصبية سادية تتوق لممارسة طقوس الفلقة على البشر.العسكريون القرويون من جيل الفلقة يتميزون بالعنف الخالي من الكرامة الذاتية،فهم لا يمارسون العنف دفاعا عن كرامتهم أو كرامة الوطن الذي يحكمونه، بل دفاعاً عن امتلاكهم للعنف بوصفة القوة القادرة على فعل ما تريد.حتى الفساد العلني ليس سوى مظهر من مظاهر القوة.فالإطاحة بالقوانين والأعراف والتقاليد والقيم النبيلة تتم تأسيساً على قوة تنفي سلطة الآخر المعنوية، تلغيه من الوجود.

تخلط لدى جيل الفلقة من المجتمع النظرة إلى عسكريي الفلقة بين الخوف والأعجاب.الخوف من القوة ،والإعجاب بالقوة.فأجيال الفلقة ليست تلك التي شاهدت الفلقة واختبرتها في المدرسة،وإنما الأسرة هي الأخرى أسرة الفلقة.

وهكذا تكونت البنية النفسية لجيل الفلقة من خليط معقد من المشاعر المتناقضة:المشاعر العنفية ،ومشاعر الخنوع،ومشاعر الحقد،والإنتقام ،ومشاعر الألم ،ومشاعر التبجيل،وتقدس القوة.كما تكونت،عند بعضهم مشاعر رد الفعل على طقوس العنف بالعطف والحنان والحب وتجنب العنف.

يا لها من أجيال عاشت في حقل الغباء العاطفي وطقوس المعاقبة للجسد؟إن جيل الفلقة هو ذاته جيل الهزيمة المصطلح الذي اختاره  بشير العظمة عنواناً لكتاب سيرته الذاتية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى