الطفل المعجزة

أ.د. محمد سعيد حسب النبي| أكاديمي مصري
حفظ القرآن وهو في العاشرة من عمره، وبدأ دراسة الطب في الثالثة عشرة، وعالج المرضى في السادسة عشرة، وفي مراهقته أنقذ حياة الحاكم الساماني نوح بن منصور. استهوته المخطوطات ورائحة الكتب وجلودها، والورق والحبر وكل ألوان المعرفة، والتي أسهمت في تأسيس مستقبل علمي من مؤلفاته التي دارت حول الطب والفلسفة، وقد بلغت جميعها نحو ثلاثمائة مؤلَف كامل.. إنه الطبيب المتفرد أبو علي الحسين بن سينا.
لم تكن حياة ابن سينا عامرة بالهدوء؛ فقد تعرض لبعض المنغصات ولا سيما بعد أن قامت عصبة من الأتراك بالتآمر على رعاته السامانيين؛ فأحرقوا المكتبة الملكية ومخطوطاتها كما تحرق القمامة، فألجأه ذلك لأن يعيش سنوات من التخفي والتنكر والهروب طامعاً في أن يقتنص حياته الوادعة، باحثاً عن عمل مستقر ونوع من السلام والراحة ومكتبة علمية لائقة.
وبعد فترة من الزمن انتهت بعض مشاكله ليتفرغ لعمله في فك لغز المعرفة بجسد الإنسان والحياة، ولقد انشغل بذلك تمام الانشغال ليحيا بين عالمين؛ عالم البقاء المادي، وعالم العقل الخالص، مؤمناً بعدم تسليم العقل لموروث ما لم يعاد النظر فيه.
لقد كانت أعظم إنجازات ابن سينا كتابين هما كتاب القانون في الطب وكتاب الشفاء، حيث بنى فيهما الهيكل العلمي الرسمي للطب، وقد تُرجما ونُوقشا على نطاق واسع ليس فقط في العالم الإسلامي، ولكن أيضاً في أوروبا العصور الوسطى.
لقد كانت عبقرية ابن سينا في أنه حوّل الجسم البشري إلى شيء من الممكن فهمه مثل أية ظاهرة مادية أخرى، وذلك بتتبع أحواله والعوامل السببية التي تؤدي إلى حالات صحية أو مرضية أو اعتلالية، ولقد كشف ابن سينا عن أكثر من سبعمائة نوع من الدواء، وتناول الأمراض التي تنتشر عبر المياه والتربة، واقترح علاجاً لعدد من الأمراض المستعصية في زمانه.
سبر ابن سينا أغوار أجزاء العين المتعددة من قرنية وحدقية وشبكية، والخلط المائي والعصب البصري وغيرها من الأجزاء الأكثر سرية وبُعداً في العين. كما وضع قواعد علمية تجريبية لاختبار أثر الأدوية وتجريبها في علاج بعض الحالات المرضية، تلك القواعد التي ستكون بمثابة حجر الزاوية لتجارب الأدوية الإكلينيكية بعد مرور تسعمائة عام.
كما عرف مدى ارتباط معدل نبض المريض مع المحفزات الخارجية مثل بعض الكلمات أو الحقائق، فقد عُرض عليه شاب مصاب بالحمى، وعجز الأطباء عن علاجه، فوضع ابن سينا يده على موضع النبض من يد ذلك الشاب، وسأل جارية كانت إلى جواره عن أحياء أصفهان حيث كان يعيش هذا الشاب، فبدأت الجارية بذكر هذه الأحياء، وما أن وصلت لحي بعينه حتى تسارعت نبضات قلب الشاب، فقال لها اذكري بيوت هذا الحي، فأخذت في تعداد بيوتات هذا الحي حتى وصلت لبيت بعينه، فتسارع نبض هذا الشاب، ثم قال لها اذكريمن تعرفين من بنات هذا البيت فبدأت بذكر أسمائهن حتى بلغت فتاة بعينها فتسارعت ضربات نبض الشاب ولم تهدأ، فقال لأهله إن ابنكم عاشق فزوجوه. وهو بذلك سبق بألف عام نظرية تأثير الكلمات في عملية التحليل النفسي التي أرساها فرويد وكارل يونج.
ومن العجيب في الأمر أن ابن سينا قد تعرض لنوبة من الألم المعوي الحاد برأ منه مرة، وفي المرة التالية أعجزه المرض فلم يعالج نفسه ليغادر الحياة مخلداً في أنصع صفحات التاريخ.
> جاءت مقالة “الطفل المعجزة” لتسلّط الضوء بأسلوب أدبي وعلمي رشيق على سيرة العالم الفذ ابن سينا، وقد وجدتُ في قراءتها تجربة ثرية وملهمة. أعجبني توازن الكاتب بين العرض التاريخي والتحليل الفكري، إذ عرض طفولة ابن سينا المبكرة في الحفظ والتحصيل، ثم انتقل بسلاسة إلى إنجازاته الطبية والفلسفية التي سبق بها عصره بمئات السنين. اللافت في المقالة أنها لم تقتصر على إبراز عبقريته العلمية فحسب، بل رسمت صورة إنسانية مؤثرة لحياته، بما فيها من معاناة وغربة وتوق دائم للعلم والمعرفة. وقد شدني بشكل خاص الربط الذكي الذي قدمه الكاتب بين اكتشافات ابن سينا ومفاهيم الطب الحديث، مما يجعل المقالة جسرًا بين الماضي والحاضر. إن هذه المقالة تذكير مهم بثراء تراثنا العلمي، وبالحاجة الدائمة إلى إعادة اكتشافه وتقديمه للأجيال الجديدة.