الأمن الاجتماعي والنفسي في القرآن
الأمن لا يتحقق إلا من خلال منظومة التعايش والسلم الاجتماعي والرضا الذاتي
بقلم: محمد عبد العظيم العجمي
الشعوب تصنع أمنها،(الاجتماعي والنفسي) بأيديها وثقافتها ووعيها.. وكلما ارتفت ثقافة الشعوب، وازداد وعيها كلما كانت أكثر أمنا، وأشد طمأنينة وكلما غيبت عمدا في غيابات الجهل والأمية الاجتماعية والثقافية، كلما تكدر سلمها، وتهدر أمنها.
لكن الأمن لا يتحقق إلا من خلال منظومة التعايش والسلم الاجتماعي والرضا الذاتي للشعوب عن مقدراتها..
وقد ربط القرٱن بين أمان الجوع وأمن الخوف، فلا يتأتى أحدهما دون الٱخر، بل جعله هو الدافع لنعمة الشكر، وبذل العبادة للخالق الذي من بذلك؛ فقال “فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ”.
بل قدم أمن الجوع على أمان الخوف، وربما كان هذا الربط بين الصنفين لدلالة تحقق أحدهما بالٱخر.
فلا تأمن الشعوب من خوفها إلا إذا طعمت وأطعمت من تعول، وإلا فلا تسأل عن أمن ولا ترجو في مجتمع قد جوع استقرارا..
بل أكد رب القرٱن ذلك فيما مَنَّ به على كفار قريش قائلا: “وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ”.. ”
“وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ”.
فربط بين أمن البلد الحرام لما تيسر له واستوفر من رغد العيش وجلب الثمرات من أقطار الأرض، وكذلك دعا إبراهيم عليه السلام بأن يجعل الله البلد ٱمنا، وقد علم أن ذلك متحقق بوفرة الرزق وجلب الثمرات من أقطار الأرض.
كذلك علمه راشدوا هذه الأمة وخلفاؤها الأول، فأوقف عمر -رضي الله عنه- حد السرقة في عام الرمادة، وكذلك قول منسوب لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه”عجبت لمن لا يجد قوت يومه، لم لا يخرج على الناس شاهرت سيفه؟!!
وذكر أن عمر رضي الله عنه بعث في عام الرمادة إلى عمرو بن العاص في مصر، يستنجده فكتب له “من عمر بن الخطاب إلى العاث بن العاص: أما بعد.. أفأجوع أنا ومن عندي، وتشبع أنت ومن عندكً.. فواغوثاه، واغوثاه، واغوثاه.. فرد عليه عمرو قائلا: لٱتينك بالقوافل أولها عندك وٱخرها عندي”.
كذلك ما جاء عن صاحب الرسالة – صلى الله عليه وسلم- في سنن أبي داوود” عن أبي هُرَيْرةَ قالَ: كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يقولُ: اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ منَ الجوعِ، فإنَّهُ بئسَ الضَّجيعُ..”.
وقد رتب عالم النفس الاجتماعي (ماسلو) حاجات الإنسان الطبيعية حسب أهميتها، فجعلها في صورة هرمية اشتهرت ب(هرم ماسلو) فكانت حسب دراسته على هذا الترتيب:
الاحتياجات الفسيولوجية.
احتياجات الأمان
الاحتياجات الاجتماعية
الحاجة للتقدير
الحاجة لتحقيق الذات
وهو ما يعني أن الدراسة العلمية المبنية على التجربة قد وافقت التجربة التاريخية، والعلم النقلي؛ أن أمن الناس في أقواتهم وأرزاقهم وفي فلذات أكبادهم هو العامل الأساس في صناعة الأمن الاجتماعي، ثم تأتي من بعده رافهية الشعوب حين تطمئن فتنعم وتنتج. وما نراه على مر التاريخ من غارات البدو والأعراب ونفرتهم على مجتمعاتهم إلا صورة من صور النقص الغذائي، وحاجتهم إلى القوت، واستئمان أرواحهم؛ وقد أعذر الشرع الحنيف صاحب الحاجة المضطر فقال “فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم..”.
ثم يأتي من بعد هذا التحقق الأمني والسلمي للمجتمعات، يأتي دور الحارس أو الراعي أو الرقيب، وهو الذي أوكل إليه حفظ الأمن على الناس – لا صناعته – والأخذ على يد من يحاول كسر الحاجز المصنوع، أو خفر الناس في معايشهم وطمأنينتهم.
وإذن فهي منظومة تعاونية بين المجتمع، وحارسه، فإذا لم يكن رضا اجتماعيا، وسلاما نفسيا فلا عمل لحارس أو حافظ.
وقد ذكر أن معاوية – رضي الله عنه- ، دخل على بنت عثمان رضي الله عنه بعدما استقرت له الخلافة، فوجدها تبكي ثأر أبيها.. فقال”ياابنة أخي: إن الناس أعطونا طاعة وراهاءها سلم، وأعطيناهم أمانا وراءه السيف؛ فإن نحن خفرناهم في أمنهم، ردوا علينا طاعتنا”.
وهكذا علم هذا الحكيم أن الطاعة متحققة في مقابل الأمن، وأن الأمن لا يكون كذلك إلا بأمن الناس في معايشهم وحياتهم وأقواتهم.
إن هذه العلاقة التفاعية التكاملية، لا تكتمل إلا أن يقوم كل طرف فيها بواجبه، وأن على الراعي أن يعرف أن ضمان استقرار الشعوب والدول لا يتأتى من مظاهر الحضارة الصارخة، ولا من دعوات التطوير والتزيين؛ وإنما هي منطلقة كما نقل الشرع والعلم والتجربة والتاريخ ، من بداية حاجة الإنسان الأول كما صنعه الله: طمأنينة العيش وأمن الجوع والخوف.
وحين أراد الله أن يعاقب من كفروا نعمه، وأنكروا عطاءه فضرب لنا مثلا قائلا”وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ”، فقدّم الجوع عقابا على الخوف في التنكيل، بل جعله لباسا ملازما مع الخوف جزاء كفران النعمة وفسق العيش.
هكذا.. وهكذا فقط، تصنع الشعوب أمانها أولا، ثم تنظر بعد في منظومة الحياة وصناعة الرفاهية حين تتوفر الطاقة عليها، أما قلب هرم الاحتياجات الإنسانية، والسير عكس منظومة التجربة العلمية والتاريخ، هو عين إفساد الحياة وهلاك المجتمعات، وتكدير السلام النفسي والاجتماعي.