فكر

المرأة بين النضال والتحرر

جدلية الوعي والواقع في سياق الهيمنة الاجتماعية

بقلم: عفاف عمورة| ألمانيا

     منذ أكثر من قرنٍ من الزمن، يحتفل العالم في الثامن من آذار بيوم المرأة العالمي، غير أن هذا الاحتفال، الذي يبدو في ظاهره تكريمًا للمرأة، يخفي في باطنه ضرورةً وجودية وأخلاقية لإعادة النظر في موقع المرأة داخل البنية الاجتماعية والسياسية، ومراجعة المكاسب والمعوقات التي لا تزال تشكّل عتبةً في مسيرة تحرّرها، لا بوصفها فردًا فحسب، بل بوصفها كينونة اجتماعية تصارع من أجل العدالة والاعتراف.
لقد أكّد جان بول سارتر أن “الحرية لا تُعطى بل تُنتزع”، وهذا ما تجسّده المرأة العربية في مختلف الميادين النضالية؛ من فلسطين إلى لبنان وسورية والعراق، حيث ساهمت المرأة بشكل فعّال في مقاومة الاحتلال ومواجهة الإرهاب، ليس باعتبارها هامشاً تابعاً، بل فاعلًا رئيسيًا في تشكيل الضمير الجماعي المقاوم. ولعلّ صورة المرأة الفلسطينية، التي تواجه جنود الاحتلال بالحجارة أو السكين، تعيدنا إلى مفهوم “التمرد الوجودي” كما طرحه ألبير كامو، حين يصبح التمرّد فعلًا أخلاقيًا ضد عبثية الواقع وظلمه.

     غير أن هذه البطولات لا تُخفي حقيقةً مريرة: أن المرأة في العديد من البلدان العربية لا تزال تعاني من اضطهاد مزدوج، كما أشار إلى ذلك فريدريك إنجلز في كتابه أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، حيث ربط بين الاستغلال الاقتصادي والهيمنة الذكورية، مؤكدًا أن تحرر المرأة مرهون بتحررها الاقتصادي ودخولها مجال العمل. فالاستقلال الاقتصادي ليس مجرد وسيلة للعيش، بل شرط بنيويّ لتكوين وعي ذاتي حرّ، كما ذهبت إلى ذلك سيمون دو بوفوار في كتابها الجنس الآخر حين كتبت: “لا تُولد المرأة امرأة، بل تُصبح كذلك”، مشيرةً إلى أن المرأة كائن يُصاغ ثقافيًا واجتماعيًا.

     وفي ظل مجتمعات أبوية تحكمها علاقات القوة والتسلّط الرمزي، وفقًا لـبيير بورديو، تصبح الثقافة السائدة أداةً في إعادة إنتاج الهيمنة، حيث يُعاد تشكيل العقل الجمعي للمرأة من خلال أنماط التبعية والخضوع، خاصة حين تُحرم من أبسط حقوقها المدنية والسياسية، كحق التعليم والعمل والمشاركة السياسية والترشح والانتخاب. ومن المفارقات أن المرأة التي وصلت إلى مراكز متقدمة في الغرب، بل وتولت قيادة دول، لا تزال في بعض البلدان العربية محرومة من قيادة مركبة أو التصويت في الانتخابات.

     إن التمييز ضد المرأة لا يتجلى فقط في الممارسات المؤسساتية، بل في البنية الرمزية العميقة التي تحكم العلاقات الاجتماعية. لقد رأى إيمانويل ليفيناس أن العلاقة الأخلاقية تبدأ من “الوجه الآخر”، أي الاعتراف بالآخر بوصفه كائنًا حرًّا، لا مرآة للرغبة الذكورية أو سلطة التقاليد. ومن دون هذا الاعتراف، يبقى كل خطاب عن العدالة والمساواة محض زيف.

    ورغم الإنجازات، فإن المرأة العربية لا تزال أسيرة الفقر والبطالة والجهل، في ظل غياب تنمية عادلة وتوزيع ثروات منصف، ما يجعل واقعها متفجرًا وقابلًا للاحتقان. ومن هنا، يمكن فهم ظاهرة انجذاب بعض النساء إلى التيارات المتطرفة، ليس من باب الاختيار الأيديولوجي الحر، بل بوصفه ردّ فعل على واقع القهر والتهميش، حيث تغدو الأفكار الظلامية تعبيرًا عن إحباط اجتماعي، كما أشار إلى ذلك فرانز فانون حين اعتبر العنف رمزًا للرفض الوجودي لحالة “اللاوجود” المفروضة على الشعوب المستعمرة والمهمشة.
إننا أمام مفارقة تاريخية: المرأة، التي تُمارس النضال في الشارع، وتدفع ثمنًا من دمها من أجل الكرامة، قد تجد نفسها في البيت خاضعة لسلطة أب أو زوج أو أخ، محرومة من أبسط حقوقها. وهذا ما يجعل من الحديث عن تحرر المرأة، وفق أنطونيو غرامشي، مسألة “هيمنة ثقافية” تتطلب إعادة بناء البنية الفوقية للمجتمع: من القيم، والتعليم، والإعلام، إلى القانون والدين.
ختامًا، لا تحرر حقيقي دون تحرر المرأة، ولا مواطنة دون مساواة تامة في الحقوق والفرص. فالعدالة ليست مجرد خطاب مؤسساتي، بل ممارسة يومية تبدأ من الجسد وتنتهي في القانون. وإنّ أي حديث عن الديمقراطية يبقى ناقصًا ما دامت المرأة تُقصى، أو تُستغل، أو تُحوّل إلى أداة رمزية في صراعات سياسية لا تعنيها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى