العلاقة التكاملية بين الحرية والإبداع
بقلم: عماد خالد رحمة | برلين
لا يمكن أن تتم عملية الإبداع الحقيقي إلا بوجود الحرية الحقيقية، كون العلاقة بين الحرية والإبداع علاقة مترابطة مع بعضها البعض. وكونها عملية تكاملية، فالابداع هو الإتيان بجديد ويتعامل مع القضايا والأشياء المألوفة بطريقةٍ غير مألوفة، كما أنّ الإبداع عملية إعادة تقديم الماضي والقديم بصورةٍ غريبة، أو بصورةٍ جديدة. وبشكلٍ مفيد وأصيل ومقبول اجتماعياً. مستخدماً الخيال للتطوير والتكيّف. كما أنّ الإبداع مبادرة يقدمها المبدع بما يملك من قدراتٍ كبيرة (على الإنشقاق من التسلسل العادي في التفكير إلى مخالفة كلية).
من هنا نؤكد أنّه لا إبداع بدون حرية، لإنَّ الحرية بما هي طاقة قادرة على التحرر من القيود والضوابط التي تكبل طاقات وإمكانيات الإنسان وإنتاجه، سواء كانت قيوداً معنوية أو قيوداً مادية، فهي تشمل التخلص من العبودية لشخص أو جماعة أو للذات، والتخلص من كافة الضغوط الصعبة والقاسية المفروضة على شخصٍ ما لتنفيذ هدف ما. كما إنَّ الحرية هي الضمان الوحيد لإبداع حقيقي يقترب من الواقع بمعطياته وحيثياته، وفي الوقت نفسه يأخذ في الحسبان الثوابت والضوابط التي يسير عليها المجتمع ويتمسك بها وبقواعدها، فتكون مصدراً خلّاقاً لانطلاقتِهِ الإبداعية، بالإضافة الى التبدلات والتغيرات التي تدور من حوله في هذا العالم الفسيح.
في حقيقة الأمر عندما نتحدث عن الحرية والإبداع، فإننا نتحدّث بعمق شديد عن خاصية إنسانية، تتمحور حول كينونة الإنسان وماهيته، فالهدف الأوّل والأساسي للإبداع هو الإنسان، وليس أي شيئ آخر. والحرية في هذا السياق تسير وفق خط ومسار تحقيق الهدف الإنساني الذي يضمن للإنسان تحقيق متطلباته وحاجاته ورفاهيته وسعادته، والوصول بالإنسان إلى مستوى الكمال النسبي والمقبول. إذ إنه دون هذه الحرية تبقى أفكاره ومفاهيمه وآرائه مكبَّلة ومسجونة في عقله، ولن تستطيع الخروج إلى الضياء والنور .
في هذا الإطار نجد أنّ الحرية تحتاج إلى إدارة فاعلة يمكنها تحقيقه، وهي المسؤولة عن تحقيق الأهداف والمرامي بأعلى قدرٍ من الإشباع، وهي أعلى درجات الإبداع والابتكار الأدبي والاجتماعي الذي يحقق حالةً من الترابط المتين بين الحرية والإبداع باعتبار الإبداع رؤية الإنسان للعالم، وتكامل المفهومين يشكِّل الطريق التي يتبعها الإنسان من أجل تحقيق تطلعاته وآماله. بمعنى آخر باعتبارها تحقق إنسانية الإنسان وصراعه المتواصل من أجل تجاوز الواقع الإنساني إلى واقع أفضل بكثير. من هنا فإنّ الحرية لها دور كبير في تلبية متطلبات وحاجيات الإنسان الضرورية والأساسية – المادية منها والمعنوية – بخاصة في ما يتعلّق في نطاق محيطه الاجتماعي الذي يعيش فيه بهدف الحفاظ على وجوده وبقائه الإنساني بأرقى صورةٍ وأبهى حلّة، وإشباع حاجاته ومتطلباته بكل مستوياتها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
كما أنّ تماذج الحرية والإبداع معاً يحقِّق السبق والتفوّق، ويحتاج إلى رؤية عميقة، والرؤية هي القدرة على التمييز الواضح بين النجاح والفشل، وبالتالي التخلّف يؤدي إلى الفشل، والنجاح هو العطاء والتقدم الذي يحتاج إلى إدارة فاعلة، والإدارة في هذه الحالة هي المسؤولة عن تحقيق الأهداف والمرامي بأعلى قدر من الإشباع، وهنا تكمن قدرة الإبداع وعلاقتها بالحرية في أنها تعني صراع الإنسان من أجل تجاوز معيقات الواقع نحو واقع أسمى، حيث تكتمل حالة النضج المعرفي التي يستبعد فيها العقل اللامعقول. ويعيد من جديد صياغة هذا الواقع بكل حمولاته في صورة يقبلها العقل ولا نبتعد في الوقت نفسه عن معطيات الممكن والمتاح. بل من الممكن أن يخضع المستحيل لطاقات وقدرات العقل والابتكار والإبداع الممتزج بالحرية. الذي لا يمكن أن نحققه بشكلٍ متماثل كصورةٍ عقليةٍ ومعرفيةٍ وثقافيةٍ وإبداعيةٍ تستند إلى كل ما أنجزه العقل الإنساني الجمعي .
لكن من أجل أن يتحقق الإبداع فإنَّ له العديد من الشروط، ومن شروطه التأصيل، بحيث يكون الرأي أو الفكرة جديدة وأصلية، بمعنى أنها جديدة لم يتوصل إليها أحد من قبل، وهي وليدة الحالات والظروف الخاصة والفريدة بها، والخاصة بمن ينتجها. كما أنّ من شروط الإبداع أن يقدِّم الطريقة الجديدة المفيدة في إطار ما، حتى تكون ذات هدف ومغزى. ليس هذا فحسب بل من شروط الإبداع أن يتضمن عنصر المفاجأة، كون الإبداع لا يتولّد وحده من فراغ، إنما الإبداع لحظات تنويرية تظهر فجأةً، نتوصَّل إليها عن طريق لحظة اكتشاف لم يسبقنا إليها أحد، وهي ليست بمحض المصادفة، لقد أثبتت جميع مواقف العلماء المتخصصين في تفسير تلك اللحظة التوافق على قضيتين إثنتين: الأولى أرجعها بعض العلماء إلى قدرات إلهية كجائزة ربانية للمبدع مدرجة في إطار الدين، والثانية: أرجعها العلماء إلى عمليات عقلية معقّدة غير مشروحة أو مفسّرة، لذا فهي لحظات تنويرية. وهنا نتساءل حول مَن مِنا المبدع؟
في حقيقة الأمر نجد أنه قد يبدع أيٌّ منا في أي لحظةٍ من لحظات حياته، يمرُّ فيها ويعيش حدثاً معيَّناً، ولحظة إدهاش خاصة، أو ممكن أن يكون مبدعاً طوال حياته. وقد يحالفه الحظ فقط عدة مرات في حياته. كون الإبداع لا يقتصر على مجالٍ واحد، بل قد نتمكن من أن نبدع في أي مجال نحبه. أي أنَّ أيّ منا يمكنه أن يبدع في كل ما يتميز به. كون الإبداع حصيلة الجهود الكبيرة المبذولة للتنمية الفكرية والجمالية المصحوبة بالموهبة والفن القادم من العلوم الهامة الإيجابية، والانفتاح على الآخر، وتقبّل وجهات نظر الغير .
ولكن ماذا على أي واحد منا فعله لنطلق العنان لطاقاتنا الإبداعية لتتدفق ونتطوّر؟ وهذا لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن وجود مناخ الحرية، وأن لا يُسجَن الإبداع في سجون السلطات الحاكمة القمعية المحافظة منها والسلطات الثورية. أو في معتقلات وسجون التعسف الديني والتعصب الطائفي الأعمى، أوفي معتقلات وسجون قمع الخرافات والأعراف والتقاليد البالية، كل ذلك يمثل المقصلة التي تقتل روح الإبداع وتبتر رأس الحكمة والتعقل. والإبداع هو عطاء خاص وهو لونٌ من أرقى ألوان القرب من الخالق،لأنه يوجد تماثل كبير من الصفات المطلقة للخالق في عالم الإنسان المحدود والنسبي. وعلى الرغم من محدوديته ونسبيته المكنون والمختزن لملكة التكامل والتطور الذي لا يحده حد إلا حد النكوص والعجز والارتكاس عن بلوغ الكمال الكلي المطلق. الذي يختص به الله وحده المبدع الأوّل لهذا الكون الفسيح رب العالمين ورب المبدعين، هذه الطاقة وهذه الملكة التي غرسها الله في الإنسان منذ أن خُلِقَ وظهر في الوجود، بعد أن خلق الله الإنسان من طين فاستحق التقدير وسجود الملائكة لهذا الكائن الذي استخلفه الله على الأرض. وملكة الإبداع هذه لا يسعها أن تنطلق في عالم الإبداع والتطور والتجديد إلا إذا تنفست ملء طاقتها بالحرية.
الإبداع الحقيقي يحتاج إلى الحرية بنوعيها:
ـ الحرية الداخلية التي تعني قابلية المثقف على تحرير نفسه من ضوابط وقيود التقاليد البالية والموروثات الشعبية الرثة والمألوفات بشكلٍ عام. وهذا يحتاج ألى أن يعيش المثقف حالة قلق الإبداع والخلق النسبي، وأن يحيا حياة فيها من النقد للأشياء وللآخر بطريقة خاصة تمتاز بالتمرد على الرث والبالي والفاسد، وهنا التمر يكون مضبوطاً وإيجابياً ومتحرراً من كل عوامل الخوف، وليس تمرداً غوغائياً، كونه يبحث دائماً عن الجديد والمفيد والمنتزع نفسه من تراكمات الماضي الخرافي، والموروث الثقافي البالي والمتخلف ليتمكن من تمثيل الخالق بما يملك من ملكات نسبية في مجال الإبداع. فيحرّك فيه روح المطلق والكلي والشامل في عالم النسبيات في حركة أبداع متسارعة ومطردة، لا تتوقف ولاتتراجع أبداً ما لم تبلغ الكمال المطلق .
ـ الحرية من الخارج، أي تجاوز المثقف للمعيقات والحواجز والتحرر منها والمتمثلة بقمع السلطات الثلاث، الحكومية المستبدة المتسلطة، والسلطة الدينية المنغلقة المتعصبة، والسلطة المجتمعية المتخلفة والغارقة في الماضي الثقافي الخرافي. وهذا يعني بوضوح لا لُبسَ فيه أنَّ الحرية هي حاضنة الإبداع الثقافي الخلّاق، أو على وجه التقريب الإبداع الإنساني.
لقد تناول العديد من الفلاسفة مفهوم الحرية كمفهوم له خصوصيته في التاريخ الإنساني والوضعية التاريخية الاجتماعية، فقد ابتكر الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط من القرن الثامن عشر، مفهوم الحرية السالبة والحرية الموجبة. فالحرية السالبة أو الحرية الشخصية هي إمكانية اتخاذ القرار دون ضوابط أو قيود وهي حق طبيعي. أما الحرية الموجبة فهي حرية معطاة أو حرية إمكانية معطاة ليستطيع الإنسان ممارسة حريته الشخصية أي (الحرية السالبة) وهي حق إنساني رئيسي .
وعندما نتكلم عن الحرية التي هي إمكانية الفرد دون أي شرط أو جبر أو ضغط خارجي على اتخاذ قرار بشأن قضايا مهمة، أو تحديد خيار من عدة إمكانيات موجودة مفهوم الحرية يعين بشكلٍ عام شرط الحكم الذاتي في قراءة وفهم ومعالجة موضوع ما. في هذا السياق نجد أنه من الضروري التأكيد على مصطلح الحرية المسؤولة حتى ولو كانت تمثِّل أحد قيود الحرية، إلّا أنها تنبع من الجوانية ولا يتم فرضها من الخارج بأدوات القمع الخارجي سواء قمع السلطات الطاغية والمستبدة، أو قمع الأعراف والتقاليد الاجتماعية البالية أو قمع الدين المتعصب الطائفي والمغلق. ولا نقصد هنا الدين الحنيف بمعناه المطلق في عالم الغيب وعالم التجريد، بل الدين في الفهم والتفكّر والأداء النسبي للإنسان. الذي صنع من الدين في معظم الأوقات غير ما أراده الله في كتابه العزيز، فاستبدل الأمن والأمان والسلام بالخوف والرعب والقلق، والإبداع بالتكلّس والجمود، والجوهر الحقيقي بالشكل الظاهري، والإيمان بالغلو، والوسطية بالتطرف، والعقلانية بالغوغائية والخرافة .
العلاقة بين الحرية والإبداع علاقة متكاملة ومتراصة ومرتبطة مع بعضها البعض، كون الإبداع يحتاج بالضرورة إلى حرية، فلا إبداع بدون حريّة، لإنَّ الحرية بكل مآلاتها هي الضمان الوحيد لإبداع حقيقي يقترب من الواقع بمعطياته، والحرية تعني الإبداع، وذلك لأنّ تطور مجتمعنا العربي يسعى إلى الأفضل، حتى يكون الإنسان قادراً على أن يبني مجتمعاً قوياً قائم على أسس علمية متقدمة تخفف من أعباء وظروف الحياة الصعبة والقاسية، ويساعد المجتمع على تخطي تيك الصعاب، فلو تتبعنا تطور المجتمعات لوجدنا أنّ أكثر الدول حرية هي أكثرهم تقدم وتطور وإبداع كون الحرية تنبع من عقل الإنسان من تميز وبراعة.
وفي الوقت ذاته يأخذ في الحسبان الثوابت والضواط التي يسير عليها المجتمع ويتمسك بها بقوة، فتكون مصدراً ومنصةً لانطلاقته الإبداعية، بالإضافة الى التبدلات والتغيرات الحاصلة من حوله في هذا العالم الفسيح. والحياة بدون إبداع هي حياة رتيبة وروتينية مملّة وقاتلة للتفكير وللعقلانية والمواهب الخلاقة. الحرية هي المنتج للقيم الإبداعية المدهشة والمميزة في كل حضارة من الحضارات الإنسانية .