فكر

الهاربون إلى الزواج.. متى نصبح أخيرا نحن؟

د. هبة العطار | أكاديمية وكاتبة مصرية

متى نصبح أخيرا نحن؟

لم أشبه نفسي في أي مرحلة كما شبهتها في طفولتى. هناك،في تلك البدايات، لم أكن مجرد طفلة بريئة، بل كنت الكائن الأقرب إلى جوهره، النسخة الأصدق والأكثر اكتمالًا رغم نقص التجربة. كنت أمتلك نضجا فطريا لم تلوثه المعرفة الزائدة ولا الخوف الموروث من الخسارات.
الطفولة لم تكن هشاشة كما نتوهم، بل كانت قمة القوة، فالشجاعة الحقيقية لم تكن في القدرة على الاحتمال كما نمارسها الآن، بل في التجرؤ على الحياة بلا قيد، في القفز إلى المجهول بلا حساب، في الحب بلا تحفظ، والبكاء بلا حرج، والضحك بلا سبب.
أما الآن، وقد تضاعفت المدخلات وتكاثرت الوجوه، أصبحت أكثر ثباتا، نعم، لكن بثمنٍ باهظ ، فالذي نحياه في الكبر ليس رسوخا ، بل تصلب .. هو خوف يتخفى في صورة اتزان، هو حرص يقتل العفوية، هو عقل يفرض وصايته على القلب. صرنا نُسمي حذرنا حكمة، وارتباكنا وترددنا تعقلا، وانطفاءنا وفقد شغفنا بالحياة نضجا.
أدرك اليوم أن الطفولة كانت مرآتي الأنقى، وحين ابتعدت عنها بدأت أفقد ملامحى. لم أعد أشبه نفسى.. صرت نسخة متحفظة، محكومة بخوف من السقوط أكثر من رغبة في التحليق.
نحن لم نكبر بقدر ما تراجعنا عن حقيقتنا الأولى. ربما لم نصبح أنضج، بل صرنا أسرى لتجاربنا، نحمل ندوبا نسميها خبرات. وفي العمق، لا يزال الطفل هناك، أكثر نضجا منّا جميعا ، يراقبنا في صمت، ويسخر من خوفنا… لأنه كان الأجرأ، وكان الأكثر صدقا، وكان بلا منازع، نحن كما وُجدنا حقا .
ربما ليس المطلوب أن نُعيد بناء الماضي، بل أن نسمح لتلك النسخة الطفولية أن تخرج من مخبئها، أن تحدث خلخلة في الصلابة التي بنيناها بحسن نية. فحين يلتحم الحذر مع العفوية، وتصافح الحكمة براءة القلب، نصبح أخيرا نحن .. ليس كذاك الحاضر الصلب، ولا كطفلٍ منفصل، بل ككائن كامل يحتضن كلا الوجهين.

***

الهاربون إلى الزواج

الزواج ليس ملاذا للهاربين من فوضاهم الداخلية، ولا عصا سحرية تزيل جراح الماضي وتملأ الفراغات النفسية، إنه مشروع حياة لا يليق إلا بالمستقرين القادرين على البناء، أولئك الذين لا يبحثون عن منقذ يرمم هشاشتهم ونقائصهم، بل عن شريك يشاركهم اكتمالهم.
الكثيرون يظنون أن الزواج سيجلب الطمأنينة بمجرد حدوثه، وكأنّه سفينة نجاة تنقذهم من الغرق، لكن الحقيقة أكثر صلابة هى أن الزواج لا يُصلح النواقص العميقة، ولا يمحو التشوهات النفسية المتجذرة ، بل يكشفها على نحو أوضح، ويضاعف آثارها، فالقلق يصبح عبئا مشتركا، والعقد الشخصية تتحول إلى سلاسل تقيد الاثنين معا، والضعف النفسي لا يبقى سرا، بل يصير هما يوميا يثقل كاهل شريك الحياة.
الزواج ليس علاجا، بل مرآة. والمرآة لا تُجمل، بل تكشف ما خفى. لذلك لا يليق بالإنسان أن يدخل هذا الميثاق العظيم وهو يبحث عن سد فجوة أو جبر كسر .. لأن الزواج سيعيد إنتاج هذه الفجوات بشكل أعمق، وسيفرض على الطرف الآخر ثمنا لم يلتزم به يوما.
الحب الحقيقي لا يقوم على الحاجة إلى مخلص، بل على الرغبة في مشاركة الحياة مع شريك مكتمل الإرادة، ناضج التجربة، قادر على أن يمنح بقدر ما يأخذ. ومن أراد أن يجد الطمأنينة في الزواج، فليبحث عنها أولًا في داخله .. فالمضطرب لن يهدأ، والناقص لن يكتمل، إلا حين يصالح ويصلح نفسه أولا قبل أن يمد يده للآخر.
إن الزواج ليس “حلا” للفوضى، بل امتحان لمدى قدرتنا على مواجهة ذواتنا، وهو لا ينقذ من الغرق بل يكشف قدرة كل طرف على السباحة في عمق الحياة.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. نعم انني علي قناعة ولا انكر فصاحة الكلمة وصدق وعمق التفكير لكاتبة مرموقة ومتميزة و كاستاذة بالجامعه تستطيع ان تتلمس بعض افكار الشباب ، فأنها تعبش الواقع لحظة بلحظة وتتعمق في عقول الشباب بل وفي احاسيسهم وعواطفهم احيانا . لكن هناك دائما التجربة الحياتيه التي تجبرنا احيانا علي تغيير المسار “ان صح التعبير” وتطلق بعض الومضات توقظنا من سلاسة التفكير العقلاني . نعم ليس كل شيئ منطقي في هذه الحياه .. تتبدل احيانا رغباتنا واهدافنا بل يتبدل العالم وتتبدل مجتمعاتنا .. الشوارع .. الحواري .. الازقة .. كل فرد في العائلة ليكون حالة فريدة في التفكير في الحلم ووعيه ومدي ادراكه بالواقع .
    وهل الزواج اصبح هروب من ام الى..؟
    وهل الزواج في حد ذاته هدف ام وسيلة ..؟
    اعتقد اجابة هذا السؤال سيكون عامل مهم ان لم يكن عامل رئيسي في نجاح او فشل تجربة الزواج .. ان استطعنا ان نجنب تاثيرات العوامل الخارجية في المجتمع والعوامل الداخلية من قبل الاسرة … كل التحية والتقدير للكاتبة المبدعة والتقدير موصول للقائمين علي هذه الصفحة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى