بقلم: عماد خالد رحمة | برلين
ما زالت الصدمة المعرفية تلقي بأعراضها وظلالها على الفكر الثقافي العربي التقليدي في أهم منعطفاته الإشكالية. تلك الصدمة خارجة عن العديد من المحن أهمها انتهاء عطالة التساؤلات الثقافية وعدمية التواصل والحوار مع الآخر، عن انتاج فعاليات وعوامل جداله وحراكه وخروجه عن عمليات التدوين التاريخي وقلق الانطولوجيا. مثلما يعاني من معيقات وإشكاليات محنته تجاه أيديولوجيا النصوص المبسترة وما تمله من فقه تطهيري وهبوطها الثقيل غير المقدس على أرض العصاب الديني حيث يتخذ لنفسه نظاماً وآليات خاصة به، تقف حاجزا وتمنعه من التكيف الصحيح والسليم مع الواقع والمختلف بشكلٍ عام. ويصبح كابحاً ومثبطاً للتطور الطبيعي للإنسان، كونه لا يقوى على مواجهة العقلانية والمنطق ويتبنى الإطلاق في أحكامه وأفكاره ومواقفه، حيث نجده يستخدم السلاح الوحيد المتبقي لديه بعد أن فقَدَ جميع المقومات الأخرى لتحاشي أي انكشاف أو إحراج وانهيار فهة لا يقوى على مواجهة الواقعية بعبثية ولا معقولية الفكر الديني الظلامي العبثي المتكلّس، الذي يعمل من خلال بنيانه الهش على الحفاظ على تكوينه النهائي الهش من خلال الاستبداد والعنف والإرهاب، وتحويل رذائل (الخنوع والذل، والطاعة العمياء، والخضوع والتسليم بالأمر الواقع، والتصرف بسلوكه كقطيع وآلات) إلى فضائل وأخلاق حميدة .
وتلك النصوص المؤدلجة تهبط وتشكل تاريخ المدن السرّانية. من هنا نجد أنّ الفكر الثقافي العربي قد أصبح ضحية غريبة لهذا الفهم ولهذه القراءة الاشكالية للتاريخ منذ صيرورته الأولى وعبر سيرورته التاريخية، وتداول النصوص وإشكالات مفاهيمها الإجرائية، إذ فَقَدَ إزاء لاعقلانيته الكثير وفقدانه الحكمة من اطمئنانهِ ونمطه القياسي والتمييزي في التعاطي مع مفهومات الثورة والأهلية، والأحقية والحاكمية، والمقدس والمدنس، والمعيش والايديولوجيا والرفاهية. ومما لاشك فيه انّ مرحلة ما بعد الصدمة الخارجة عن المحن لم تزل مطمورة وغائمة ولم يؤسس لها العقل (السسيو سياسي) العربي ميكانزمات اجرائية ومقدمات أو شرعية في مسار التوافق بين البنى المعرفية (الابستيمولوجية) والاجتماعية (السوسيولوجية)، اذ بقيت هذه المرحلة مأخوذة الى آليات العنف والإرهاب الرمزي، والنظام الطقوسي العام القائم على اساس قصدية الهيمنة والسيطرة والموقف التاريخي، اذ فقدت الكثير من وقائعها ومفاعيلها عبر ايهامات انتاجها الرمزي للحكم والقوة وبشكل تجاوز نسق التوقعات والتخمينات وحسابات الفكر الثقافي العربي التقليدي ذاته !!
ولعلَّ الحديث المطوَّل عن نموذج المثقف الإشكالي يضعنا أمام أسئلة فيها من الإشكالية الكثير الخاصة بحراك الفكر العربي المعاصر في جدلية الزمن السياسي والحضاري ومستقبل الحوار الإنساني والحضاري بين العقل العربي في نموذجه العربي القومي والعقل الغربي التنويري المزدهر، فقد وضع رهانه على الفكر القومي العربي وقوته في إمكانية تحديث مناهجه وآلياته، وبناه وتركيبته المعرفية من خلال إيجاد نظام وجودي قوي ومحكم، وقرابي له يقدم له صيرورات التغيير والتحوّل من السيطرة والهيمنة وقوة التاريخ المزيفة والخادعة إلى قوّة منهجية تدرك بعمق شديد أسباب ومجريات الصراع السياسي والاجتماعي وأصل الخلاف الكبير في تغيير المفاهيم والأفكار والتصورات التي يتحرك وفقها العالم. إنَّ ما يعانيه هذا الفكر من إشكالية وانهيار نموذجه الثقافي العام، إزاء صعود وتطور نموذج عصابي متكلِّس هو خليط سيكلوجيا الارتكاس والنكوص مع الثقافة الشعبية العامة ذات الحس الفطري الأوّلي .
وغياب القوى والحاضنة الأيديولوجية التي وهنت وشحبت ملامحها وفقدت قوامها من خلال الكثير من التحولات والمعطيات والازمات المتراكمة التي شهدها واقع الصراع القومي العربي،وانعكست على اسئلته الكبرى في المجال الثقافي والوجودي والمعرفي. ومما لاشك فيه أنَّ هناك مثقفون مفكرون ورثوا مرجعيات وشعارات برّاقة رفعتها الأحزاب القومية العربية في إطار ما يطرحه أفقها التنويري المتطور. حاولوا عبرالكثير من الافكار والمفاهيم والمشروعات والمناهج التي نهضوا بها من خلال عملهم المؤسسي في العديد من المراكز الفكرية العربية باتجاه فتح قنوات حوار وتلاقح وتثاقف مع اسئلة العقل الغربي واستدلالاته، لكن هذه الاسئلة الثقيلة ومحاورها الجارحة كثيراً ما كانت تتصف بنوع من الفوقية والاستعلائية المأخوذة من عقد الذات التاريخية، وكأنه من خلال سعيه لتحديد مسارات واطر تلك العملية الثقافية الفكرية، يبحث عن وجود نخبة ثقافية نوعية وبمواصفات كارزمية تقابل النخب الثقافية الغربية.
ولعل العديد من المفكرين العرب لايخفون إعجابهم بالتجربة الفرانكفونية التي سعت عبر الإطارات اللغوية الى مد جسور الفكر الثقافي الفرنكفوني المرتبط بفرنسا الى عوالم متعدِّدة في الشرق والغرب والشمال والجنوب، وخلق نخب فكرية وثقافية في المجتمعات الفقير ة ومنها مجتمعاتنا العربية .
إنَّ نموذج المثقف والمفكر الإشكالي الذي يمثله العديد من المفكرين والمثقفين العرب القريبون من المؤسسات الاكاديمية والثقافية العربية، وربما يكونون أكثر قرباً من محافلها الرسمية حيث يحظون بدعمها المادي والمعنوي، ويحتاجون الى أكثر من وقفة في مراجعة منهاج واجندة أعمالهم المؤسسية والاجرائية والعقائدية، باتجاه قراءة الظروف العوامل البنيوية العميقة ومفاعيلها التي اسهمت في تفكيك المشروع الثقافي القومي العربي وانهيار نموذجه في الحاكمية أو ذهب وتباعد الكثير من مفهوماته الاجرائية في قراءة النصوص والتاريخ منذ صيرورته الأولى وعبر سيرورته التاريخية الزمنية إزاء نموذج عصابي في مفهومه القومي، يؤمن ببدائية النصوص وفطرتها الأولى الصافية بعيداً عن تأويل القراءة ومدلولاتها وتأويلاتها وإعادة انتالجها من جديد في الإطار الإشكالي.
ومما لا شك فيه إنَّ حيوية المشروع الثقافي القومي العربي وانعكاسه على الكثير من الفعاليات الثقافية والمعرفية مع الإدارات والمؤسسات الثقافية والفكرية والاكاديمية في المجتمعات الغربية اسهمت بقوة في اثارة الكثير من التساؤلات حول جدية المشروع الثقافي وعيوبه ونواقصه النخبوية التي تركت المتن الشعبي ونتاجه الى ايهامات الذات التاريخية، في الوقت الذي مارست فيه نوعا من التواشج وحالة خاصة من التوفيقية غير الممنهجة وغير المدروسة مع السلطات الثقافية وقراءتها الاشكالية للثقافي والفكري والسياسي والاجتماعي والتعليمي .
المتابع لمفردات المنتج الثقافي، والمدقق في سلوكيات ونهج الأفراد وسياسات بعض الدول والحكومات، وذلك حسب ثقافة النخب المهيمنة وصاحبة السطوة والنفوذ، كمت أنه وراء الكثير من المفاعيل والظواهر الاجتماعية والمناهج والسلوك، وحتى الأزمات الحادة التي تمر بها المجتمعات العربية، والتي هي الغالب أزمات بنيوية تخص الهوية. لقد اغترف الحداثيون المغتربين ثقافتهم عن الهوية من الغرب الأوروبي بعيداً عن معطيات العصر الذي نعيش، لذلك ظهر الطرفان جزراً ثقافية ومعرفية معزولة، لا ترى أي إمكانية لتفعيل وتنشيط مشاريعها الصغيرة والكبيرة إلا من خلال العلاقة بحكام طغاة مستبدين يقومون على خدمته. أو التعامل مع مشاريع ومنظمات وجهات غربية لها أجنداتها الخاصة. هذا الضياع وهذا الانقسام هو من نواتج غياب ثقافة الحرية الحقيقية، أوالحرية المنشودة للغالبية التي تثمر وتنمي الإحساس الجاد بمشاكل الواقع وقضاياه المتشابكة، ومحاولة معالجتها بعيداً عن الحلول المنطقية الجادة، التي فرضت على الحالة الثقافية العربية نوعين من الاستلاب. استلاب تاريخي واستلاب تجاه التجربة الأوروبية. فالاستلاب التاريخي يعشعش ضمن الخطاب الماضوي، الذي يفضّل العيش في ثنايا التاريخ وبطولاته وأمجاده ومثالياته التي مضت، وهو هروب من الإحباطات المتراكمة والمتزايدة التي نعيشها في واقعنا العربي المؤلم وخيباته المتلاحقة، أما الثاني فيمكننا أن نجده لدى المثقف العربي الحديث الذي اغترب عن واقعه وإشكالاته في اغترابه عن واقعه وقضاياه الجوهرية نحو التجارب الغربية المعاصرة المتجاوزة لواقعنا العربي المختلف، والتي ربما لا تتشابه ظروفُها وتشابكاتها وإشكالياتها مع ظروفنا وتشابكاتنا وإشكالياتنا بصورة مطلقة. فالمتديّن الذي يحيا حياة استلابية تجاه تجارب السلف التاريخية يكون الوجه الآخر للمتدمن العربي الذي يحيا حالة استلاب التجارب الأوروبية، ويكون المشترك الأعظم بين الطرفين وهن وضعف ثقافة الحرية ورواسب التربية والتعليم التلقيني ويضعف القدرة الحقيقية على التفكير والانتاج الثقافي.
إنَّ نشوء ظاهرة الإسلام السياسي التي اجتاحت منطقتنا العربية، وانتشار ظاهرة المثقف الإسلامي كانت تحظى باهتمام محدود جداً في اطار قراءة اشكاليات الحراك الثقافي والمعرفي خاصة في مراكز الأبحاث والمؤسسات الدينية والاكاديمية، ولم تحظ هذه الظاهرة بقراءة بنيوية عميقية لمرجعياتها الفكرية والثقافية والمعرفية والدينية واسباب نشوئها وتكونها والحاضنة المدرسية التي نمت وترعرعت فيها، والتي تخلت في نظامها التعليمي والتربوي عن كونها خطاباً في الثقافة باتجاه انتاج سلطة وجدت في الذات التاريخية الأصولية مرجعيةً لها، وسط انزياح وتبدلات المشروع الثقافي والمعرفي والتنموي العربي الى مشروع نخبوي بخاصة بعد أن فَقَدَ المثقف العضوي العربي ذات المرجعيات الليبرالية، وذات المرجعيات اليسارية والمثقف الاحتجاجي ضرورتهما في صنع مواجهات ومصدات لتنامي ظاهرة المثقف النكوصي الذي يعيش حالة من الإرتكاس الذي وجد في انتشار ظواهر الفساد بكل ألوانه السياسي والاجتماعي والتنموي والتعليمي مبررات لحراكه وتفاعلاته وغضبه العارم وعودته الى الأصول الأولى النقية .
