أنطونيو غالا آخر عشاق الأندلس والعرب بين كبار كتاب إسبانيا
بقلم: د. خالد سالم
رفدت آداب اللغة الإسبانية الأدب العالمي بمبدعين عظام منذ العصر الذهبي، القرنان السادس عشر والسابع عشر.وكانالقرن العشرون، منذ ذلك العصر، الأكثر زخمًا في هذا السياق بين ضفتي المحيط الأطلسي، حيث تتشاطآنه إسبانيا والدول الناطقة بالإسبانية والبرتغالية في أميركا اللاتينية. الأسماء الكبيرة تطرز قوائم الأدب العالمي بنتاجهم الثر وجوائز النوبل التي تزين صدورهم في حيز مرئي. ربما كان آخر هؤلاء العظام الشاعر والروائي والمسرحي أنطونيو غالا الذي ترجل إلى السماء منذ أيام، لتخلو الساحة من رواد القرن العشرين التي كان يسكنها كثيرون لكنهم يظلون على مسافة من الحيز الذي شغله كتاب جيلي 98 و27 والأجيال التي تلت الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939)، ومجايليهم في أميركا الناطقة بالإسبانية وعلى رأسهم رموز الواقعية السحرية و”البووم”، الطفرة، وما بعدها.
اشتهر أنطونيو غالا (1930-2023) بعشقه للحقبة الأندلسية وهيئته المميزة ورشاقته كأنه كان أحد أمراء الأندلس في لباس عصري، ممسكًا بعصاه التي كانت تلازمه، كأنها جزء من شخصيته، حتى في جلساته وأحاديثه مع زائريه في منزله.
د. خالد سالم مع أنطونيو غالا في منزله
اقترب من الحضور العربي في الأندلس وربما كان هذا سبب ترؤسه جمعية الصداقة الإسبانية العربية في مرحلتها الأولى، مطلع الثمانينات. وكثيرًا ما تحدث عن أهمية الثقافة العربية وحضورها في مثيلتها الإسبانية، واعترض دائمًا على الاحتفال السنوي بذكرى سقوط غرناطة. كان له مقولة مقادها إنه ” لا يمكن فهم إسبانيا دون معرفة الثقافة العربية”. وهي وجهة نظر تبناها مثقفون إسبان آخرون، إلى جانب بعض المستعربين العظام. بيد أنه خصني في أول لقاء لنا بجملة لا أنساها إذ قال لي سنتئذ” الأندلس تتملكني، فهي الهواء الذي أتنفس”. المفلت للنظر أن غالا لم يولد فيما يطلق عليه حاليًا إقليم الأندلس -جنوبي إسبانيا اليوم- إلا أنه تعلق بهذا الإقليم وعلى وجه التحديد قرطبة، عاصمة الأمويين، وفيها توفي عن عمر يناهز الثالثة والتسعين. وكان قد مُنح لقب “ابن الأندلس العالمي”، الأندلس بمعناها الحالي وليس التاريخي.
أذكر أنني عندما طلبت لقاءه، دون أن يعرفني، وافق رغم كثرة ارتباطاته الأدبية والإعلامية. كان نجمًا أدبيًا وثقافيًا حيتئذ. استقبلني في منزله الذي تملأ جدرانه الكتب واللوحات والتحف الفنية، وقد أدهشني أدبه الجم وعذوبة ألفاظه، ورقة كلماته كأنك تجلس إلى أمير أندلسي ممسكاً بعصاه المميزة، ومنديل حريري يلتف حول عنقه، وإبتسامة شفافة تعلو شفتيه طوال حديثنا.
وعناوين بعض أعماله مؤشر على هويته واهتماماته في هذا السياق، منها مسرحية “سمرقند” ورواية “الوله التركي” و”المخطوط القرمزي”. وهذه الأخيرة كانت باكورة ولوجه في عالم السرد، وتعيد صياغة ما أغفله التاريخ من سيرة أبي عبد الله الصغير، حاكم أخر إمارة عربية في الأندلس العربية، غرناطة،حتى سقوطها في يناير 1492. ورغم أن الرواية ليست تاريخًا، وهذا من ملسمات الأدب إذ ليس مطلوبًا من الأديب أن يضطلع بدور المؤرخ.
إعجاب أنطونيو غالا لم يحُل دون إفساح المجال أمام شطحات شيفونية لا تتماشى مع فكره اليساري وعشقه للأندلس. فقد أُخذ عليه أنه سار في “المخطوط القرمزي” على خطى بعض أدعياء نظرية أن العرب لم يغزوا إسبانيا فمن بنوها كانوا من شبه الجزيرة الأيبيرية. وفي هذا لم يكن الأول ولا الأخير بين الإسبان، فهناك تيار شيفوني صغير، لكنه فاعل، يدعي أن الأندلس بناها السكان الأصليون وأن الحضور العربي فيها اقتصر على الجانب العسكري. وهذا الأمر غير صحيح، إذ هاجرت قبائل عربية إلى الأندلس، وتمركزت في مناطق معينة على امتداد الأندلس التاريخية. فعلى سبيل المثال هاجر مصريون كثيرون واستقروا في منطقة مرسية -مسقط رأس المرسي أبي العباس المدفون في الإسكندرية- ومنطقة شلبة في البرتغال، ومن هذا لا يخالفني الصواب في اعتقادي أن اسم شلبية الذي كان يستخدم قديمًا في مصر يعود إلى أولئك الذين هاجروا إلى شلبة البرتغالية.
الصفحيان محمد عبد الكافي (تونس) ونظمي يوسف (فلسطين)
مع أنطونيو غالا أثناء تسلمه حائزة الصحافة العربية
وفي هذا السياق تحضرني واقعة أظهر فيها غرابة أطواره التي يفهمها من اقترب منه. فذات مرة اقترحت تكريمه في مهرجان المسرح التجريبي، ووافق رئيسه الأسبق الراحل د. فوزي فهمي، وكلفني بمهمة الاتصال به لمعرفتي به. في البداية تهلل ووافق. وعندما أخذت إدارة المهرجان في وضع الخطوات الإدارية لاستقدام المكرمين اشترط أنطونيو غالا اصطحاب سكرتيره الشخصي لويس كارديناس. إلا أن إدارة المهرجان رفضت استقدامه بهذه الشروطتفاديًالسوء فهم الأمور وهجوم الصحافة على المهرجان.
رواية المخطوط القرمزي
عبارة عن يوميات لأبي عبد الله الصغير، إذ يولج غالا في أعماقه كإنسان وحامي امبراطورية في طور الانهيار، ليقدمه بشكل مخالف لما هو معروف عنه، إذ يظهر فيه إنسانًا مرهفًا، ذا ثقافة واسعة، مولعًا بالفنون، لكن حظه العثر جعل منه محاربًا في مسرح الحياة. استحسنت الذائقة حينها هذه الرواية فطُبعت أكثر من عشرين مرة وبيع منها أكثر من مليون نسخة، بعد أن أول طبعة عام 1990. كل هذا حمل الكاتب السوري الراحل رفعت عطفة على ترجمة الرواية ونشرها في دمشق، ليهبها الحياة في عاصمة الأمويين الأولى.
حاول غالا في في هذه الرواية تصويب الصورة السلبية عن ذلك الحاكم المظلوم تاريخياً على أساس أنه متخاذل ومسؤول عن ضياع الأندلس، وتغيير صورته المألوفة في كتب التاريخ، فلم يكن جباناً ولا إنهزامياً، ولا ينطبق عليه ما ينسب إلى أمه عائشة عندما قالت له “إبك مثل النساء ملكاً مضاعاً، لم تحافظ عليه مثل الرجال”. وسعى غالا إلىكشف الوجه الأسود لسقوط غرناطة وإدراك ما كان يمكن أن تكون عليه إسبانيا لو لم يقع ما سمي بحرب الإسترداد التي إنتهت بطرد العرب في 1492، السنة التي وصل فيها كريستوفر كولمبس إلى القارة الأمريكية.
واللون القرمزي هو لون الوثائق والأوراق المستخدمة في بلاط غرناطة النصرية، وعلى هذا النوع من الأوراق كتب أبو عبد الله الصغير يومياته التي استلهمها أنطونيو غالا في بناء روايته بعد أن إطلع على هذه اليوميات وعلى وثائق أخرى تتعلق بتلك الحقبة العربية.وكا غالا يرى أن التهجين والتوليد وتمازج الأجناس في إسبانيا حقيقة ماثلة حاليًا، ولا يمكن إنكارها، في إسبانيا، وأوروبا إبنة التوليد، إذ تمازجت على أرضها ثقافات الشرق والغرب، وبشكل خاص في حوض البحر المتوسط.
وعن ولادة رواية “المخطوط القرمزي”، استطرد قائلًا ” إنني لا أبتدع المواضيع، فالحياة هي التي تحملني إلى إختيار مواضيع أعمالي الأدبية، ومنها موضوع أبي عبد الله الذي راودني منذ زمن بعيد، بكل ما يعنيه. إن حضارة بني نصر كانت تمثل النقاء، الصفوة والقمة، وفي الوقت نفسه تدهور ماهو عظيم. لقدت إهتممت بكل شئ حتى المادة التي تشكل الهندسة المعمارية العربية في إسبانيا، فالمعمار الأندلسي ترك أثره على مدى العصور. فهناك الحجر الذي صنعت منه حضارة الموحدين في إشبيلية، والجص والمعجون وهو قمة التقدم وعلى أساسه بني قصر الحمراء، النموذج الحي لحضارة بني نصر.هذا في الوقت الذي ساعدتني فيه الظروف على التعرف على هذا الفن، على هذه الحضارة، وبشكل خاص على كل ما هو متعلق بحضارة بني نصر، آخر حكام غرناطة. ” “إنني أعشق ما هو أندلسي وأبحث كثيرًا في هذا الأمر من الناحية العلمية، إلى درجة أن رواية “المخطوط القرمزي” كان على وشك أن يفلت مني ليصبح كتابًا علميًا لا صلة له بالأدب، ما دعاني إلى اللجوء إلى الخيال حتى أنقذه من المنحى العلمي”.
“أذكر أنني كنت أتناول الغداء مع تسعة سفراء عرب في منزلي هذا حيث نجري الحوار، وطلبت منهم أن يوفروا لي كل ما لدى بلدانكم حول هذه الفترة الأخيرة من الوجود العربي في إسبانيا، لأن أقسام المحفوظات هنا لاتحتوي على وثائق حولها، فأنا أريد أن أكتب كتاباً عن أبي عبدالله الصغير. وفجأة خيم الصمت على طاولة الطعام، لأن أبا عبد الله لايتمتع بسمعة طيبة على ما يبدو بين العرب. حينئذ فكرت في أن هذه الشخصية التي كانت سبب صمت السفراء هي التي يجب أن أكتب عنها. كان من الضروري إسترداد هذه الشخصية التي لم تنصف، فالتاريخ يفسره ويكتبه دائماً المنتصرون، يكتبونه بشكل سيئ.
المؤكد أن أبا عبد الله عاش محصلة ظروف صعبة ومعقدة، لم يكن له دور في صياغتها. وتسلم مقاليد الحكم في ذلك السياق الصعوبة ما اضطره إلى قبول الإستسلام وقضاء بقية حياته في فاس، وإن كان قد بكى فإن بكاءه كان جزءاً من المشاعر الإنسانية النبيلة وليس ذلاً أو تخاذلاً. أعتقد أن أبا عبدالله ربي تربية كأمير ليحكم في عصر النهضة، لهذا كان أكثر أهمية من أمراء قشتالة- المسيحيين- من أترابه. إضافة إلى أن كتابي هذا كان محاولة لمعالجة التاريخ وسرده من خلال الشخصية الأرقى تربية والأكثر أهمية في عصره، فهو في رأيي أكثر أهمية من فرناندو الكاثوليكي أو إنريكي الرابع. وكل ما أراده هو الإنسحاب دون ضجيج حتى لا تتضرر الثفافة التي تركها أسلافه العرب فوقع على مواثيق إستسلام مع الملكين الكاثولكيين، فرناندو وإيسابيل، وهما يعلمان مسبقاً أنهما لن يحترما هذه المواثيق.من هنا جاء إختياري لهذه الشخصية لتقديم الصيغة التي كان من الممكن أن تكون عليها إسبانيا وما يمكن أن تصبح عليه.”
رواية “الوله التركي” وأعمال أخرى
“الوله التركي” هي ثاني رواياته وأكثرها انتشارًا، ما أدى إلى تحويلها إلى شريط سينمائي حقق نجاحًا هائلا – رغم تحفظ المؤلف على بعض مواقف معالجة الفليم للرواية- بين جمهور يعشق هذه العلاقة الشبقية، بشقيها الجمالي والجسدي للحب، بين الشرق والغرب، فالبطلة امرأة تذهب في رحلة إلى تركيا مع أصدقائها وزوجها، وتتخطى الحدود لتقع في غرام المرشد لتترك إسبانيا وتعود من أجله إلى تركيا.
تستنكه الرواية روح التزاوج بين ثقافات البحر المتوسط، وتعالج قصة حقيقية بطلتها سيدة من منطقة لاردة، شمالي إسبانيا. وعن هذا الامتزاج أشار المؤلف بقوله: ” إنني أعتقد أن الثقافات تصبح غاية في السذاجة عندما تزعم النقاء، ولا تثير إهتمامي. سكان إقليم الباسك، شمالي إسبانيا، يزعمون ويفتخرون بأنهم لم يتأثروا بالثقافة الرومانية، وهو مايحملني على عدم الثقة في هذا النوع من الثقافات، فالثقافة التي تزعم أنها لم تتأثر بثقافات أخرى لاتثير إحترامي. الثقافة نتاج التزاوج والتوالد، فأي مدينة من منطقة مغلقة وبعيدة تختلف تماماً عن أخرى مفتوحة مرت بها ثقافات العالم إذ تثريها”.
ضمن اهتمامه بما هو أصيل في الثقافة العربية قام بزيارة خاصة لليمن، منذ عدة سنوات، بغية التعرف على موطن العرب الأول، فكانت بمثابة “مفاجأة طيبة له، إذ إنه أحد البلدان المدهشة التي لم تفسدها بعد السياحة والتلفزيون”. وقد أسفرت هذه الزيارة عن نظمه لعدد من القصائد أطلق عليها “أشعار يمنية”.
من أعماله الأخرى التي نُقلت إلى العربية مسرحية “خاتمان من أجل سيدة” التي ترجمها الراحل د. عبد الحليم عبد اللطيف، الذي كانت تربطه علاقة طيبة بالكاتب الإسباني. والمسرحية تدور أحداثها في مدينة بلنسية التي استردها بطل “ملحمة السيد” الشهير من أيدي العرب، وفيها يعرج المؤلف على تلك الفترة المفصلية في سقوط الأندلس لاحقًا.
كان غالا يكتب بقلبه، ويعبر بعواطفه في قالب إنساني، فهو من أكثر الكتاب الإسبان المعاصرين، إستلهاماً للتراث العربي الأندلسي وتوظيفاً له في نتاجه الأدبي، ما حمله على كتابة أول رواية له ” المخطوط القرمزي”، والكتاب الوثائقي “غرناطة النصريين”، ورواية “الوله التركي”، ومسرحيتي” حقول عدن الخضراء” و” الأيام الخوالي الضائعة”، وكان هذا العمل الأخير قد فاز بالجائزة الوطنية للآداب في 1972.
التراث الأندلسي
شغل التراث العربي الأندلسي حيزًا مرئيًا في حياته الأدبية ومواقفه الإنسانية، وعن هذه المسألة قال لي” أعتقد أن طفلاً يولد في مدينة أبيلا-شمالي إسبانيا- ليس مثل آخر يولد في قرطبة، ليس أفضل ولا أسوأ، بل بكل بساطة مختلف. والطفل الذي أدافع عنه طفل يشم هواءً معيناً، ويرى أثاراً خاصة، ويعيش في وسط مختلف. عندما يسألونني عن أثر الأندلس في شخصيتي لا أملك سوى الضحك، لأن الأندلس تتملكني، إنها الهواء الذي تنفست والحليب الذي رضعت في الصغر، فهي عميقة وقوية وصريحة في أعمالي وفي شخصيتي، إنها كل أعمالي. وعملي قبل الأخير، رواية ” خلف الحديقة”، تجري أحداثها في إشبيلية، وإشبيلية الحالية هي أكثر المدن أندلسيةً أو إحتفاظاً بروحها الأندلسية.إنه الإهتمام بأجدادي، بأصولي. وإن كان التطور قد أساء إلى الأندلس، فالتقدم يعني التخلف هناك. كانت الأندلس عظيمة، ولكي تصبح عظيمة من جديد عليها أن تعود كما كانت عليه في الماضي. كانت حلماً تاريخياً. الطريق الذي كان يصل بين قرطبة ومدينة الزهراء كان مرصوفاً بمسحوق الذهب والطيب والقرفة، حتى لاتطأ أرجل العبيد، الذين كانوا يحملون الهودج، الأرض في طريقهم إلى مدينة الزهراء، وهو ما يحملني على الشعور بالأسى عندما أرى طريقاً سريعاً يمر بقرطبة. فقرطبتي كانت أفضل بكثير مما هي عليه الآن. وإذا كان لي أن أتكلم عن الأثر التاريخي الذي خلف أعمق بصمة في حياتي فإنني سأختار بلا تردد المسجد الكبير في قرطبة، ولو لم يكن هذا الأثر موجوداً في مسقط رأسي لتغيرت حياتي كثيراً.
إنني أشعر أنني أنتمي إلى الثقافة العربية. وقد درستها بتأنٍ ورويةٍ لأكتشف أنها ثقافة مدهشة. ومن منطلق هذا الإعجاب الشديد قمت بتأسيس جمعية الثقافة الإسبانية العربية. وأشعر أن إسم الأمويين محفور على جبهتي، وفي قلبي إسم العباسيين الإشبيليين، وفي يدي إسم بني نصر الغرناطيين. إنني أشعر بصلةٍ قويةٍ تجمعني بالأندلس، لهذا أردت أن يكون أول عمل روائي لي هو “المخطوط القرمزي”، وكما تعرف تدور أحداثه في غرناطة العربية”.
كان أنطونيو غالا ممن يعارضون الاحتفال بعيد الثاني من يناير كل عام، احتفالًا بسقوط غرناطة. وعن هذا الأمر قال لي: لقد فسرت حرب الإسترداد – طرد العرب من الأندلس- من قبل المنتصرين. فليس صحيحاً أن التوتر كان سائداً طوال ثمانية قرون، فالتعايش كان غاية في الخصوبة والإنسانية والإنسجام بين الطرفين، وهو ما تعالجه الفصول الأخيرة من ” المخطوط القرمزي”.
كيف إذن يمكن السماح لمدينة كغرناطة بأن تحتفل بيوم سقوطها إذا كان يعني الرعب، وعدم إحترام ما تم الإتفاق عليه أثناء الإستسلام -بين أبي عبد الله والملكين الكاثوليكيين فرناندو وإيسابيل-، في الوقت الذي حاول فيه أبو عبد الله الصغير الخروج في صمت حفاظاً على كل شئ؟ كيف لمدينة أن تحتفل بيوم الثاني من يناير؟ إنه أمر صعب وقاسٍ. كيف يمكن السماح لمدينة أخرى، هي مالقة، الإحتفال في أغسطس بيوم سقوطها، اليوم الذي لم يبق فيه على قيد الحياة سوى خمسة عشر آلاف نسمة في هذه المدينة، فاستعبدوا جميعاً. إنها أمور لاتحتمل. لايمكن السير ضد التاريخ، فإذا كنا متأثرين إنسانياً بما هو عربي، بالمناخ والوسط حسب الطرق والسبل العربية، فلايمكننا إنكار هذا وإلا أنكرنا ماكنا وما نحن عليه.
وعن فترة الحضور العربي في الأندلس كان يرى أن الشعر العربي كان متفوقاً على شعر قشتالة التي لم يكن فيها سوى شعراء معدودين، في حين أن الأندلس أنجبت حضارة متلاحمة، أفرزها العرب والأندلسيون، نتيجةً للحب من أول لحظة بين الشعبين، فالإسبان فتحوا أبواب بلادهم أمام العرب، أثناء الفتح، لأنهم كانوا قد سئموا حكم القوطيين ذوي الحضارة المتخلفة التي كانت لاتقارن بحضارة العرب الفاتحين.
هذا في الوقت الذي شعر فيه العرب أنهم لم يخرجوا كثيراً من ديارهم، فقد سبق لهم أن تعرفوا على الثقافة الرومانية إلى حد ما في الهند وبلاد فارس وسورية، لهذا عندما وصلوا إلى الأندلس لم يشعروا بالغربة، في حين وجدت فيهم الأندلس رحيق الشرق الذي تركه لها من قبل الفينيقيون والقرطاجنيون. فكان هذا التزاوج بين الثقافتين، والإحترام الشديد بينهما، مما أفرز شعراء عظماء في الأندلس العربية.
اللغة الإسبانية لغة ثنائية، أصلهاعربي بقدر ماهو لاتيني. والكلمات الأكثر رقةً ومسميات الحرف والمهن في الإسبانية عربية الأصل، فالعربية هي اللغة التي وضعت كلمات مثل الأحجار الكريمة، وأسماء الوظائف المهمة، والتقدم، والمواطنة، والحمامات. أي أن كل ما يعني تقدماً وجمالاً وفرحاً حيوياً في اللغة الإسبانية قَدم من العربية. هذا بالإضافة إلى تعريف الأرض والزراعة وعلم النبات والبساتين. وأكد غالا أنه لايمكن فهم إسبانيا دون الثقافة العربية، فاللغة الإسبانية لغة مزدوجة، لاتينية وعربية الأصل، ورفض ذلك يعني السير عكس ما هو كامن في أعماق الإسبان.
مسيرته الأدبية وحياته الشخصية
كان قد ولد في بلدة في إقليم قشتالة لا مانشا،عام 1936. ثم انتقل مع والده للعيش في مدينة قرطبة. تخرج في الجامعة حاملاً ثلاث شهادات، في القانون، والفلسفة والآداب، والعلوم السياسية والإقتصاد، نتاج عبقريته المبكرة، فقد دخل الجامعة وهو في الرابعة عشرة بتصريح خاص.
لم تكن دراسته لهذه التخصصات الثلاثة في الجامعة محض نزوة أو صدفة، بل من منطلق أن أي معرفة مفيدة للكاتب، لهذا لم يمارس أيًا منها، وكان على ثقة من أن المعرفة كانت وراء هذه التخصصات التي أنهاها وهو دون العشرين، فالقانون علمه التمعن والتفكير والتنظيم، في حين أن التاريخ تعلم منه كل دقائق تاريخ إسبانيا، وكان سبباً في مغامراته في إفهام الشعب الإسباني كيف وصل إلى ما هو عليه، ومن العلوم السياسية تعلم أن الإنسان جزء من كل، فهو عضو من مجتمع يعتمد في علاقاته على الإقتصاد والسياسة.
منذ سنة 1963 قصر حياته على الأدب، فأخذ يمارس كافة أجناسه، فيقرض الشعر، ويكتب القصة والرواية، والمسرح، والمقالة الصحفية، والأعمال التلفزيونية، والأوبرا الإسبانية، وإن كان قد برع في فن المسرح الذي حمله إلى عالم الشهرة.
ورغم نجاحاته الكبيرة في أجناس أدبية مختلفة، المسرح والرواية والمقال، أفاد بأنه يؤمن بنظرية لأفلاطون، هي أن الإبداع عنده هو الشعر، أي أنه كل شئ. إنه كأي سائل يتكيف مع شكل الإناء الحاوي له. وهكذا نجد أبيات القصيدة شعراً، وهناك شعر روائي يتمثل في المسرح، وشعر قصصي في القصة، وشعر المقالة، وشعر الحياة، كيفية تأمل الحياة، الطريقة التي نرى بها مرورها وقدوم الموت. بيد أنه لا يختار الشكل، فكل لحظة من لحظات الكتابة عنده تقرر الشكل النهائي للعمل. والكاتب يتمتع بهذه الصفة لأن له موهبة الإستقبال والإدراك التي تحركه.
وإذا كان هناك مبرر لاستحسان الملتقي لنتاجه بطريقة واسعة فهذا يرجع إلى “أنني أتكلم مثلما أكتب، وأكتب مثلما أتكلم، أي أن هناك تواصلاً بين الفعلين. أعتقد أن لاوجود لفاصل أوفارق بيني وبين القراء، فأنا منهم وأنتمي إليهم، وأتحدث بالطلاقة وبالطريقة التي يفهمونها. هناك كتاب كثيرون يعتقدون أنه كي تبدو كتاباتهم أكثر عمقاً يقومون بتعقيدها. إنني أحاول توضيحها قدر الإمكان. أرى أن نتاجي الأدبي كعصير البرتقال، كالرحيق، يصل من الشجرة إلى الشفاه مباشرةً دون وسيط. وهذا التواصل كتيار الدم لايقف في طريقه عائق، أي بين ما أكتب وما يدركه ويفهمه المتلقي. وهذا ينسحب على الشعر رغن صعوبة فهمه”.
كان في بحث دائم عن شيء ما، وحول هذا الأمر قال لي إنه لا يكتب لأحد، فالكتابة مصير وقدر.ومعنى الحياة يكمن في أنها بحث وإستقصاء. وبحث المرء عن نفسه أهم ما يمكن أن يقوم به. وسؤال: من أنا؟ هو أول الأسئلة، ولكن إذا لم تكن تستطيع الإجابة على هذا السؤال بطريقة جذرية فإنك ستظل خارج عن معرفة حقيقة ذاتك، والإستمرار على هذه الحال يعني خللاً وعدم ثبات، أي إنفصال عن الواقع، أو كسلعة تباع معرضة للغش. لهذا من الضروري أن يعرف الإنسان من هو.
فكره السياسي
كان أنطونيو غالا مناضلاً من أجل الديمقراطية والعدالة والحرية. تبنى فكرًا يساريًا، لكنه لم يُنظم في أي حزب، وكافح من أجل إنسحاب إسبانيا من حلف الأطلسي في الثمانينات، ما حمله على ترؤس المنصىة المدنية الداعية إلى استفتاء حول مستقبل إسبانيا في الحلف في مارس 1986، كما شارك في تأسيس جمعية الصداقة الإسبانية السوفيتية.
ومن هذا المنطلق كتب في أكثر من مناسبة مهاجمًا إسرائيل على ما تقترفته من بشاعات ضد الشعب الفلسطيني. وذات مرة هاجمها في مقال بعنوان “المختارون” نشره في صحيفة “إلموندو” الصهيونية، لكنه لم يشمل في ذلك اليهودلم يتجاوز فيه خطوطهم الحمراء لكنه أشار إلى حقائق تاريخية حول طردهم من دول عديدة وأن العرب كانوا من أحسنوا استقبالهم. بيد أن الجالية اليهودية في مدريد، ذات توجه صهيوني، رفعت دعوى قضائية ضده متهمة إياه بالعنصرية ومعاداة السامية.
رئاسته جمعية الصداقة العربية الإسبانية
عن هذا المرحلة قال إنه قربته من عرب اليوم، بعيدًا عن الأندلس، وخلالها قرأ أعمالاً أدبية معاصرة حيث كان على صلة مباشرة بأساتذة الأدب العربي، من بينهم بدرو مارتينيث مونتابيث وكارمن رويث برابو وإليسا مولينا، ما سهل له أيضًا التعرف إلى الكتاب العرب الذي ترددوا على إسبانيا في تلك الفترة. “بيد أن فكرتنا عن الوطن العربي ورغبتنا فيما يمكن أن يكون لم تتحقق بسبب الخلافات بين الدول العربية داخل الجمعية، فكل واحد كان يريد أن يقيم علاقة منفردة لبلاده مع إسبانيا، منفصلة عن بقية الدول الشقيقة، مما زاد الأمر صعوبةً. لهذا تركت الجمعية في يدي بدرو مارتنث مونتابث، فهو أكثر دبلوماسيةً وفطنةً مني بهذه المسائل. وإن كان هذا لايمنع أني إستمتعت كثيراً من تلك التجربة”.
وتكريماً لدوره في التعريف بالثقافة العربية الأندلسية منحته جمعية الصحفيين العربي في إسبانيا جائزتها السنوية للتعاون، وسلمت إليه في حفل أقيم في مدريد في نهاية التسعينات، ضمن الحفل السنوي الذي يقيمه نادي الصحافة الدولي وجمعية المراسلين الأجانب وجميعة مراسلي أمريكا اللاتينية، وحضره عدد من رموز الحياة السياسية والثقافية والفنية في إسبانيا.
الحب والمرأة في أعماله
يشغل الحب حيزًا كبيرًا في أعماله وقد لخص لي ذلك قائلاً ” إنني مثل دانتي، في كتابه “الكوميديا الإلهية”، أعتقد أن الحب هو الذي يحرك الشمس والنجوم الأخرى. ومن خلال الحب فقط يمكن فهم هذا الأمر، فهو ملئ بالجسور المتحركة، إنه الذي يجعلنا نفهم الأخرين، الثقافات الأخرى، وكان وراء عشق وإفتتان الإسبان بالثقافة التي حملها العرب إلى الأندلس. الظواهر التاريخية العظيمة كانت نتاج الحب، فالتكنولوجيا وما تحمله من مشكلات وحسنات للبشرية ما هي إلا نتاج حب البحث. ليس الحب الشخصي، حبي وحبك، هو مايهمني، بل حب الآخرين، وإدراجهم في مشروع. ليس التأمل وتبادل النظرات بين فردين، بل النظر إلى شئ معاً، الشروع في عمل مشترك، العمل من أجل عالم أفضل يسكنه المحبون، حينها يتحول الحب إلىقوة فاعلة”.
عالج مسألة الحب في أكثر من عمل، غير أنه لم يمارسه ولم يتزوج وكان يعيش وحده، فلهذا أطلق عليه في لحظات من حياته لقب المحب المستوحد. وهناك رواية أخرى مهمة هي “الحب بين ثلاثة” يوحي فيها بأن الحب المعاناة شرط لازم في هذا الشعور، إلا أنه ينفي ذلك قائلاً ” لا أعتقد أن الحب مؤلم بالضرورة. إنني أوافق على أنه يسبب ألماً، ولكن في حالة الإنكفاء عليه، فالإقتصار يتطلب مزيداً من التضحية والمطالب. الحب ليس كالصداقة التي تنمى وتمارس بلا مقابل. والحب يطلب ريعاً وكل نوع من المكاسب معقد ومؤلم. والغيرة هي نتيجة لهذا الإقتصار أو حق التصرف بلا منازع، في الحب. وهي تتوقف على تصرف المحبوب غير الفاعل.”
ويرى أن موقف الإنسان في هذا الصدد متناقض، فلم يتعلم شيئاً ولم يتعمق فيه كثيراً رغم أنه هو الذي إخترعه، فالحب ليس فطرياً لأن لا يولد مع الإنسان. وهو كما نفهمه اليوم لا يتعدى عمره أربعة أو خمسة قرون. ولكن إذا تكلمنا عن الحب الجنسي فإن الإنسان حقق تقدماً في معرفته. أما الحب الآخر فيعيش داخله.لا يوجد مخلوق يثير يأساً في نفسي كالذي يثيره الإنسان، غير أن البشرية نفسها تثير أكبر الآمال. والبشر يسببون الجرح وفي الوقت نفسه الشفاء. إن هذا الوضع يشبه مفهوم الخير والشر، أسطورة قابيل وهابيل.
للمرأة حضور رئيس ومكثف في نتاجه الأدبي، فمعظم شخوص أعماله نساء، ما يدعو على الاعتقاد بأنه يعرف روح المرأة بعمق رغم بعده الجسدي عنها. وحول هذه النقطة قال لي” إن الثقافة التي أنتمي إليها أعارت المرأة مكانةً خاصةً، فهي المثاليات والعواطف والأحاسيس في المجازات، وجسمتها في كافة الصور البلاغية، وفي العقلانية والثورة.المرأة هي التي تشد أزر الرجل. إنها الموهبة والخلق، وهو مايجعلها تفهم وتجيد تجسيد أي دور في المسرح، أكثر من الرجل. في الحياة اليومية نجد أن الرجل والمرأة يعملان، إلا أن الرجل يميل إلى الصمت، فهو مقل في التعبير عن ذاته وإفهام الآخرين بتصرفاته، على عكس المرأة تشرح نفسها وتفسر تصرفاتها. إنها تعبر بوضوح عما يخالجها، ولهذا يستغل المسرح هذه الخاصية.ولا أزعم أنني أعرف شيئاً بعمق. إنني أحب المرأة، وهي تثير إعجابي، وأنا ممتن لها لكثير من الأشياء. إنني أراقبها لأن ذلك يدخل ضمن عملي.
الأجناس الأدبية
وعن الأجناس الأدبية كان يرى أنه في حالة إدراك الناس للحقيقة، قد تكون القصيدة أكثر تأثيراً لأنها درب للمعرفة، ليست شكلاً تعبيرياً كالمسرح، بل هي شكل معرفة ودراية، لهذا إن وصلت إلى القراء يتأثرون بها. بعد الشعر يأتي المسرح على أساس أنه مباشر، يصل بلا وسيط إلى قلب المشاهد، وتأثيره يختلف عن تأثير العمل الروائي حيث يتصل القارئ بالكاتب رغم المسافة التي تفصل بينهما عند القراءة. المسرح يتمتع بالظاهرة الجماعية، مشاركة الجمهور، وهو شأن القصيدة، إذ يفترض أنها تكتب لتنشد على الجمهور، وإن كانت هذه الخاصية قد سرقها المسرح من القصيدة، إضافة إلى أنه أكثر تأثيراً ومباشرةً. ربما كان هذا هو سبب ممارسته لكتابة المسرح أكثر من أي لون أدبي آخر. بيد أن المسرح لايغير، فوظيفته التنبيه، الإيقاظ. إنه يشير إلى موطن الداء، ولا يضع الدواء. أما مهمة التغيير فتقع على عاتق الحكام.
كان قد بدأ حياته الأدبية بنظم الشعر في سن مبكرة فعلاً، فأصدر بمعية بعض الأصدقاء، مجلتين خصصاهما للشعر، الأولى في إشبيلية والثانية في مدريد، في محاولة للهروب من الوحدة والإنطواء على النفس والإحساس بالشاعرية والعيش في برج عاجي. وكان لتلك التجربة فضل في عدم شعوره بالوحدة في تلك السن المبكرة، إذ كان في السادسة عشرة، وطالب في جامعة إشبيلية.
وعن انتشار ما يطلق عليه شعر في عالم اليوم والوصول به إلى جماهير عريضة، قال لي إنها مشكلة حقب ومراحل، فهناك حقب فائقة الثقافة وأخرى يسيطر عليها الانحطاط. ومن الصعب الهبوط بالشعر إلى العامية، جعله أدباً جماهيرياً، والدليل على ذلك في إسبانيا أن أفضل شعر فدريكو غارثيا لوركا ليس ما يلقى الآن في الأمسيات الشعرية، بل تُلقى من أشعاره تلك التي يسهل على العامة فهمها واستيعابها، وغير أنه ليس أردئ ما كتب الشاعر الغرناطي. “هناك شعراء يعكرون المياه مثل الجاموس كي تبدو هذه المياه أكثر عمقاً”.