الليبراليون العرب والمسألة السياسية
بقلم: عماد خالد رحمة | برلين
مثّلت الليبرالية وهي الفلسفة السياسية، عدَّة أفكار مثل: الحرية والمساواة، وحرية التعبير، وحرية الصحافة، والحقوق المدنية، والحرية الدينية، والسوق الحرة، والمجتمعات الديمقراطية، ومبدأ الأممية، والحكومات العلمانية. وكانت اللليبرالية الكلاسيكية قد شدَّدت على مبدأ الحرية، في حين أنَّ المبدأ الثاني وهو المساواة يتجلى بوضوحٍ كبير في الليبرالية الاجتماعية .
وكان دعاة الليبرالية العربية الذين نهلوا من هذه الأفكار ينطلقون من فرضية مؤداها أنَّ الدولة الوطنية السائدة في وطننا العربي تعاني من نقص شديد في الشرعية بسبب مضمونها القمعي والاستبدادي، فهي دولة الحاكم الفرد الطاغي المستبد، كما أنها دولة الحاكم مطلق السلطة . المسيطر على البلاد والعباد والمتصرِّف في شؤون الدولة وكأنها أملاكه الخاصة. كونه متحلل من قيود القوانين والتشريعات الناظمة للبلاد، ومتحلل من قيود الرقابة الشعبية، ولا يخضع لأي محاسبة .
في حقيقة الأمر ونظراً لوضوح المسألة والذي لا حاجة لذكره لأنّه تحصيل حاصل إن هذه الأفكار وتلك المفاهيم ليست جديدة تماماً على الوعي السياسي العربي، ولم تقترن زمنياً بميلاد التيار الليبرالي الذي صعد بقوة في مطلع القرن العشرين، في بلاد الشام ومصر، وإنما نجد أصداءها تتردد عند نهضويي القرن التاسع عشر منذ رفاعة رافع الطهطاوي (1801 ـ 1973) م وهو من قادة النهضة العلمية في مصر في عهد محمد علي باشا. وخير الدين التونسي أو خير الدين باشا (1890 ـ1820) م هو أحد رموز الإصلاح بالبلاد التونسية. حتى عبدالرحمن الكواكبي (1955 ـ 1902) م أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعدُّ من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي.غير أنَّ أفكار الليبرالية الغربية، مع الليبرالية العربية في النصف الأول من القرن العشرين، أخذت أبعاداً أكبر مع المفكر والفيلسوف المصري أحمد لطفي السيد (1972 ـ 1963)، الذي تم وصفه بأنه رائد من رواد حركة النهضة والتنوير في مصر،وكان عباس العقّاد قد وصفه بأنه (بحق أفلاطون الأدب العربي). إنَّ تلك الأفكار والمبادئ كانت ضمن رؤية عامة للنهضة العربية تتداخل في ماهيتها وتركيبتها وتحقيقها أبعاد أخرى مختلفة، بل ستصبح عند الليبرالية العربية هي النهضة الشاملة عينها والمشروع الفكري والسياسي الذي يقود إليها .
لكن سيرة الليبراليّة العربيّة تختلف اختلافاً جذريّاً عن الليبراليّة الغربيّة. كان الظهور الجنيني الأوَّل لليبراليّة العربيّة (البروتستانتيّة أو الشدياقيّة) ـ نسبةً إلى أحمد فارس شدياق ـ يعنى بتقليص سلطة الكنيسة، أو الكهنوت بشكلٍ عملي، من دون أن يقترن ذلك بمشروع أو ببرنامج سياسي أو اجتماعي واضح المعالم. صحيح أن الأديب والمؤرخ اللبناني الموسوعي بطرس البستاني ويُلقب المعلم بطرس (1819- 1883) م، هو أديب وموسوعي ومربي ومؤرخ ، وأحمد فارس الشدياق(1804 ـ 1887) م الماروني وهو من أوائل الأفذاذ الذين اضطلعوا برسالة التثقيف والتوجيه والتنوير والإصلاح في القرن التاسع عشر دعيا إلى إعطاء حقوق مُغيّبة للمرأة، لكن ذلك لم يكن ضمن برنامج إصلاح شامل كما أن بعض كتابات أحمد فارس الشدياق لم تكن نسويّة أبداً. كما أن أحمد الشدياق خدم أكثر من سلطان، وكتب الكثير من المدائح لهما، وهذا سبب ضعف موقفه وانسجامه الفكري والثقافي والسياسي. لكن الظهور الحقيقي لليبراليّة العربيّة حدث في القرن العشرين. ويتحدّث الكاتب والمفكر اللبناني شَكِيب أَرْسَلَان (1869 – 1946) م، في سيرته الذاتيّة عن محنة اتهامه بالدفاع عن الإمبراطوريّة العثمانيّة حتى آخر أيّامها عندما أطلق عليها (الرجل المريض). كانت لهجته دفاعيّة لما لحقه من تهم وشتائم من قِبَل دُعاة القوميّة العربيّة المبكّرين، أو دعاة الثورة العربيّة الكبرى التي أطلقها الشريف الحسين بن علي في العاشر من شهر حزيران عام 1916م في مكة المكرّمة. ويقول إنَّه كان في البداية منجذباً بقوة لدعوات الوحدة العربيّة قبل أن يكتشف ارتباط مشروعهم بمشروع الاستعمار الأوروبي وتحديداً البريطاني. وقد أثبتت الوثائق التي نُشرت في الغرب صحة اتهام أرسلان في هذا الصدد. وهكذا فإنَّ الفكر الليبرالي العربي قد تبلور في مرحلته الجادة الأولى في مصر في العهد الملكي التي أنشأت في عهد أسرة محمد علي باشا عام 1922 حتى فترة المعاهدة الانكليزية المصرية لعام 1936 م . وكان متحالفاً في الآن نفسه مع الملكيّة الرجعيّة ومع الاستعمار الغربي. وهذا الارتباط لم يكن بالمصادفة لأنَّ النزعة النخبويّة (العنصريّة، والطبقيّة، والإثنيّة) شكَّلت منطلقاً وأرضيةً لفكر عميد الأدب العربي طه حسين ( طه حسين بن علي سلامة ) (1889 ـ1973) م ،والمفكر علي عبد الرازق، اسمه بالكامل (علي حسين عبد الرازق) (1888 ـ 1966) م مؤلف كتاب (الإسلام وأصول الحكم) ،وغيرهم من مفكّري تلك الحقبة. وليس من المصادفة أيضاً أنَّ الاثنين نهلا من فكر الاستشراق الغربي الغزير فيما كتباه، وفيما اشتهرا بكتابته (المفكر علي عبد الرازق تأثر بكتاب المستشرق البريطاني توماس أرنولد Thomas Walker Arnold(1864 ـ 1930) م عن الخلافة، كما أن طه حسين في كتابه عن الشعر الجاهلي تأثر بمقالة المستشرق الإنكليزي ديڤيد صمويل مارگـُليوث، مرجليوث، ديفيد صأمويل (David Samuel Margoliouth) (1858 ـ 1940) م. والفكر الليبرالي ارتبط بالاستعمار الغربي لأنَّه كان يرى أن العامّة من الناس غارقة في الجهل والتخلّف، وأن النخبة المُرتبطة بالغرب الأوروبي على وجه التحديد، والمُستعينة بجيوشها الجرّارة وحكوماته وأحزابه السياسية هي الوحيدة القادرة على النهوض بالمجتمع العربي لتحقيق ما أُطلق عليه (تحضير) للعربي على خطى الرجل الأبيض. وكمنت النزعة العنصريّة في هذا الفكر من خلال محاولات لبنانيّة ومصريّة حثيثة للزعم بأن (الفينيقي ) أو (المصري الفرعوني) هو أوروبي تائه في الصحراء من دون إرادته, وأنَّ خلاصه يكمن في الرجوع إلى الغرب عاطفيّاً وسياسيّاً وثقافيّاً. فقد كتب العديد من الشخصيات اللبنانية حول الأصول الفينيقية أمثال : شارل قرم، وهكتور قلاط ،ميشال شيحا، ويوسف السودا مؤلف كتاب (في سبيل لبنان)، وأحمد عارف الزين الذي ارتكز على الأصول الفينيقية في كتابه (تاريخ صيدا) الصادر عام 1913 م . والشاعر سعيد عقل ، وآخرون .
وفي مصر كتب د. عماد خالد رحمة ( 1889 ـ 1973) هذه الجملة في مقالة له بجريدة كوكب الشرق عام 1933: (هل نحن عرب أم فرعونيون) ما أثار الكثير من الجدل الساخن والحاد، كما دعا المفكر المصري سلامة موسى إلى الفرعونية كأساس لانتماء المصريين، ودعا إلى اللغة العامية بدلاً من اللغة العربية الفصحى، كما دعا لكتابة اللغة العربية بالحرف اللاتيني، هذه الدعوات التي قدّمها سلامة موسى كانت بتأثير من أفكار بعض المستشرقين من أمثال المستشرق البريطاني وليام ويلكوكس(William Willcocks) (1852 ـ 1932) م الذي كان يعمل في مصر والعراق كمهندس بناء، وغيره.
اللافت للنظر أنّ الدكتور طه حسين قد استعمل كثيراً عبارات (العقل المصري) من دون أي رادع أكاديمي أو أخلاقي، على خطى كتاب المستشرق السوسيولوجي الإسرائيلي رافييل باتاي (1910 ـ 1996) عن “العقل العربي” الذي صدر عام 1973، ونقله إلى اللغة العربية علي الحارس، والذي يُعتبر عنصريّاً بمقياس علم الاجتماع الغربي. وقد شكّل كتاب “مستقبل الثقافة في مصر” الصادر عن مؤسسة هنداوي دستور الليبراليّة العربيّة الحقيقي، ونرى أن دعاة الليبراليّة العربيّة يعتبرونه مرجعاً مهماً يرجعون إليه بمناسبة وبغير مناسبة.
في مطلع القرن العشرين أصرَّ المفكر عبد الرحمن الكواكبي على أنّ الداء الذي يفتك بالدولة والمجتمع العربي هو الاستبداد والطغيان، وأن دواءه ما أطلق عليه اسم (الشورى الدستورية). وكنا قد ألمحنا إلى أنّ أحمد لطفي السيد قد ردّد هذه الفكرة في غير مكان وأكثر من مرّة محاولاً إزاحة غموض المفهوم والمدلول السياسي وتركيبه الهجين بين منظومتين فكريتين متبانيتين (شرعية وليبرالية). الدستور هو الجواب السياسي عن معضلة الطغيان والاستبداد المتفشية، لأنَّ الدستور هو القانون الأعلى الذي تنتظم به أمور الدولة وتتحدّد به السلطات والاختصاصات والقواعد الأساسية لشكل الدولة (بسيطة أم مركبة) و(نظام الحكم) (ملكي) أو (جمهوري) وشكل الحكومة (رئاسية) أم (برلمانية) ،ويشمل الدستور اختصاصات السلطات الثلاث (السلطة التشريعية، والسلطة القضائية، والسلطة التنفيذية)، وتلتزم به كل القوانين الأدنى مرتبة في الهرم التشريعي. وتنتهي عملية التسلط والمزاج كآليات تقليدية في إدارة سلطة الدولة. انَّ (الدستور) هو المفتاح السحري لفتح الطريق واسعاً أمام قيام الدولة الوطنية الحديثة واكتسابها الشرعية القانونية على مثال ما حصل في العديد من المجتمعات الأوروبية الحديثة. فالدستور وحده يعيد الدولة ومؤسساتها وهيئاتها إلى المجتمع كملكية مصادرة منه من قبل فرد أو أسرة أو طائفة معينة، أو مجموعة اجتماعية عشائرية أو قبلية، ويقيمها على مقتضى التشريعات والقوانين بما هو تعبير عن الإرادة العامة .
الجدير بالذكر إنَّ الليبرالية العربية، في إصرارها الشديدعلى الدستور وفصل السلطات والتمثيل النيابي، كانت تتجه بخطاها أبعد في تمثلها واستيعابها وفهمها للمنظومة الفكرية الليبرالية، ونصوص كبار ممثليها (الفيلسوف التجريبي والمفكر السياسي الانكليزي جون لوك John Locke (1632ـ 1705). والقاضي ورجل الأدب والفيلسوف السياسي الفرنسي (شارل لوي دي سيكوندا Charles Louis de Secondat) المعروف باسم (مونتيسكيو Montesquieu) ( 1689 ـ1755)، وهو صاحب نظرية فصل السلطات الذي تعتمده العديد من الدساتير عبر العالم في عصرنا الحديث. و الكاتب والأديب والفيلسوف الجنيفي جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau) (1712 ـ1778) م، ويعتبر كتابه الهام (العقد الاجتماعي) حجر الزاوية في الفكر السياسي والاجتماعي الحديث والمعاصر. لكنها كانت، في الوقت ذاته، تجيب عن الواقع السياسي القائم في مصر وأنحاء الإمبراطورية العثمانية وقتذاك، هو واقع هيمنة نموذج النظام الملكي المطلق . ومن الطبيعي أن لا تتمكن من الرد سوى استعارة مفاهيم الفكر الليبرالي الأوروبي الحديث والمعاصر. وقد يكون صحيحاً نوعاً ما أنها تمثلت لحظات مختلفة ومتنوعة من ذلك الفكر، كانت الواحدة منها ثمرة لفترتها التاريخية وعصرها، وبالتالي خلطت بينها وتناوبت بين الصح والخطأ، والموضوعي والتصورات، فضاع من خطابها الثبات والتماسك الفكري والرؤية المستقبلية، ولكن حاجتها إلى الأفكار والمفاهيم والآراء الليبرالية، بمعزلٍ عن وجود أو غياب ثبات أو تماسك نظري، حاجة تاريخية وسياسية أكثر مما هي حاجة فكرية وثقافية ومعرفية، وهو ما يكرِّسُ البعد النفعي لأفكارها وتصوراتها ويشفع لتمثلها العابر للحدود والحواجز بين الدراسات والأبحاث والمقالات الليبرالية الأوروبية والتي تم إغفال منظوميتها .
إنّ تلك الأمثلة جاءت ضمن سياقات عربية زاحمت فكرة الدستور، وكادت تضعها جانباً وهي فكرة الحرية، وحرية الفرد بشكلٍ خاص، تلك السياقات تردَّدت كثيراً في كتابات المفكر أحمد لطفي السيد في كتابيه: (صفحات مطوية من تاريخ الحركة الاستقلالية) وكتاب (تأملات) وبدت وكأنها مفتاح شرعية الدولة المنقوصة الشرعية. وليست المشكلة في مبدأ الحرية والحرية الفردية، كواحد من أساسات وقواعد الفكر الليبرالي، منذ القرن السابع عشر، وإنما في ما آل إليه في ذلك الفكر الحُر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مع الفيلسوف والاقتصادي البريطاني (جون ستيوارت ميل John Stuart Mill) (1806 ـ 1873) م، من معانٍ جديدة وضعت الحرية في مقابل الدولة الوطنية، وهي المعاني والمدلولات التي تسربت إلى فكر أحمد لطفي السيد وغيره من الليبراليين العرب، وغيَّرت من معنى شرعية الدولة وسيادتها الدستورية، وتلك يتم مقارنتها على فداحات وخسائر ذلك الخلط بين أزمنة الفكر الليبرالي الغربي الأوروبي في الوعي العربي.
في هذا السياق وجدنا أنَّ الليبرالية العربية انتقلت سريعاً من الدفاع عن الدستور وقوته السيادية والنظام التمثيلي وتوزيع السلطات والفصل بينها، إلى الدفاع عن الفرد والحرية الفردية في وجه الدولة ومؤسساتها وإداراتها. كان ذلك بأثر واضح وكبير من قراءة مصادر الليبرالية الأوروبية المتأخرة، في نهاية القرن التاسع عشر، خاصة في بريطانيا، مثل ألكسيس دو توكفيل وجون ستيوارت مل، وكان من نتائج ذلك الانتقال أن حصل بعض التغيير في وعي مسألة شرعية الدولة في خطاب تلك الليبرالية، ففيما كان نقص الشرعية يُرد عندها إلى أنها دولة مجردة من ماهيتها القانونية (الدستور)، و(التمثيل النيابي)، و(الفصل بين السلطات)، أصبح النقص فيها من فعل دولة تصادر حريات الأفراد باسم الشعب أو الحق العام أو القانون . وإذا كان يمكن تدارك أزمة الشرعية، في الحالة الأولى، من طريق إصلاح منظومة الدولة بإقامتها على مبدأ القانون، فإن تداركها في الحالة الثانية يكاد يمتنع من دون الحد من سلطة الدولة، وهذا كان الوجه المتطرف من تلك الليبرالية الذي لم يكن يقابله في التطرف سوى تأميم الدولة أو تأليه دورها.
في الختام يمكننا القول أنَّ الخطاب الليبرالي العربي بقي متوجِّساً من دولة لم يقم أمرها تماماً على مقتضى حديث أو معاصر، حتى في حقبتها الكولونيالية الاستعمارية التي كتب فيها المفكر أحمد لطفي السيد، وهو تخوّف تفاقم وازداد منذ الربع الأول من القرن العشرين حين بدأت الليبرالية العربية تستشعر خطر صعود الدعوات المتزايدة إلى الوصل بين الدولة والدين ليس في مصر وحسب بل في بلاد الشام.