فكر

فرانسيس فوكوياما ونهاية التاريخ.. قراءة أولية

بقلم: عماد خالد رحمة | برلين
ما يعيشه العالم اليوم من تحوّلاتٍ وتغيّراتٍ جوهريّة، أحدَثَ ويُحدِث من الآثار الثقافية والفكرية والمعرفية والنفسية والاقتصادية الشيء الكثير، ويفتح الباب على مصراعيه أمام تناقضاتٍ جديدةٍ مبهمةٍ وغيرُ مسبوقة، لكنها لا تنهي التاريخ، الذي لن ينتهي أبداً،وهي تتطلبُ وعياً وفهماً خاصّاً مختلفاً، لمعظم العمليات الجارية في العالم المتشابك، غير الفهم الذي يُريد أن يَضع نهاية للتاريخ كما أراده الفيلسوف والاقتصادي والسياسي الأمريكي (يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما (Yoshihiro Francis Fukuyama)ياباني الجنسية ،مؤلف كتاب (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) الصادر عام 1992م. مجادلاً في مجال انتشار الديمقراطيات الرأسمالية والديمقراطية والسوق الحرّة في معظم دول العالم، وهذا قد يشير إلى نقطة النهاية للتطوّر الثقافي والاجتماعي والسياسي للإنسان. أو يفسِّر طبيعة العمليات الجارية فيه، بما فيها المواجهات الساخنة والدامية، كما لو كانت مجرَّد مواجهات بين الثقافات والحضارات الإنسانية والأديان. فقد كتب في دورية ناشونال إنترست(National Interest) مقالةً هامة وخطيرة عام 1989م قال فيها : (إنَّ تاريخ النظم الشمولية والاضطهاد قد ولّى وانتهى بغير رجعة مع انتهاء الحرب الباردة (1962 ـ 1979) م، وهدم جدار برلين لتحل مكانه الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية) .
لقد اتخذ الجدال حول التاريخ بانتظام التاريخ، بمعنى آخر عدم اتخاذه مساراً وتوجهاً عشوائياً أو دورياً. التاريخ الموجّه يعني عدم عودة أشكال التنظيم المجتمعي المنحلّة، وهذا يتطلّب أن يكون المسار الموجّه للتاريخ عبر سيرورته عدّة آليات ثابتةً، أو ماضي تاريخي تملي عليه عملية التطوّر خطوة ما في اتجاهٍ معيّن مسبقاً، مع الاحتفاظ بذاكرةٍ قويةٍ عن العصور السابقة. لقد تمَّ افتراض هزيمة الأيديولوجيات السياسية التي لا تكتسب الصفات العالمية. على سبيل المثال : الإيديولوجيا الإسلامية والصينية. وتم طرح التناقض الكبير الحاصل بين أنظمة الحكم السياسي والعسكري عبر تاريخ الإنسانية، من الملكيات والأرستقراطيات،إلى الإمارات، إلى الحكومات الدينية الخاضعة لرجال الدين وسطوتهم، إلى الديكتاتوريات والحكومات المستبدّة التي يحكمها طغاة كالتي تشبه سياسة بعض البلدان في فترةٍ من الفترات، وأنَّ جميع النظم والأيديولوجيات لم تصل ولا يمكن أن تصل، مهما عملت، إلى عالمية الليبرالية الديمقراطية. فالذرائع والحجج الإيديولوجية للآخرين، لا يمكنها أن ترقى ولا بأي شكلٍ من الأشكال إلى منافسة ومقارنة الديمقراطية الليبرالية ـ حسب فوكوياما ـ
من جهةٍ أخرى، تعتبر المجتمعات الاستيطانية من أكثر المجتمعات عداءً للتاريخ، وأشدّها نكراناً لصيرورته وسيرورته، ومن أكثرها سعياً لإعلان نهايته. كما أنَّ المجتمعات الاستيطانية تتميَّز بتطرّفها، فالمستوطنون البيض الأوائل في الولايات المتحدة الأمريكية كانوا ينظرون إلى أمريكا الشمالية باعتبارها أرضاً عذراء. بلا ذاكرة ولا تاريخ ولا بشر. وهذا كان يعني ضرورة وضع حل نهائي وجذري للمشكلة الديمغرافية، أي وضع حدّ لمشكلة وجود السكان الأصليين في (أرض الميعاد)، وضرورة إنهاءهم واستئصال شأفتهم .
وكان الشاعر الأمريكي والت ويتمان Walt Whitman (31 أيار 1819 ـ 26 آذار 1892) م أحد أهم شعراء أمريكا وأكثرهم تأثيراً في القرن التاسع عشر، يرى أنَّ أمريكا (الولايات المتحدة الأمريكية) الحالية، هي الفردوس الأرضي الذي تسود فيه قوانين المادّة، وسيتحقق فيها قمّة التطور التاريخي السابق كلَّه، فهي دولةُ العلمِ والثقافةِ، والمَعرِفةِ والتكنولوجيا التي ستهدِّم التاريخ وتعلن نهايته. كان ذلك قبل أن يتحدث الفيلسوف والاقتصادي السياسي الأمريكي فرانسيس فوكوياما في نهاية ثمانينات القرن الماضي عن نهاية التاريخ واليوم الأوَّل .
انطلقت أطروحة فرانسيس فوكوياما (نهاية العالم End of History) من إيديولوجية تبناها النظام العالمي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق والتي حتمت عليه الدخول في ترتيبات جديد بعد ذلك الاإنهيار، ودخول العالم منعطفاً جديداً. ومن أجل إيجاد تبرير لمنظومة فكرية متكاملة استند النظام العالمي الجديد على رؤية معرفية وغطاء فكري، يروِّجان لديمومته. وهذا دليل على بروز نظرية العالم والسياسي الأمريكي البروفيسور صموئيل هنتغتون (Samuel Phillips Huntington) (1927 ـ 2008) المنادية بصراع الحضارات التي ترافقت مع نظرية ما بعد الحداثة ونظرية تسارع وتيرة التاريخ، وجميعها نظريات ساهمت بالترويج لفكرة الليبرالية الديمقراطية وحتمية سيادتها في النظام العالمي الجديد .
نظرية البروفيسور فرانسيس فوكوياما Fukuyamaلم تخرج عن هذا المسار، إذ اتخذت على عاتقها مسؤولية نشر وترويج فكرة الإجماع العالمي حول الليبرالية الديموقراطية، واعتبار النظام الليبرالي العالمي هو الحل النهائي لكل مشاكل الإنسانية جمعاء. وأنَّ هذا النظام هو الحل الذي تنشده الإنسانية دون تردّد. وبذلك انتهت الحرب الباردة (1962 ـ 1979) م. وهي الفترة التي حدث فيها الانقسام الرهيب بين الاتحاد السوفييتي السابق واتباعه، وبين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. وبذلك انتهت مسألة الصراع الأيديولوجي لينتهي معها التاريخ في هذا الإطار. وهكذا يصبح البروفيسور فرانسيس فوكوياما مجرَّد أداة يستخدمها النظام الدولي الجديد من أجل الترويج له ولمشروعه العالمي، كما تم استخدام فوكوياما كبوق دعاية لهذا النظام الجديد الذي بدأ مرحلته التأسيسية، وهكذا تحوَّلت نظريته الفلسفية إلى خطاب سياسي أيديولوجي ينادي بأبدية الرأسمالية في إطارها الجديد ويبشّر بها. والتأكيد في الوقت نفسه على عدم إمكانية مناهضتها بسبب ما تم تحقيقه من نصر مستدام، وهزيمته النهائية لجميع أعدائه ومعارضيه.
الجدير بالذكر أنه صدرت دراسة للناقد الأدبي والناقد الاجتماعي والمنظِّر البروفيسور ستيوارت سيم المختص بشؤون العولمة، وما بعد الحداثة، والبنيوية، والماركسية، والفلسفة القاريّة. بعنوان : (دريدا ونهاية التاريخ) أوضح فيها الباحث أنّ الفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي )جاك دريدا( Jacques Derrida‏ (1930 – 2004) م، يرى في نظرية فرانسيس فوكوياما (حيلة أيديولوجية لبث الثقة في النفس). وهو تعبير عن انتصار مزعوم للرأسمالية الليبرالية، وحليفها الطبيعي الديمقراطية الليبرالية، وهي مرحلة هشّة وضعيفة أكثر من أي وقتٍ مضى. كما يرى )جاك دريدا( Jacques Derrida‏ أنَّ القول بنهاية التاريخ يعني بما لا يدع مجالاً للشك، هو قمع أيّ معارضة أيديولوجية للأنظمة السائدة، وأيّ معارضة سياسية واضحة الرأي والأهداف. وأنَّ فرانسيس فوكوياما أساء قراءة الحالة المعاصرة للسياسة، وأنَّ المثال الليبرالي الديمقراطي الذي يؤكد انتصاره لا يزال يعاني المزيد من المشكلات والقضايا الهيكلية، كما يعاني من التصدعات الحادّة داخل العالم الغربي نفسه.
لم تكن نظرية الفيلسوف فرانسيس فوكوياماFukuyama قد جاوزت الزمن أو تجاوزت الواقع. فقد أدلى المفكر الاقتصادي المصري سمير أمين (1931 ـ 2018) م، وهو من أهم مؤسسي نظرية المنظومات العالمية، وهو الذي قدّم مصطلح (المركزية الأوروبية) فقد أدلى برأيه من خلال بحث جاد جاء تحت عنوان : ( نقد مقولة نهاية التاريخ) والذي جاء فيه : ( لقد فات فرنسيس فوكوياما أنَّ فكرة (نهاية التاريخ End of History) هي فكرة قديمة جداً قِدَم الإنسانية، فالأيديولوجيات المسيطرة ترى أنّ نظامها أبدي، وأنّه تم تكريس فكرة (نهاية التاريخEnd of History) في مراحل تاريخية سابقة على العقيدة الدينية، وألا ترى هذه العقائد الدينية نفسها على أنها تقدم إجابات كافية و”نهائية”؟ أما اليوم، في عالم الرأسمالية، وبما أنَّ مرجعية المشروعية الاجتماعية المنتشرة أصبحت تقوم على الفعالية الاقتصادية العامة فقد لجأ الخطاب السائد إلى نسب طابع أبدي لقوانين السوق والتجارة حتى يكرِّس فكرة نهاية التاريخ، ولم يُدرك فرانسيس فوكوياما أنَّ انتقال مرجعية المشروعية من مجال العقيدة الدينية، إلى مجال الفعالية الاقتصادية، إنما هو في حدِّ ذاتَه انعكاسٌ لتحوُّل آخر تم من داخل هيكل النظام الاجتماعي، وهذا أدّى إلى هيمنة الاقتصاد وسيطرته في إعادة إنتاج المجتمع من جديد، حتى تمكنت القوة الاقتصادية من احتلال مكانة العقيدة الدينية.
مفهوم نهاية التاريخ End of History هو مفهوم سياسي وفلسفي في آن، يفترض أنَّ نظاماً اقتصادياً أو سياسياً أو اجتماعياً محدًداً ومعيناً قد وصل إلى مستوى من النضج والاكتمال، بحيث يشكِّلُ نقطة النهاية لاستمرار البشرية وتطورها. ويختلف مفهوم (نهاية التاريخ(End of History عن أفكار (نهاية العالم the end of the world) وكانت الديانات على اختلاف منبعها قد عبّرت عن ذلك. وتنبأت بحدوث دمار كامل لكرتنا الأرضية، وانتهاء الحياة بشكلٍ كامل، بما فيها الجنس البشري. بينما نهاية التاريخ تبقى حالة مستمرة تستمر فيها حياة البشر إلى ما لا نهاية دون أي تغييرات أساسية جديدة في المجتمع أو الاقتصاد أو نظام الحكم، أي أن المجتمعات قد تصل إلى مستوى من التطور المحدّد،ولا يمكن أن يكون بديلاً عنها. فيصبح التاريخThe History سكونياً تماماً، خالياً من الصراعات والتدافع، والخصوصيات، والثنائيات وسيُسيطر الإنسان سيطرةً كاملةً على نفسه وعلى بيئته، وسيجد حلولاً نهائية حاسمة لكل قضاياه ومشاكله وآلامه.
من يقرأ تاريخ الفلسفة وفلسفة التاريخ، يدرك أنّ فكرة نهاية التاريخ ليست مستحدثة أو جديدة، بل هي فكرة موغلة في القِدَم، فقد أنبأنا الفكر اليوناني القديم أنَّ الفيلسوف اليوناني أفلاطون (عاش 427 ق.م – 347 ق.م) قد تحدّث عن نهاية التاريخ End of History من خلال ارتقاء الروح البشرية من عالم الواقع المُعاش إلى عالم المُثُل، فقد جمع بين النزعة العقلية، والنزعة الروحية عن طريق إيمانه شبه المطلق بالفلسفة التي يمكنها أن تخلِّص النفس البشرية وتُدخِلُها النعيم الابدي، بينما قال الفيلسوف اليوناني أرسطو ‏(384 ق.م – 322 ق.م) في كتابه الهام (السياسة) أنه ربط نهاية التاريخ بنهاية النظم السياسية المُفسِدة والفاسدة .
واعتبر الفيلسوف الألماني (جورج فيلهلم فريدريش هيغل Georg Wilhelm Friedrich Hegel) ( 27 أغسطس 1770 — 14 نوفمبر 1831) أنَّ انتصار الثورة الفرنسية عام 1806م كان إيذاناً بإعلان نهاية التاريخ، حيث يعتبر الفيلسوف الألماني هيغل Hegelأنَّ في انتصار دولة أو مجتمع نهاية للتاريخ، وهو ما تحقَّق بانتصار الثورة الفرنسية عام 1806م. وربما استند فرانسيس فوكوياما في بناء نظريته عن (نهاية التاريخ) على الكثير من أفكار الفيلسوف الألماني هيغل.
أخيراً وجدنا أنَّ فرانسيس فوكوياما قد انقلب على مواقفه السابقة منذ عام 2004 م. مؤكداً تحلّل النموذج الليبرالي وهو نفسه النموذج الذي كان قد بشّر بانتصاره النهائي والحاسم .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى