قراءة في ديوان “الفرح المتأخر يغمرني” للشاعر فارس مطر
القصيدة الطويلة من الغنائية إلى الدرامية والملحمية
د. فصيل القصيري
شهدت القصيدة العربية الحديثة تحولات عدة في مجال الشكل الفني، وبعد أن كان شكل القصيدة من حيث الطول والقصر، لا يعني شيئاً ذا أهمية، قبل محاولات الرواد في تبني نماذج شعرية حديثة، تراعي مختلف الأنماط الجديدة في التعبير الشعري، بعد كل هذا أصبحت القصيدة طويلة أو قصيرة على نحو مقصود، وبوعي مقصود، تلبية لحاجات نفسية وفنية، تتدخل تدخلاً حاسماً في تشكيل بنية القصيدة.
إنَّ القصيدة الطويلة هي الإطار المناسب لضخامة التجربة الشعرية الجديدة بكل ما يكتنفها من أحاسيس بيئية ووجدانية مختلطة؛ ولأنَّ هذه القصيدة لم تعد محض انفعال بالأحداث والهزات التي تواجه الشاعر الحديث، وإنما هي رؤيا شعرية، تلخص موقفاً شمولياً إزاء الكون والحياة، بكل مفرداتها وظواهرها المتسقة أو المتصارعة التي تزج الشاعر في جدليات لا حدود لها، مثل ظاهرة الزمن وجدل الحب والحرب وثنائية الحياة والموت، وإشكالية الجنس والدين، والموقف من المدينة بوصفها صدمة حضارية تواجه الشاعر العربي الحديث([1]). لكل هذه المعطيات الجديدة أفسحت القصيدة الطويلة مجالاً رحباً وخصباً في الوقت نفسه.
“والحق أنَّ القصيدة الطويلة، هي الكشف الحقيقي في ميدان الشعر العربي الحديث بعامة، والإضافة الجديدة بمزيد من الاهتمام في وقتنا الحاضر”([2]).وهذا يعني أنها واحدة من أهم انجازات الحداثة الشعرية العربية على مستوى الفني للقصيدة في شكلها الجديد.
وإذا كانت النزعة الدرامية هي واحدة من أهم علامات القصيدة الطويلة (الشاملة)، فإنَّ هذا لا يعني أنَّ أية قصيدة طويلة هي درامية على نحو حاسم، بمعنى آخر ينبغي “ألاّ يتبادر إلى الذهن بأنَّ أي قصيدة طويلة، هي درامية بالضرورة فليس الطول وحده ميزة للعطاء الدرامي”([3]).
ولكن أغلب القصائد الطويلة تميل إلى الإفادة من فن المسرح في بنائها على نحو واضح “حين يتهيأ لها فنان مقتدر”([4]). كما يعطي الفن الملحمي المبرر الكافي لطول القصيدة.
لقد أدرك الشاعر العربي الحديث قصور الشعر الغنائي عن استيعاب تجربته الإنسانية الأدبية التي بدأت تميل إلى الشمولية الكونية، أي أنه ما عاد شاعر تجارب وجدانية غنائية فحسب، لقد دفعه هذا الإدراك إلى الاقتراب بالقصيدة من المناخ الدرامي، كي تقوى على التعبير عن الصراع والتأزم اللذين يعيشهما، وهكذا “بدأت تنحسر ظلال الغنائية، لتحل مكانها أجواء درامية، وتضاءلت الأغراض القديمة، وصار الإنسان مدار مضامين شعرية تحمل سمات محلية واضحة، تؤدي إلى عالمية في الذيوع والانتشار([5]). إذن بدأ الشاعر العربي الحديث، يعي ضرورة التحول من الغنائية إلى الدراما الشعرية بوصفها أفضل مناخ للتعبير عن الواقع([6]).
ويتطلب هذا التطور في بنية القصيدة انتقال الشاعر من الذاتي (الخاص) إلى الموضوعي (العام) في أجواء تنعدم فيها مؤثرات (الأنا)، بمعنى أنَّ الشاعر بدأ يتخلى عن صوته الخاص، لصالح شخصيات القصيدة، أو أقنعتها ليتمكن في نهاية الأمر من بناء حوار متماسك، يكون جزءاً من الحدث، ليس من الممكن أن ينفصل عنه، وهي مهمة صعبة تتطلب المزيد من المهارة والجهد المتواصل([7]).
ويذهب صالح أبو أصبع إلى أنَّ “الحوار بما يتسم به من حركية، يكسب القصيدة الغنائية حداً درامياً”([8]).
لقد أصبح واضحاً أنَّ الشاعر الحديث، بدأ يميل “إلى كتابة القصيدة الطويلة او القصيدة ذات المقاطع المتنامية التي هي اقرب أيضاً من الأداء الدرامي”([9])، وذلك لأنَّ القصيدة القصيرة، لم تعد قادرة على استيعاب هموم الإنسان المناصر ومشكلاته([10]).
إنَّ النسيج النصي ذا العناصر القصصية والأسطورية والشعبية والأجواء التاريخية المهيبة، لا يمكن أن تستوعبه إلاّ بنية القصيدة الطويلة، وهكذا يبدو مسوغاً أن تطول القصيدة على أساس فني وموضوعي معاً، فالقصيدة بنيان متراص أو لنقل إنها “ذلك النسيج الحي المتكامل”([11]).
ولعل عنصر السرد أو القص، بات ظهوره أكثر وضوحاً في القصيدة الحديثة “وقد يكون للقصيدة عنصر قصصي تاريخي أو غير تاريخي، وحينذاك تكون وحدتها شبيهة بوحدة المسرحية”([12]).
وقد حملت ثورة الشعر الحديث، لواء “التبشير بإمكانية الإفادة من بعض مستويات السرد والحكاية في بناء القصيدة”([13])، إذ انفتحت القصيدة الحديثة –في ضوء نظرية تداخل الأجناس الأدبية، وتلاقح الفنون الإبداعية- على عوالم جديدة لم تكن لتألفها أو تقترب من قبل.
“وبصورة عامة بدأ الشعر في السنوات الأخيرة يميل إلى الاتحاد مع الفنون الأخرى الرواية والرسم والقصة القصيرة والنحت، وليس غريباً أن يوسع دائرة هذا الاتحاد مع الفنون الأخرى في السنوات القادمة”([14]).
وقد صدقت نبوءة جماعة (البيان الشعري) الصادر سنة 1969، فهات هو الشعر يوسع دائرة انفتاحه، فيستعير من فن السينما تقانة (المونتاج)، وتقانة “السيناريو”، وها هو يفيد من فنون الطباعة الحديثة، فيستثمر إمكاناتها في إثراء القصيدة بدلالات جديدة([15])، تتشكل لحظة التماس البصري مع الشكل الطباعي للقصيدة، أي في لحظة وقوع النص الشعري في منطقة القراءة، فالنص لا يغدو خطاباً إلاّ حين يدخل في مجال حيوي بتعرضه للتلقي.
كما لا ننسى أنَّ القصيدة الحديثة والشاعر الحديث، أفادا من أجناس أدبية وفنون إبداعية أخرى، كالمذكرات والسيرة الذاتية، فها هو مصطلح (القصيدة السيرذاتية)([16])، يفرض حضوره، ويطرح أنموذجه في الساحة النقدية.
كما تجدر الإشارة إلى إفادة الشعر في دائرة القصيدة من إمكانات الخط العربي والزخرفة واللوحة الفنية، وهذا لا يعني أنَّ القصيدة القصيرة، كانت بمعزل عن كل هذه المؤثرات، ولكن الذي يهمنا في هذا البحث هو القصيدة الطويلة ذات التوجه الدرامي والحس الملحمي، ولابد من شد الانتباه إلى أنَّ القصيدة الطويلة هي المؤهلة للإفادة من كل هذه المعطيات، أو من معظمها دفعة واحدة، لما لهذا الشكل الشعري من فخامة وهيبة وقدرة على الامتصاص والهضم والامتلاء، وإعادة إنتاج المادة بعد تدميرها وتقويضها، عبر بناء تركيبي متكامل ومعقد وشائك، هو ما نسميه القصيدة الطويلة التي نقترح وصفها بـ (الشاملة)، لما تنطوي عليه من شمولية التشكيل والتلوين “إذ إنها بناء على مستويين، مستوى الفن ومستوى الحياة ذاتها، فنحن لا نستبصر في القصيدة ذات الطابع الدرامي بمقدرة الشاعر على بناء عمله الشعري بناءً فنياً فحسب، بل نعاين كذلك –وهذه هي القيمة الموضوعية لعمله- مدى قدرته على المشاركة في بناء الحياة وتشكيلها”([17]).
ونخلص بعد ذلك إلى أهمية القصيدة الطويلة في نقل التجربة الإنسانية كموقف ورؤيا شعرية على نحو كبير من التعميم والشمول والانفتاح على الزمن والمكان والتاريخ بلا حدود.
إلاّ أنَّ هذه الحرية اللافتة التي اكتسبها الشاعر الحديث، وأغنى قصيدته بها تحتاج منه إلى وعي كبير، يؤهله لإدراك فلسفة الأخذ من جهة، والكيفية الفنية لتوظيف المأخوذ من جهة أخرى، إذ إنَّ فعاليات التداخل والأخذ والتوظيف كلها يجب أن تكيف على النحو الذي يستجيب ويتلاءم مع فضاء القصيدة، وقوانين جنس الشعر؛ لأنَّ المبالغة في الاستجابة لإغراء الانفتاح على الفنون الأخرى، أكثر مما يجب، من شأنه أن يفسد القصيدة ويمحو هويتها النوعية
– القصيدة الطويلة، والمطولة الشعرية
يخلط بعض الشعراء والدارسين خلطاً يفتقر إلى الدقة بين القصائد الطويلة والمطولات الشعرية، إذ لا يعي البعض مدى خطورة هذا الخلط الذي يلحق ضرراً كبيراً ببناء القصيدة الفني، ولعل الناقد عز الدين إسماعيل واحد من أكثر النقاد العرب المعاصرين اهتماماً بهذه الإشكالية التي واجهت شعرنا العربي المعاصر، وألقت بظلالها على المشهد الشعري العربي برمته، إذا ما أن ذاعت وانتشرت قصيدة (الرجال الجوف) أو (الأرض الخراب) لتوماس إليوت، حتى بدأ الشعراء العرب باللجوء إلى إطار القصيدة، تحت تأثير مخدر قصيدة إليوت (الأرض الخراب) التي تعد من أوضح الأمثلة على القصيدة الطويلة المعاصرة([18]).
وإذا كان عز الدين إسماعيل يقرر أن القصيدة الجديدة ويعني القصيدة الطويلة قد تطورت أولاً على أيدي رواد قصيدة التفعيلة (الشعر الحر) باتجاه الخط الدرامي المتصاعد([19])، فإنَّ هذا التقرير يعطي بقية القصائد التي تطول خارج الإطار الدرامي من مصطلح القصيدة الطويلة كامتياز فني، ومن ثم تكون مطولات لا طائل وراءها ولا جدوى منها.
إنَّ من عيوب (المطولات) اعتمادها على السرد غير المكثف واهتمامها بالتفاصيل اليومية الهامشية، والتعليقات الساذجة على الأحداث والمواقف التي تحفل بها القصيدة، وطغيان الانفعال والخطابية، وبالتالي فإنَّ كمية الإنشاء تطغى على نوعية الفن في هذا النمط من القصائد (المطولات)، وبعد فإنَّ هذه المطولات أصبحت تقليعة مغرية، جرت إليها عدداً كبيراً من الشعراء المولعين بالثرثرة الجميلة، وفتحت شهيتهم إلى القول إلى أقصى مداها، أما القصيدة الطويلة الناضجة فهي التي لا يمكن أن تبنى إلاّ على تجربة كبيرة وغنية ومتعددة الجوانب والإشكالات([20]).
إنَّ طول القصيدة يجب أن يتلازم مع التجربة الشعرية والحالة النفسية للشاعر، لحظة الشروع بالقول الشعري، “ولا يجدر بالقصيدة أن تتجاوز الطول الذي ألفته العقيلة البشرية، ومن هنا يحدث الملل والرفض للتطويل غير المألوف والمقنع”([21]).
ولعل التكرار غير المفيد واحد من الأمراض الفنية التي تصيب (المطولات) ويشكل عبئاً عليها عندما لا يؤدي وظيفة جمالية، بل يفضي إلى ترهل في جسد القصيدة من حيث هي هندسة معمارية يجب أن تكون على قدر عالٍ من الدقة والاتساق والأناقة.
كذلك فإنَّ سوء استخدام الشاعر للأسطورة وتوظيف التراث والمكان –حين تكون هذه التقانات محض ملصقات خارجية على جسد القصيدة يؤدي إلى تطويل القصيدة على نحو مفتعل.
ديوان “الفرح المتأخر يغمرني”نموذجاً للقصيدة الطويلة
* هذه القصيدة الطويلة حقاً ذات التوجه السياسي والملحمي والتراجيدي، يصح القول إنها تجربة شعرية ضخمة، ومغامرة جمالية تلمس فيها مهارة الشاعر ومقدرته على تقديم قصيدة معقدة البناء وذات مناخات متعددة وأحداث متعددة وفضاءات متعددة يمتزج فيها الخاص بالعام أي الذاتي بالموضوعي، فهموم الشاعر لا تنتهي في حدود ضيقة تقف عند محور الذات، إنما هي هموم إنسانية شاسعة تنمو باتجاه الخارج في الزمان والمكان، وبما ان مركز التجربة الشعرية لديه هي الحرب، فإنَّ قصيدته هذه لابد من أن تكون ذات طابع تراجيدي/ مأساوي يلخص محنة الإنسان العراقي الذي طحنته الحرب ومسخت وجوده الإنساني وقتلت كل ما هو جميل في داخله، وأصبح مثالاً للانسان المعذب المقهور في وطنه أو المنفي بعيداً عنه، يكابد أوجاع وأشواك المنفى، ويعيش على أمل الرجوع إليه في يوم قد يأتي وقد لا يأتي.
* هذه القصيدة الكبيرة تعد في تقديري انبثاقة خلاقة تتشكل درامياً وملحمياً بل وشمولياً، تنفتح فيه فضاءات القصيدة على عوالم بلا حدود من السرد والتشكيل والرؤى المبدعة، فالمنظور الحديث للقصيدة يذهب إلى أنها بناء تركيبي متكامل فيه عوالم كثيرة، على عكس المنظور التقليدي للشكل.
* هذه القصيدة كسرت الغنائية من أجل الاقتراب من منطقة النثر المفتوح الملحمي والدرامي، وكسرت النثرية بخلق إيقاعات تنتمي لمنطقة تجمع بين السرد والشعر، فيها يختلط الشعري بالسردي، والواقعي بالمتخيل، والملحمي بالدرامي، واليومي بالأسطوري، مما يلفت انتباه عين القراءة النقدية إلى غنى وثراء وتطور تركيبة هذه القصيدة التي تؤكد أنَّ الشاعر الحديث لم يعد ليكتفي بالانفعال والدهشة إزاء ما يواجه من أحداث وقضايا وتحديات تهدد المصير والوجود، وإنما جنح إلى التفاعل الحقيقي والتأمل الطويل قبل ان يشرع بكتابة قصيدة قد تطول لتشكل ديواناً كاملاً كما هي الحال مع المجموعة الشعرية “الفرح المتأخر يغمرني” للشاعر العراقي المغترب فارس مطر، إذ جاءت المجموعة لتضم قصيدة طويلة تمكن فيها الشاعر من عرض جميع أبعاد تجربته الإنسانية في عمل شعري باذخ امتد على الورق إلى أكثر من مائة صفحة وصف فيها مكابداته ومخاضاته وأحزانه في زمن الحرب الكارثية التي استهلكت أجمل سنوات عمره الشبابية، وابتلعت أحلامه وأحالته أوراقاً مشرعة للريح التي قذفته إلى المجهول، وألقته في اليم فيجد نفسه في نهاية الكابوس في المنفى يحمل في داخله صليبه وحيداً يحمل عبء قصيدته النازفة.
قراءة في العنوان.. فاعلية العتبة العنوانية
يشكل العنوان عتبة أولى وإضاءة أولى تخترق عناق النفس، ودالاً سيميائياً وموجهاً قرائياً، ورأس الخيط الذي ينتهي بنهاية التعب نفسه، هذا العنوان هو “الفرح المتأخر يغمرني” يتكون من مبتدأ اسمي هو (الفرح) ونعته التابع (المتأخر)، ومن الخبر جملة فعلية “يغمرني”، تتصدر مفردة (الفرح) جملة العنوان، الأمر الذي يوحي للقاريء ببداية طقس احتفالي/ احتفائي من نوع ما، فياتي الخبر وهو الجملة الفعلية (يغمرني) ليؤكد حالة الامتلاء بهذا الفرح الذي جاء متأخراً، كما يضمر وجود حدث ما يستدعي كل هذا الفرح الذي طال انتظاره، ولكن قراءة النص الشعري كاملاً توجه صدمة للمتلقي الذي لن يجد أي اثر لهذا الفرح المزعوم، وبالتالي يحقق العنوان فاعليته في المفاجأة والمفارقة والإثارة والتضاد مع المتن، ومن أين يجيء الفرح إلى الذات الشاعرة أو إلى الشخصية المركزية أي الشاعر وهو الذي كابد غربتين غربة الروح وغربة المنفى، وخاض صراعين صراع الذات وصراع الذات مع الآخر وكابد الحرب بكل قسوتها وكوابيسها وسطوتها، هذه المطحنة التي لم تكف لسنوات طوال من محو آلاف البشر من قيد الأحياء وعلى نحو خاص الجنود الذين كانوا وقوداً لها، جهنم نفسها جيء بها إلى وطن النخيل والفراتين لتحرق الأخضر واليابس، وتحيل كل الأشياء إلى رماد بما في ذلك سنوات العمر/ خمسون رماداً/ العام الأول للهجرة/ نحو مصيري، وإذا تتبعنا مفردة (فرح) أو ما يدل عليها، سنجد العكس هو المهيمن على أجواء النص من ألفه إلى يائه، واعني النقيض وهو (الحزن)، فالحزن مرتبط بالحرب وكل ما ينجم عنها أو يرتبط بها أو يحيل عليها نحو قول “ملايين الأسماء كأشجار قطعوها/ حرب ودماء أخرى/ خيم أخرى/ صوتي ينمو وجعاً أحدب” يبدو هذا النص مثالاً جيداً لهيمنة صورة الحزن وما تحته من أجواء النص برمته، وهي بالضرورة صورة الفجيعة والامتلاء بالأسى، من جراء حرب ضروس تنتج يومياً عشرات القتلى والمشردين والنازحين في الخيام، يغضبهم الوجع والحزن وفقدان أحبائهم وبيوتهم، وتمتد خيوط الحزن من بغداد إلى برلين، من جنة الوطن قبل أن تحترق أنهارها وبساتينها ونخيلها وأعنابها إلى أشواك المنفى فـ “المنفى من شوكٍ مهما ساندك الطيبون” بحب الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة.
ونبقى في دائرة العنوان إذ يحق لنا أن نتساءل، أين هو الفرح ؟ ومن أين يجيء ؟ أمن ليلة سقوط بغداد ؟ من المأساة ؟ يقول الشاعر فارس مطر:
“عن ليلتها تخبرني بغداد/ برلين تخبرني …”
فبغداد احترقت وسقطت شأنها شأن برلين يوم احرقها إمبراطور نيرون.
نعم لقد احترق الوطن بكامله ولم تكن بغداد سوى رمز كبير للعراق كله وقلبه النابض بالحياة، بغداد هي كل محافظة عراقية، هي الموصل والبصرة وميسان وديالى، من هنا نفهم لماذا اشتد حزن الشاعر حتى بلغ حد (الطوفان) فقرر الهجرة، وهي في تقديري لم تكن اختياراً وإنما قدراً واضطراراً، “هجرة هي مزيج خسارات وفقدانات وقلق مشوب بالتزامات عائلية وإنسانية، وأن تكون في الموقف سنعرض عليك من التداعيات الظرفية والنفسية وسياقات الكتابة مالم تتوقعه”([22])، حاتم الصكر هاجرات عن هجرته الأولى إلى عمّان، أما الثانية فقد كانت برلين:
“برلين تكسرني/ وتحررني أفقياً بنتوءات/ بعد الطوفان”
كل هذا لا يدع مجالاً أو فسحة للفرح المفقود منذ عقود.
وخلاصة القول في العنوان رأيان:
الرأي الأول: ما يسوغ هذه التسمية رغبة الشاعر في أن يسخرَ من الفرح الغائب عنّا أساساً وعندما جاء كأمنية بدأت تلوح على خجل في سنوات ما بعد تحرير الموصل، فإنه جاءني في غير موعده.
الرأي الثاني: وربما أراد بهذا العنوان أن يحقق مفارقة قائمة على استدعاء الحزن كبديل موضوعي واقعي قاهر.
– ظواهر فنية وثيمات موضوعية:
في القصيدة الطويلة (الفرح المتأخر يغمرني)
تطرح القصيدة مجموعة من الثيمات المركزية بدءاً من الحرب التي تمثل البؤرة بوصفها بنية توليدية تنبثق منها مجموعة من الثيمات الأخرى، منها ثمية الموت وثيمة المنفى والحنين وثيمة الحزن والقلق، ومن الظواهر الفنية التي تحتشد بها ظاهرة الإيقاع والتناص والمفارقة والصورة الشعرية الجديدة والرمز والقناع، وسنحاول تناول بعضها بإيجاز لتتضح لنا مقدرة الشاعر في بناء نص شعري كبير وإشكالي ينتمي إلى مصطلح القصيدة الطويلة بامتياز لا المطولة الشعرية التي تجاوزها الشعر الأكثر حداثة، ووعياً نقدياً، وبعيداً عن الثرثرة والهتاف والتكلف.
الثيمات:
– الحرب المجنونة/ دراما الحياة والموت
تمثل الحرب حدثاً كبيراً وخطيراً لابد من أن يكون للشاعر موقفاً ورؤيا أو وجهة نظر فيها، هذا الموقف وهذه الرؤيا تلخصها هذه القصيدة الطويلة التي كتبها الشاعر وهو في المنفى يكابد أوجاعه وأشواكه في عمّان ثم في برلين، إن الحرب وعنفها وفحيحها مصدر الهام للشاعر المسكون بحب السلام والتشبث بالحياة، الكاره لثقافةَّ الموت التي تكرسها الحرب، الحرب التي تعمل على تشويه جماليات الحياة وتعطيل أو إبطاء لجوانب حياتية كثيرة تنتظر منا الانجاز كي نستطيع أن نواكب عجلة النهوض الحضاري والصعود والتقدم إلى أمام كما هي الحال لدى الأمم والشعوب الأخرى.
لعل أبرز ما تخلفه الحرب هو قتلاها، هذه الصورة تسيطر على الشاعر في معظم صفحات الديوان، وهذا النص نموذج للحرب والموت بوصفهما صنوين “آذار أتي/ وأنا لم أزهر/ من يسأل عن نيئي/ ويباسي/ تخرج من صدري/ رائحة الحرب/ قذائفها/ ووجوه جنود تتخندق/ نحو حجابات الموت/ الصرخات/ حقول الألغام/ فمن سيشفينا/ كلٌّ نحو صديقته/ وجبينه/ ويقول لقد كانوا أغصاناً/ روي كل براعمنا”
إنها إحدى صور الحرب الصادمة حيث التوتر والخوف والقلق، وانتظار الموت في كل لحظة، والضحية هو الجندي المقاتل رغماً عنه هذا البرعم الذي لم يزهر في ربيعه، ويشعر بالتهميش والإهمال واليباس، لا يباس الروح وظمأ العروق إلى ماء الحياة الهادئة والوادعة، وتخنقه رائحة الحرب في صورتها الشّمية، وتدخل في الصورة مفردات تخر يدها رهبة/ قذائفها/ وجوه الجنود/ حجابات الموت/ الصرخات/ حقول الألغام الخ، كلها علامات تكثف صورة الموت، وترفع درجة حمى إيقاعها الجنائزي، وهؤلاء القتلى باسم الوطن لن يجدوا من يهمه أمرهم لكي يشيعهم بما يليق بهم كعشاق تنتظرهم حبيباتهم وورود حدائقهم.
– المنفى والحنين
يحظى المنفى في هذه القصيدة/ الديوان بحضور واسع في مجمل القصيدة، بوصفه الملاذ والمكان البديل الذي يلون به الإنسان المنفي عن وطنه باحثاً عن الأمان والحرية والانفتاح وهي أشياء يفتقدها في وطنه، ولكنها تبقى تجربة صعبة بعيداً عن دفء الوطن وحنانه ورائحة ترابه ولذة البرحي والخستاوي.
إنَّ تجربة المنفى هي مشكلة مكانية تواجه الشاعر فتخلق لديه ضرباً من الصراع الذاتي، وتؤجج لديه الذاكرة التي تزداد فاعلية ونشاطاً في سرد الذكريات واستحضارها في لحظات تدفق تيار الحنين في عروق المنفي، وهي تجربة عاشها أدباء كبار في العراق وغيره من البلاد التي تحارب مثقفيها بوصفهم متمردين على واقعهم البائس، ولأنَّ الشاعر خلق ليكون مثقفاً احتجاجياً وصوتاً رافضاً، فقد أصبحت السلطات المتعاقبة على حكم العراق تخشى منه، وتحاول ترويضه ورشوته وإذا لم تستطع فإنها تلجا إلى مضايقته فيهرب إلى المنفى وهو الذي يعاني النفي مرتين، فهو منفي في الوطن او منفي عن الوطن، وقد أنتج هؤلاء الأدباء الشعراء أعمالاً شعرية من وحي المنفى عدت من الأعمال الخالدة، وهنا أتذكر المجموعة الشعرية للشاعر التركي ناظم حكمت الموسومة “أغنيات المنفى”، أما العراقيون فقد أنتجوا عشرات وربما مئات الأعمال الشعرية السردية وهم في المنافي من ذلك ديوان الجواهري (بريد الغربة).
وكان من شعرائنا المبدعين الذين كتبوا قصائد عالية المستوى تمثل اللوعة والأسى والحنين والاستذكارات الشاعر عدنان الصائغ والشاعر باسم فرات وآخرون.
أما شاعرنا فارس مطر المغترب في برلين بألمانيا فقد هيمن المنفى على أحاسيسه، وفرض حضوره في تجربة هذه القصيدة.
يقول في هجاء المنفى “أنا والمنفى نمتد معاً/ يعطيني أفقاً/ قلقاً/ يعطيني اللا وقت/ وحاشية الموت”، وهكذا يغدو المنفى موتاً آخر لأنه في الأساس لا يصلح أن يكون بديلاً للوطن، ففيه يشعر المغترب المنفي بالغربة والحنين إلى الجذور النابتة في المكان الأول، وإلى الذكريات التي تجلد ذاته صباح مساء وتغمره بالحزن والتوتر والقلق، في موضع آخر يقول في الحنين إلى دجلة النهر الخالد في الذاكرة والروح والوجدان:
“سأقول لدجلة/ أقدامي تعبت/ فاتركني أعدو فوق نميرك/ آخذ من موسيقاها موجك/ أغنية للمنفى”، ويا لها من أغنية إنها ضرب من المواخاة بين دجلة الرمز العراقي المكاني العظيم والمنفى، فهذه الأغنية ستكون عزاءً له إذا اتخذت من هدير موج دجلة موسيقاها ونبضها وروحها لتهدأ غربته ويخف حزنه.
– ظاهرة الحزن
يعد الحزن من أكثر العواطف صدقاً والتصاقاً بوجدان الإنسان العربي منذ عصر ما قبل الإسلام (العصر الجاهلي)، وهو أي الإنسان العربي على نحو عام ميّال إلى الحزن والكآبة لأسباب وعوامل كثيرة لا مجال لذكرها، ويعد الشعر وهو ديوان العرب أفضل قناة للتعبير عن هذه الظاهرة، وظهر ذلك في مزاجه وثقافته الشعرية والأدبية التي عكست هذا الشعور، ولنا في نماذج شعرية عليا دليل على ذلك بدءاً بالمعلقات ووصولاً إلى الشعر العربي الحديث الذي زخر بأمهات القصائد التي اتخذت من الحزن مادة لها، وتمثلاته واضحة في تجارب شعراء الحداثة الشعرية الجديدة التي تربط الحزن بالرثاء والتفجع والتأبين والتأسي والفقدان، نذكر على سبيل المثال تجارب كل من بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ونزار قباني ومحمود درويش وكثيرين، وإذا كانت مرارة الواقع وانكساراته وخيباته، تمثل المصدر الرئيس لهذا الحزن× فإنَّ تجارب من نوع آخر استقت أحزانها وأوجاعها من مأساة فقدان الأرض، والتشرد والمنفى، وحين يكون الوطن طارداً لأبنائه، ويكون المنفر هو البديل فإنَّ الحزن يتضاعف ويهيمن على فضاء القصيدة العربية لدى شعراء كان الحزن واحداً من أهم علامات تجاربهم الشعرية.
والقصيدة الطويلة التي هي بين أيدينا الآن (الفرح المتأخر يغمرني) للشاعر العراقي المغترب فارس مطر تضج بألوان وصور وتمثلات شتى لظاهرة الحزن المتشظي على امتداد مساحتها اللغوية وفضائها الرؤيوي، وبالرغم من مفردة (الفرح) التي تتصدر عنوان الديوان تناقض تماماً ما جاء في المتن الشعري، إلاّ أنها تضمر حزناً خفياً يحققه تابعها ونعتها وهو (المتأخر) الذي يعطل إلى حد كبير فاعلية الفرح ويفرغه من محتواه، إذ إنَّ هذا (الفرح) يأتي بعد طول انتظار، وهو ما يقتضي بالضرورة أنَّ الفجوة الزمنية التي سبقته كان يغمرها الحزن والقلق والتوتر، فالذات الشاعر هنا تحتفي على مضض بهذا الفرح الذي يغمرها، وهو بالتأكيد فرح شخصي ناقص، إذ لم يأت في أوانه، ولم يكن ليمثل تجربة القصيدة بعد أن ظل في منطقة الغياب، وظهر متأخراً بعد أن استطاع (الحزن) أن يقضم سنوات العمر المحددة بالرقم (خمسون) وهو زمن الكتابة والاستذكار والاكتشاف والبوح “خمسون رماداً/ العام الأول للهجرة/ نحو مصيري”، هكذا يرثي الشاعر سنوات عمره التي احترقت في لهيب الحروف فأصبحت محض رماد، وما العام الأول للهجرة سوى عام السفر (نحو مصيري) التي تمثل المجهول إلى المنفى، تحمل هذه الجملة الشعرية القائمة على التكثيف والتركيز وجعاً وحزناً كبيرين وتحيل على نحو من الأنحاء إلى الهجرة النبوية وما رافقها من أوجاع وأحزان وخيبات، ويمارس المكان الأول وهو مدينة الشاعر دوراً سلبياً في ابتلاع الأحلام وإنتاج الخيبات، وبعثرت الذات الشاعرة إلى أوراق متناثرة في الريح بدلالتها السلبية “تبتلع الأحلام مدينتنا، وتحيله أوراقاً مشرعة للريح” وتتأكد سلبية رمزية (الريح) بهذه الجملة المشحونة بالسوداوية “اسلم نفسي للريح تشيعني”.
وينمو (الحزن) في تجربة الحرب والموت والمنفى نمواً درامياً حركياً مصاحباُ لقلق الذات الشاعرة وتمزقها وتشظيها في ألـ (هنا) الموصل بوصفها المكان الأول وألـ (هناك) عمان بوصفها المكان الثاني وألـ (هنا) برلين بوصفها المنفى حيث الغربة وأشواكها والحنين وحرائقه.
تنفتح فضاءات الليل على أسئلة الذات الشاعرة بما يعمق ظلال الحزن وخطوطه في مرايا الكلام الشعري إلى الحد الذي يجعله حزناً نبوياً مقدساً “وعيني تعرف كل نجوم الليل/ المفتوح على أسئلتي/ الغبشة تنمو/ تدركني الشمس/ تيبسني/ جسدي المطفأ سماري/ رقم/ طعنات تتكلم/ الليل يا أمي/ والعمر جرار كسرت/ ملفعك الأسود/ حزن نبوي/ لافتة النعي”، وهكذا يتحد الدرامي بالمأساوي في هذا النص، ويغدو الحزن فيه دالاً سيميائياً وشاهداً على مرحلة عصيبة من المراحل التي مرَّ بها الوطن (العراق) وكان فيها الإنسان الشاعر في ورشة متخيله شاهداً وسياسياً ونبياً مخذولاً وملكاً مغدوراً وموتوراً ومقهوراً، وها هو يستعيد الوجه الحزين لأمرئ القيس (الملك الضليل) في بحثه عن الثأر من قتلة أبيه وملكه الضائع ويتطلع إلى صحوة تنقذه من مصيره الأسود فلا يجد في الأفق سوى أشلاء القتلى ولا جواب لصرخته “آية ملكي/ أيقنت/ بصحو أبدي/ فوجدت الموتى حولي/ من يعطيني أجوبة/ لا شيء سوى الأشلاء”، فقد لا ياتي الحزن على نحو مباشر، وإنما يأتي ما يدل عليه ويستدعيه رمزاً أو علامة في التعبير الشعري المتسائل “كيف أغني؟/ في وجهي أكثر من ثقب/صدري أيضاً/ أين الناي ينادمني؟”، فالناي مرتبط بالحزن، ولا تجد الذات الشاعرة ما يناسبها في هذه الحال سوى الناي الذي يحاكي حزنها الشديد، بل ويعمقه ويزيده ضراوة إلى الحد الذي يحيله إلى ضرب من ضروب المازوخية.
الإحالات والمراجع:
[1]() اتجاهات الشعر العربي المعاصر، إحسان عباس: 111.
[2]() الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية: 267.
[3]() دير الملاك: دراسة نقدية في الظواهر الفنية في الشعر العراقي المعاصر: 75.
[4]() دير الملاك: دراسة نقدية في الظواهر الفنية في الشعر العراقي المعاصر: 75.
[5]() الأصول الدرامية في الشعر، جلال الخياط: 6.
[6]() معالم جديدة في أدبنا المعاصر، فاضل ثامر: 367.
[7]() الأصول الدرامية فقي الشعر العربي: 115.
[8]() الحركة الشعرية في فلسطين المحتلة (1948-1975): 313.
[9]() الشاعر العربي الحديث مسرحياً، محسن أطيمش: 262.
[10]() صلاح عبد الصبور من الغنائية إلى الدراما، فاضل ثامر، مجلة الآداب، العدد (3) لسنة 1967: 37.
[11]() قضايا الشعر المعاصر: 223.
[12]() النقد الأدبي الحديث، محمد غنيمي هلال: 405-454.
[13]() نازك الملائكة (الكتاب الذهبي)، إعداد: علي الطائي: 34.
[14]() البيان الشعري، فاضل غزوان وآخرون، مجلة شعر 69، بغداد، العدد الأول، لسنة 1969: 14.
[15]() أدوات جديدة في التعبير الشعري المعاصر، الشعر المصري أنموذجاً، على حوم: 177-178.
[16]() تمظهرات الشكل السيرذاتي، د. محمد صابر عبيد: 173.
[17]() الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية: 285.
[18]() الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية: 248.
[19]() ؟؟.
[20]() ؟؟.
[21]() ؟؟.
[22]() جريدة الشرق الأوسط، حوار مع د. حاتم الصكر، أجراه حسن جوان، 14 نيسان 2022، العدد (5380)، ص 18.