أدب

أوطان المفعول بهم في أدب وحيد الطويلة

الإله فيلليني يخرج من باب الليل، تاركًا وقع حذائه!

بقلم: محمد سمير ندا

تنويه|”كتابة طويلة عن وحيد الطويلة؛ أنصح أصحاب رصيد الصبر المحدود بعشرة أسطر بعدم القراءة”

   من يقرأ للكاتب المصري القدير وحيد الطويلة، يميّز فورًا أنه ساقطٌ في شرك لا يَسهل الفكاك منه، ومن يستمع إلى عباراته التي تصهر الضمائر في صوتٍ وحيد، صارخٌ ومبحوح، يُدرك أنه يستمع إلى نغمة جديدة، مُختلفة عن كل المعروض في أسواق الطرب والأدب. ولعلّ اختلاف كتابة وحيد الطويلة عن معاصريه، وعن أساتذته وتلامذته على حد سواء، يرجع إلى مجموعةٍ من العناصر التي أختزلها إذ أقول؛ جرأة الاقتحام، وشجاعة الطرح على تمويهاته المكشوفة عمدًا، وألعابُ الضمائر التي ترمي إلى استخلاص صوت الضمير من زحمة الكلام، وتخقيق الوحدة بين القارئ والنص كواحدٍ من شخوصه.
لا يمكن هنا الفصل بين القارئ والمكتوب، وإن كان وحيد الطويلة حاضرًا في نصوصه، فهو بهذا يؤدي مهام مُخرج يوجّه القارئ ليتفاعل ويتماهى مع الشخوص، لذا فحضوره في طيّات حكايته واختباؤه في هوامشها وحواشيها، ليس من باب فرض الرأي وتمرير أيدولوجيته الخاصة على حساب المتن، إنما هو حاضر كشاهد عيان، ومدير تصوير، وربما كمحامٍ يزجُّ موكليه في قفص اتّهامٍ شيّده بقلمه، ثم يهبّ واقفًا أمام القارئ/القاضي، ليصرخ باعتزاز وتحفّز “حاضر عن المتهمين”!

    “إلى الذين صرخوا ولم يسمعهم أحد، وأيضاً؛ الذين لم يستطيعوا أن يصرخوا”، بهذه العبارة يفتتح وحيد الطويلة روايته حذاء فيلليني، لكن الواقع يؤكد أن كل رواياته صالحة لأن تبتدئ بذات الاستهلال، حتى في “جنازة جديدة لعماد حمدي” التي أستهلها بعبارة تقطر سخرية وألمًا “إلى المسجلين خطرًا، تصحبكم السلامة”، وفي باب الليل التي أهدى افتتاحيتها لابنته التي تحبه أكثر من رئيس الجمهورية، أيّة جمهوريّة؟ لا يهم! فوحيد يسعى إلى إثبات أن الوحدة العربيّة لم تتحقق إلى في توزيع أنصبة القهر بالتساوي بين الشعوب.
     عوالم وحيد الطويلة تعكس زيف الواقع وهشاشته الزجاجيّة، كأنما يصحبنا العم وحيد، في كل رواية، ببسمته الراسخة وانفعالاته الآنية الصادقة، وقبعته الفيللينيّة، إلى عوالم تتراص فيها بيوتُ شُيّدت من زجاج، تكفي طرقة واحدة على جدرانها لتحيلها هشيمًا، كاشفة عن عورات الحياة الحقيقية، وسوءتها المقدّسة، في جوف كل بيت، وفي قلب كل إنسان.
الشخوص في حكايات الطويلة حفنة من المهزومين، لا يُمكن أن نُحيل تلك الملاحظة إلى إفراط الكاتب في التشاؤم والسوداويّة، بقدر ما تُمثّل تلك الحكايات -في مجموعها- صفعة هادرة تحيل قارئها إلى الواقع الذي يغض عنه العقل.
     في “باب الليل – منشورات ضفاف – ٢٠١٣”، حيث “كل شيء يحدث في الحمّام” – والحمّام هنا رمزيّة قُصد بها الإشارة إلى بيوت الليل وأبوابه المُشرعة في وجه راغبي الهروب من كآبة الواقع – يزاوج الطويلة بين المقاومة المنبطحة وبائعات الهوى، ويخلق حالة بديعة من التناص بين فتاة الليل، والمناضل الحنجوري، بين الفتوحات والانتصارات في الأسرّة، والهزائم المتتالية التي دقّت، ولم تزل تدق رؤوس العرب.
    بمنهجه السردي الخاص، يصطحب الطويلة قارئه، داعيًا إياه ليرافقه. يسحبه من يده، يُجلسه إلى طاولة فارغة، ثم يجلس في كرسيّ مجاورٍ، ليحكي، يخاطبُ القارئ ويناديه، لا يُفصح عن شخصيّته التي يعرفها القارئ منذ البدء ضمن اتفاقيّة التواطؤ غير المُعلن بين الكاتب وقرّائه، يتصفّح الوجوه رفقته، هذا أبو شندي، وذاك أبو جعفر، وتلك نعيمة، وهذه ألفة، أما هذا فشادي، وإلى جواره ترى فاروق إنجرام، ثم تتوالى الحكايات جاعلة من العالم فراش كبير تحرّكه الغريزة، أيّة غريزة يعني؛ شهوة الجنس أم السلطة؟ لا تسأل هذا السؤال! فالواقع أنهما سيّان، لأن الناتج صفريّ! بيد أن الهزائم تشحذ فوران الأجساد، فتهرع إلى بوابات الليل، فهل للعربي من نصرٍ لا يتحقق سوى في الفراش؟ ومن أين له بفتح مبين سوى في صفحات تاريخٍ كتبه منتصرٌ أعور، أو بين أحضان امرأة تتظاهر بالاستمتاع؟
    باب الليل -إذن- هو عين سحريّة على الحقيقية، هي رواية أشبه بصندوق الدنيا، يصوّب الصبي بصره إلى جوف الصندوق الأسود، فيشاهد الصور الملونة تتحرك وتنساب متراقصة على مقام موسيقيّ ثابت لا يتغيّر، ففي بطن الصندوق عالم كامل، لا يتكشّف إلا بعبور باب الليل، أو عينه السحريّة، هكذا يشيّد الطويلة عالمه الرخو من حجارة طينيّة لا تجفّ، الكل هنا مهزومون لحساب السيد الرئيس في مباراة بدأت بنتيجة مُسبقة، الشاشة تعرض عدد سنوات القهر في خانة الحاكم، وصفرُ الشعوب ثابت لا يُكشط ولا يُستبدل، فالحُكّام لا يُطلقون صافراتهم عندما تُعرقل الشعوب، والشعوب لو احتُسبت لها ذات سهوٍ عشر ضربات جزاء أمام مرمى السلطة، لما جرؤ واحدٌ على التقدم لتسديدها، وإن أُجبِرَ مسكين أو متواطئ على التسديد حفظًا لماء وجه المتابعين في شتّى أقطار العالم، فإنه يسددها، بإحكام بالغ، خارج ملعب المباراة.
    الجنس واللهو والسُّكر وكرة القدم، مخدّرات الشعوب التي تحرص الأنظمة على توفّرها طوال الوقت، فمن دونها -ربّما- ينتبه الناس إلى أمور لا يحقّ لهم متابعتها أو مناقشتها، كالشأن السياسي والفساد وتقسيم المجتمع إلى طبقات سياديّة وغير سياديّة، أو الانتخابات البرلمانيّة والرئاسيّة والعياذ بالله، هذا ما يقوله الطويلة بين أول صفحات باب الليل وآخرها، هذه هي الرسالة التي يوثّق بها أبطاله المهزومين، أو المنسحبين إلى الداخل، المناضلون الفلسطينيون، أو من حُرم منهم من حق العودة إلى بيروت التي أُجبرتْ على لفظه مطلع الثمانينيّات، إنما هم أطلال رجال هزمتهم صراعاتهم الداخليّة قبل العدو المحتل، يمرّرون أيامهم في استدعاء أيّام النضال، وتصوّر انتصارات لم تتحقّق، يفرغون شحنات الانكسار في كؤوس الخمر وأجساد النساء، وكذلك يفعل الفارّ من العراق بعد سقوط صدّام وحزبه البعثيّ، والمصريُّ الذي انخرط في المقاومة في بيروت.
   في غمار ذلك، يرصد الطويلة المجتمع التونسي من خلال القاسم المشترك الأعظم بين تونس وسائر ديار العرب، وهو ما ذكرتُه قبل عدّة أسطر، الشعبُ مشغول بالإكراه بأمور تحدّدها السلطة، النساء يقاومن القهر بقنص الفرص من فتات الأجساد ونُثارها في طيّات الفُرُش.
    الشخصيّات هنا -كلها- نطفٌ ألقاها الطويلة في فضاء من عدم، يتحركون بشكل تلقائيّ لا إرادي، تتقاذفهم المسارات فيتخبطون بين جدران الحكاية، لا شخص هنا يمتلك إرادته، لا أحد يشارك في تحديد مساره، الكل ماضٍ في طريق لم يخترها، كأنهم مجموعة من الحيوانات المنويّة إذ تتسابق في نفق مظلم لا تُدرك ما ينتظرها في نهايته، يخوضون سباقًا لا يعرفون دوافعه لكنهم يواصلون الحراك، وهو حراك بلا طائل، وسباق بلا منتصر، فواقع الأمر أن الفائز منهم خاسرٌ؛ بقدومه إلى عالم لن يمنحه أي جديدّ.
يخطئ الظانّ بأن وحيدًا قد أساء إلى تونس التي لجأ إليها مُكرهًا – وهذا أمر يطول شرحه وأرى أن الاستفاضة فيه تُخرجني عن سياق الكتابة – فما تونس هنا إلا نموذج، تونس هنا استعارة مكنيّة، عندما نقول مات العرب، فقد شبهنا العرب بإنسان حذفناه من الجملة لتحقيق البلاغة المرجوّة من الاستعارة، وعندما يرسم الطويلة لوحته في تونس، فهو يلوّنها بألوان الأعلام العربيّة كلها.

     نحن إذن أمام كاتب مهموم بالقهر العربي-العربي، لا ينشغل وحيد بتتبع أذيال المؤامرات الدولية والكونيّة على العرب، ولا ينكرها في ذات الوقت، لكنه ينزّ ألمًا وتقطر حروفه بسواد الحداد إذ يسلط كاميرته ذات الزوايا المراوغة إلى قهر العربي للعربي، واستباحة الحكام للشعوب، وكلما صوّب وحيد قلمه متعدد اللهجات والتقنيّات إلى حكاية كهذه، علت صراخاته، وجعل شخوصه يستغيثون بالقارئلكي يهب لنصرتهم ونجدتهم.
لذلك، فالقارئ في روايات الطويلة هو بطلها الأول، أو بطل مُشارك على أقل تقدير.

    في فيلم “صوت القمر” لفريدريكو فيلليني، تقول الجدة لحفيدها “إيفو”؛ إن الذكرى أجمل بكثير من الحياة نفسها. ويقول فيلليني في افتتاحية رواية حذاء فيلليني (منشورات المتوسط -٢٠١٦)؛ “اسحب ذيلاً قصيرًا، فقد تجد في نهايته فيلاً”! هذان المقطعان تحديدًا يمرّران الكثير عن عقليّة فيلليني الذي حلّـت روحه في جسد وحيد الطويلة ليكتب حذاء فيلليني، فالمقطعان يحيلان الحياة إلى ثنائية أثيرة؛ الحنين/الذاكرة، ثم الفضول/الدهشة، ومن خلالهما يمكن متابعة وحيد الطويلة إذ يرتدي قبعة فيلليني ويفتح الستار أمام جمهور هذا النص، الصرخات المكتومة في باب الليل، وآهات الحسرة المختبئة وراء تنهيدات اللذة الزائفة، تنسرب تدريجيًّا إلى حذاء فيلليني ذي الوقع المهيب، وتعلو مصحوبة بموسيقا نينو روتّا.
     يُغيّر وحيد الطويلة خطّه في أثناء الكتابة، اللغة التي أعتبرُها معطف الحكايات تتبدّل بألوان ومفردات مختلفة بين نص وآخر، الذاكرة هنا خزّان صدئ لا ينضب منه الحنين، والفضول يستولي على القارئ منذ المشهد الأول للتعرّف على الحياة الحقيقية لـ “مُطاع”، ذاك الشاب الذي تنوء ذاكرته وتتداعى بين لطمات الواقع المُدهش بقسوته، والحنين الديمومي إلى السلام والسكينة، والأمل في استعادة ذاكرته الضائعة في ردهات ماضٍ ما عاد يعرف إليه السُبل.
    تعتور مُطاع -بشكل شبه كلّي- حالة من عدم القدرة على الفهم والتبرير ومنح التفاسير لنفسه عما آلت إليه أموره، وما نتج عنه تغيير اسمه من مُطاع إلى مُطيع، يعاني خللاً معرفيًّا تفرزه صعوبة الفهم وترتيب المعطيات وصولاً إلى النتائج والبراهين، وترنّح القدرة على الإلمام بالتفاصيل المحتجزة في ذاكرة حُدّدت إقامتها في قبو عُذّب فيه لسبب لا يعرفه. مُطاع/مُطيع، إذن، يمثل هنا نموذج المواطن العربي الذي حُجبت عنه المعرفة العامة والذاتيّة على حدٍ سواء، ونُفث في عقله الضباب طيلة عقود الاستعباد والقهر.
     وكما جعل الطويلة من تونس مسرحًا مكانيًّا لباب الليل، فقد قفز به حذاء فيلليني إلى سوريّة، ليصنع منها النموذج الشامل والجامع للنظم العربيّة، متلاعبًا بقارئه بين التمويه والإفصاح تواليًا، فهو يعلن على لسان مُطاعه أن الأوطان العربيّة كلها سواء، ثم يُحيله إلى القسوة الوحشيّة لنظام حافظ الأسد، قبل أن يعود ليُضمّن مفردات وتعابير مصريّة ومغاربيّة في المقاطع الحوارية النادرة في هذا النص، كما يمارس اللعبة ذاتها مع الزمن، فبينما كان زمان مُطيع محتجزًا بين الراهن/ما بعد الصدمة، والماضي/زمان القبو، فقد كان زمن الرواية مُخاتلاً يقفز بين مجزرة حماة والقرن الحالي.

   عبقرية حذاء فيلليني حسب رأيي، إضافة إلى قوة الطرح الأشبه باقتحام الجسد العربي وإظهار كل ما هو غير معلن من أفكاره، والكشف عما يضطرم في وجدانه من عجز وحيرة وقهر، وآثار ما بعد الصدمة الممتدّة بعمر الصدمات المتتالية في أقبية الحُكّام العرب المسمّاة -من باب التجمّل- بالدول العربية، هو قدرة فريدريكو الطويلة، أو وحيد فيلليني، على الكتابة بكاميرا العبقري الإيطالي نفسه، لقد تماهى الكاتب هنا مع المخرج الشهير فبرع في كتابة حكايته بعين سينمائية لاقطة، مارست ألعاب الكادرات والزوايا الفيللينيّة المحيّرة للوهلة الأولى، المعبّرة عن نفسها حدّ ملامسة أطراف النخاع الشوكي حال تأملها.
     ولعلّ السؤال الذي قد يطرحه قارئ هذه الكلمات، ممن لم يقرأوا حذاء فيلليني، هو؛ ما الذي أعنيه بالكتابة بعين كاميرا فيلليني؟!
تصوّروا معي كاتبًا يقتل الراوي العليم منذ السطر الأول، ثم يستبدل الحوار بالمونولوج الداخلي للشخوص، ليمنح كل شخصية – خصوصًا في الثلث الأخير – مساحة للتحدث بضميري المتكلّم والمخاطب، ألعاب الضمائر مستمرّة في أعمال الطويلة في العموم، ففي باب الليل؛ وقف الكاتب كشاهد غير مشارك في صنع الحدث، متوجهًا بحديثه/حكاياته إلى القارئ طيلة الوقت، لكن زخم المونولوجات في “حذاء فيلليني” منحها طابعًا سرياليًّا يسبح بالحدث فوق الواقع، وربما يخترقه ليزاوج بين الحلم والحقيقة، فكل ما نقرأه في حذاء فيلليني قابل للتأويل، والحكاية برمتها تتأرجح بين الثبوت والإنكار.
هكذا: نتتبع خيوط الحكاية كلها عبر التجوّل في عقول الشخوص، من دون أدنى وصاية من الكاتب، أو من الراوي العليم كما هي عادة الرواية العربيّة المعاصرة (أغليها وليس كلها).
هل انتهيت؟ ليس بعد، فقط تصوروا معي أن تزاوج بين كل ما سبق، وخفة الظل والكوميديا السوداء!

    الشخوص في حذاء فيلليني، كما هم في باب الليل، مهزومون بالوراثة، مُطاع/مُطيع في مرحلتيه قبل وبعد الاعتقال، زوجة الضابط التي انتهكها لسنوات طوال بأبشع طرق المعاشرة الحيوانية، الجارة التي فرّت أحلامها كالحمام الذي تُمنع تربيته فوق الأسطح كي لا يستخدم في التواصل بين أعداء الأمة، الأب الذي زُفّت روحه إلى السماء مطوّقة بريش الدجاج، وحتى الضابط نفسه، إذ يبدو في مونولوجه الخاص كشخص أُجبر على تأدية دور الجلاد، وآمن بأنه يحمي الوطن من الشراذم والخونة.

    يخلق وحيدة الطويلة في هذا النص الساحر، حذاء فيلليني، مُقابلة صادمة بين جمالية كاميرا فيلليني، وقبح الواقع العربي غير المعلن عنه (وإن شاعت آثاره وتوارثتها الأجيال)، يرصد النتائج في منأى عن بؤرة الحدث، لا يكتب حكاية كرونولوجيّة ولا يدفع الأحداث تجاه ذروة ما، إنما يصوّر المشاهد بأعين الشخوص ويستخرجها من عقولهم الملجومة بالصمت الفطريّ، يشرّح الجانب النفسيّ واللا شعوري بمهارة جرّاح مكين، يستخرج من وجدان القارئ مشاعر وحقائق لم يكُ يدرك وجودها؛ الألم… القهر… الخوف… الهزيمة… الانسحاق… التفاهة… الاستسلام. ينزع من جوف القارئ أكثر من ظل، يعلقهم أمامه في غرفة تظهير وتحميض الصور، ثم يتركه لكي يشاهد ظهورها وتجسّدها، تدريجيًّا…

     أظهر وحيد صديقه فيلليني كربّ للصورة والكاميرا، وأظهر الحاكم كربّ للشعب، ثم منح ضابط التعذيب ربوبيّة تؤهله لإنزال العقاب وتبديل المصائر (ملاحظات الربوبية والآلهة الثلاثة لفتت نظري لها الروائية والصديقة ريما بالي خلال مناقشة الرواية في نادي صُنّاع الحرف بحضور العم وحيد)، لا يُمارس الكاتب هنا دوره الربوبيّ في الخلق وتحديد المصير، بل إنه عوضًا عن ذلك يستدعي فيلليني بشحمه ولحمه لتصوير أكثر من نهاية للحكاية، وهو بذلك يتنازل عن ربوبيّة الكاتب أولاً لـمُطاع/مُطيع، ثم للقارئ نفسه كي يختار النهاية التي تتسق مع نظرته للأمورّ.
    شجاعة قلمّا امتلكها كاتب عربي بمنتهى الإنصاف، ودعوة مبطنة إلى كسر حلقة العنف والعنف المتبادل، فمطاع، المعالج النفسي الذي بات مطيعًا بعد تعذيبه لسبب هو في الواقع محض مصادفة، يجد نفسه أمام جلاده قرب النهاية، فالجلاد أُحيل للمعاش، والمعاش أحاله إلى عجز جنسي، فانتحت دماغه جهة اليسار، وما عاد قادرًا على إعادتها إلى وضعها الطبيعي؛ فهل من ثمّة شيء طبيعي في هذه الحياة؟ أيعقل أن نبحث عن الحقيقة في وطن تُجبر فيه النملة على كتابة قصة حياتها سبع مرات؟
فهل يقدر المواطن المسحوق على تأدية المهمة الربوبيّة التي تُوكل إليه فيُنزل العقاب بالجلاد؟ هل يجرؤ؟ وهل يُمعن في الانتقام لو أمن العقاب والمساءلة؟ أم أنه يُشرع باب التسامح والعفو عملاً على وقف النزيف؟
السؤال الأهم هنا، بخلاف سؤال التسامح المزنّر بآمال الوفاق، هل يقدر المواطن العربي -المُثخن بندوب ولد بها، وندوب أخرى قبل بمراكمتها في روحه- على تأدية الدور الربوبيّ الذي منحه إياه الطويلة بتوصية من صديقه فيلليني؟

رمزيّة فقدان القدرة على رفع الصوت: عجز واستسلام.
رمزيّة حظر تربية الحمائم: قهر وخوف وارتعاش.
رمزيّة التواء العنق: هزيمة فانسحاب وإنكار.
رمزيّة النهايات الثلاث؛ حريّة وأمل للشعوب.
رمزيّة العنف الجنسي؛ استباحة الأوطان وسيكوباتية السلطان.
     أما رمزيّة الجسد في أدب الطويلة، فهي طاغية بحضورها، الجسد لدى وحيد، مسرح وأداة، كرة ومرمى، هدف وبلاد تنثني حدودها وتتمايل، أما المرأة فهي وطن يرثى له، وعاء الانتهاك/الانتقام الأزلي، والبرهان الدائم على بهتان المنطق البطريركي، المرأة في أدب وحيد؛ سبورة قديمة ندوّن عليها نتائج خساراتنا الفادحة وانتصاراتنا الهزيلة، لكننا مهما حاولنا إزالة آثار نتائج الأمس عنها، احتفظت منها بأثر لا يمّحي.

     أعود مرة أخرى إلى صوت القمر، آخر أفلام فيلليني المعروض سنة ١٩٩٣، حيث يتمكن ثلاثة رجال من اصطياد القمر ذات غفلة من السماء، ثم حبسه في غرفة أشبه بالقبو؛ يحملُ مشهد الختام -العبقري- دعوة من القمر المُختطف إلى واحدٍ من مُختطفيه، بأن يحاوره، فتبتلعهما ثرثرة تستمر في رأس المشاهد عقب كلمة الختام. ذلك هو الأثر الذي تتركه روايات الطويلة، النهايات المُشرعة على تأويلات لا نهائية، المقاطع/المشاهد التي لا تبوح بمكنونها ببساطة، المونولوج المستمر في دماغ القارئ/المشاهد/الشخوص.

إن نصوص وحيد الطويلة تعمل على تعويض القارئ عن كل حرّية سلبت منه، تمنحه حق اتخاذ القرار وتقرير المصير، رواياته تناقش بجرأة نادرة وقائع المفعول بهم في الأوطان العربيّة، تحاول أن تدفعه لتأدية دور الفاعل، نصوص تحريضيّة؟ طبعًا، فما قيمة الأدب لو لم يكن تحريضيًّا؟ ولو لم يدرك القارئ أزمته كعربيّ بعد قراءة روايتين مثل باب الليل وحذاء فيلليني، فنحن -إذن- لم نعد بحاجة إلى كاميرا فيلليني التي تزاوج الواقعيّة الفجّة بالسرياليّة الخدّاعة، إنما نغدو في حاجة ماسة إلى كاميرا إيطالي آخر، هو تينتو براس!

     أخيرًا، تركت قبعة فيلليني في المقهى، غادرت باب الليل وقد استعدتُ قوة البصر فما عدت في حاجة إلى ارتداء النظارة، قررت أن أعاود تربية العصافير، شاهدت أكثر من فيلم لفيلليني، لكن مطاعًا لا يغادرني، وأبو شندي لا يتوقف عن مطاردتي مُصرًّا على تلاوة حكايته مرة أخرى، اشتقت إلى نعمة، وجارة مُطاع، لكن وقع حذاء الضابط/الحاكم/الإله المفوّض، ما زال يطرق أبواب عقلي، خوفي من ملامسة كل كل له علاقة بالكهرباء يجعلني في حيرة دائمة، أشعر بألم مضطرد في ساقي، أبحث عن ألفة فأراها تجالس أبا جعفر، تنطلق صافرة أحد المخبرين، فأسدد ركلة الجزاء في وجه فيلليني الجالس في المدرجات، أتحسس قفاي كل برهة، فأفتقد نظارتي، أستمع إلى موسيقى روتا، وفي أغلب الأوقات، تمتص وسادتي دموع كل المهزومين الذي غرسهم الطويلة في عقلي، لكنها لا تمتص شعوري بالمهانة، فأنا بدوري، مثلهم جميعًا؛ مفعول به!
عزيزي القارئ، قل: آاااااااااه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى