مقال

معاش الحاج سردينة

علي جبار عطية| كاتب صحفي عراقي

      أثيرت قبل أيام في مصر ضجةٌ في مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى الفضائيات بعد الإعلان عن توقف صرف الراتب التقاعدي أو حسب تعبير المصريين (المعاش) للفنان عبد الرحمن أبو زهرة !

      كان إيقاف المعاش مناسبةً لكاتب السطور للعيش في أجواء هذا الفنان الراقي بحضوره الطاغي ، وتذكر بعض أعماله، وتلمس أخذ العبرة !
لقد استرعى خبر إيقاف المعاش اهتمام أعلى المسؤولين فقد أجرى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اتصالًا هاتفيًا بالفنان عبد الرحمن أبو زهرة، مؤكدًا تقديره لما قدمه من عطاءٍ فنيٍّ وثقافيّّ على مدى عقود، ثمَّ تحرك الدكتور أشرف زكي نقيب المهن التمثيلية وسعى إلى حل المشكلة بالتنسيق مع الهيأة القومية للتأمين الاجتماعي التي اعتذر رئيسها اللواء جمال عوض في برنامج (في حضرة المواطن) عما حدثَ من خللٍ تقنيّّ ناتجٍ عن عدم تسجيل الرقم القومي لبعض الحالات القديمة ضمن قاعدة بيانات الهيأة، مشيرًا إلى أنَّ بعض هذه الحالات تعود لسنوات الستينيات والسبعينيات، مما أدى إلى تعذر الربط الرقمي الحديث معها مقرًا بأنَّ ما حدث هو خطأ غير مقصود، وقدم اعتذارًا رسميًا للفنان عبد الرحمن أبو زهرة ولكل المتضررين من إيقاف المعاشات الذين يبلغ عددهم ثلاث مئة وخمسة وعشرين شخصًا ممن تجاوزت أعمارهم التسعين عامًا بسبب غياب أرقامهم القومية عن النظام الرقمي الجديد من مجموع أحد عشر مليون مستفيد من المعاش ! مشيرًا إلى أنَّ المشكلة تم حلها فورًا مؤكدًا احترامه وتقديره للفنان عبد الرحمن أبو زهرة، وأرسل وفدًا من الهيأة إلى منزل الفنان لتقديم الاعتذار بشكلٍ مباشرٍ، مصحوبًا بباقة ورد.
لقد ارتبط اسم الفنان عبد الرحمن أبو زهرة بقوة الأداء، والتلوين الصوتي، وسلاسة نطق اللغة العربية، وعلى الرغم من أنَّ أدواره ثانوية فإنَّه يترك بصمةً في كل عملٍ يشترك فيه ففي أكثر من ثلاث مئة عمل في المسرح والإذاعة والتلفزيون والسينما، استطاع أن يعطي للشخصيات التي يقدمها رغم صغر مساحتها قيمةً وتأثيرًا في داخل العمل ففي مسلسل (لن أعيش في جلباب أبي) قدم شخصية المعلم (إبراهيم سردينة) فأبدع في تقمص شخصية تاجر الخردة الناجح الحكيم الذي تعلم الحكمة من خلال التجارب والعمل لا من خلال المدارس، وكان حضوره في أي مشهدٍ لافتًا وسارقًا للضوء، كذلك دوره (موسى) المميز في فيلم (أرض الخوف)للمخرج داود عبد السيد الذي كان فيه ندًا لبطل الفيلم أحمد زكي.
ومن أشهر الشخصيات التي قدّمها أيضًا شخصية الحجّاج بن يوسف الثقفي في المسلسل التاريخي (عمر بن عبد العزيز) بامتلاكه المفاتيح الخاصة بالشخصية السفاكة للدماء، كما قدم أدوارًا مهمةً في أعمال درامية مثل (الملك فاروق) و(من أطلق الرصاص على هند علام) و(العميل ١٠٠١) ، و(جحا المصري) و(نحن لا نزرع الشوك) ، وقدم شخصية (أبو عز الجبلاوي) في (كلبش ٢)، وفي السينما، شارك أبو زهرة في أفلام (بئر الحرمان) و(الجزيرة) و(الحاسة السابعة) و(حب البنات) ، بجانب تقديمه لشخصية الرئيس المصري الراحل (محمد نجيب) في فيلم (ناصر).. أدوار لا يمكن إلا أن تبقى في الذاكرة مدةً طويلةً.
تُروى سيرته كنموذج للنجاح الذي يجيء على مراحل، فقد رأى النور في محافظة دمياط سنة ١٩٣٤م،وكان خجولًا،ومثابرًا في مراحل دراسته، وقد ظهرت موهبته بتقليد المدرسين،والتحاقه بمسرح المدرسة.
وحصل على الميدالية الذهبية كأفضل طالب ممثل على مستوى الجمهورية، وقد درس التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية، وحصل على البكالوريوس سنة ١٩٥٨م، وعُيّن بعد تخرجه من المعهد بعام ممثلًا في المسرح القومي.
بدأت علاقته بالمسرح بمسرحية توفيق الحكيم (عودة الشباب) ، ثمَّ (أقوى من الزمن) و(قريب وغريب) وتتلمذ على يد كبار نجوم المسرح في الخمسينيات في العصر الذهبي للمسرح متميزًا عن زملاء جيله في ذلك الوقت أبو بكر عزت، ويوسف شعبان ورجاء حسين، ورشوان توفيق، وكان معروفًا بالانضباط والحفظ السريع، وهو ما أتاح له فرصة الحصول على أول بطولة مطلقة حين اعتذر الفنان عمر الحريري عن بطولة مسرحية (بداية ونهاية) ليقدمها أبو زهرة بدلًا منه، وتكرر الأمر بعدها ليحصل على البطولة الثانية في مسرحية (المحروسة) لوفاة بطل المسرحية صلاح سرحان فتم إسناد البطولة له.
أجاد عبد الرحمن أبو زهرة اللغة العربية كما كانت لديه القدرة على التلوين الصوتي،وشارك في العديد من الأعمال الإذاعية المأخوذة عن الأدب العالمي، مميزًا في عالم الأداء الصوتي.
شارك أبو زهرة بفيلم (علاء الدين) في عام ١٩٩٢م، وبعدها بعامين شارك أيضًا في الجزء الثاني منه ، وجسد الشخصية الأشهر له في عالم الرسوم المتحركة هي الأسد (سكار) الذي قتل موفاسا ليستولي على حكم الغابة في فيلم (الأسد الملك) من إنتاج شركة ديزني ١٩٩٤م، ونجح في تقديم شخصية سكار بخفة ظل على الرغم من كون الشخصية شريرة !
تحدث عبد الرحمن أبو زهرة في مقابلة له مع إسعاد يونس ببرنامج (صاحبة السعادة) عن أدائه لدوبلاج شخصية (سكار) في فيلم (الأسد الملك) ، وحكى عن حصوله على إشادة خاصة من شركة ديزني واختيارهم له كأفضل ممثل قدم صوت الشخصية في النسخة المدبلجة من بين اثنتي عشرة لغة ترجم إليها العمل ، مشيرًا إلى أنَّ أداءه هو الأبرز، وجعل الشخصية أكثر إبهارًا مما كان متوقعًا ، وكافأته الشركة بألفي دولار أمريكي ، وأشاد أبو زهرة بأغنية (استعدوا) التي ترجمها عبد الرحمن شوقي، وأنَّه أعاد تسجيلها أكثر من مرة بسبب عدم اقتناعه بالنتيجة النهائية بعد سماع التسجيلات.
وعُرض له في عام ٢٠٢٠م فيلم (الفارس والأميرة) ضمن فعاليات مهرجان الجونة السينمائي.
نجاحه في الفن يعززه نجاح واستقرار أسري فهو متزوج من الفنانة الكاتبة سلوى الرافعي، وله ثلاثة أبناء (سحر) ومتزوجة من الفنان مفيد عاشور، وابنته (د. مي) وتدرّس في جامعات بكندا، وابنه (أحمد) عازف البيانو الذي يشارك في أوركسترا برلين العالمي، حيث يقيم في مسقط.
في عام ٢٠٢٠م ظهر في برنامج (إستوديو التاسعة) الذي يقدمه الإعلامي وائل الأبراشي معلنًا عن إصابته بالاكتئاب، وتفكيره بالاعتزال مؤكدًا أنَّ السبب هو تجاهل المخرجين، وأنَّ الأدوار التي تعرض عليه بالسنوات الأخيرة ما هي إلا أدوار شرفية لا تليق بموهبته أو بتاريخه، وإنْ كان قد وافق عليها قبل ذلك لاستمرار حضوره على الساحة، إلا أنَّه لا ينوي تكرار ذلك بعد الآن، مطالبًا المخرجين بأن يعاملوه كالوجوه الجديدة التي يمنحونها مساحات وأدوارًا كبيرة رغم قلة خبرتهم.
قال:(أنا اشتغلت في الفن لمدة ٦٠ عامًا، حققت فيها جميع الأدوار، اعتبروني وجهًا جديدًا وجربوه، يمكن أنفع).وأعلن عن رغبته في أداء دور كوميدي، معربًا عن إجادته للكوميديا وأنها وحدها التي ستخرجه من الاكتئاب.شارك بعدها أبو زهرة في عدد من الأعمال منها (هجمة مرتدة) و(موضوع عائلي) .
أصيب عام ٢٠٢١م بكسر وشرخ في مفصل الحوض، وخضع لعملية جراحية عاجلة، وتلقى بعدها جلسات العلاج الطبيعي ليسترد قدرته على المشي.
وشارك في حفل ختام مهرجان القاهرة السينمائي في الدورة الثالثة والأربعين، بجانب أبرز نجوم وصناع السينما في مصر والوطن العربي.
وبعدها بأسابيع قليلة خضع أبو زهرة للعلاج من فيروس كورونا بالمستشفى للعلاج، ليعلن نجله أحمد بعدها بأيام تماثل والده للشفاء وعودته إلى منزله سالمًا .
لكنَّ الجيل الجديد من الممثلين له رأي آخر فقد شنت الممثلة عفاف مصطفى هجومًا على أبو زهرة عبر منشور على حسابها الشخصي على فيسبوك، إذ صرحت بأنَّه اعتاد توجيه الانتقادات اللاذعة للفنانات وخاصة صغيرات السن والمبتدئات، فضلًا عن تدخله في شؤون الإخراج والإنتاج، وهو ما جعله مصدرًا للإزعاج في مكان التصوير.
كذلك أشارت الممثلة معتزة صلاح عبد الصبور إلى تجربتها السلبية مع أبو زهرة مؤكدةً تعمده التنمر عليها، وحسب ابنه الموسيقار أحمد عبد الرحمن أبو زهرة لقناة (صدى البلد) فإنَّ والده يشكو من أنَّ الأيام التي يعيشها حاليًا ليست هي الأيام التي عاشها سابقًا ويقصد غياب قيم الفن الحقيقي من التزام وانضباط، وتقاليد عمل.
المفرح والمثير للدهشة في الأمر أنَّ عائلة الفنان أبو زهرة تجنبه الظهور في الأماكن العامة بناءً على طلبه ليس بسبب أعراض الشيخوخة ونحوها إنَّما لصعوبة مواجهته لمحبة الناس له على اختلاف أجيالهم وطبقاتهم الاجتماعية وثقافاتهم، وهو أكبر تكريم له مما يعني أنَّ الفنان الأصيل الذي يكون صادقًا مع نفسه، ويؤمن بما يقدمه من فن ذي رسالة سيجد آثار ذلك، وصداه بين الناس وإنْ كثر المروجون للغثاء والسطحية والتفاهة والزيف !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى